يحيى السّماوي شاعر يتقن نسج القصيدة على نُول الدّهشة
مَن يقترب من قصيدته عليه أن يخلع أفكاره المُسبقة عن الشّعر ورؤاه فيأتي بذهن صافٍ ليتذوّق قُدسية لغته التي تعجُّ بمباغتات لغوية، صور شعريّة طازجة شهيّة، وألغام زرعها في حدائقه الشعريّة ليُردي القارئ شهيد الدّهشة.
بما أنَّ "العنوان هو النّص المُوازي" كما كتب "جيرار جنيت"، وهو البُنية الرّحميّة التي تُولِّد معظم الدلالات في النّص، فإنّك حينَ تقرأ السّماوي، لا بُدّ أن تصيرَ فَرَاشَة تجذبها "حديقة من زهور الكلمات" التي تعجّ بورود قصائده، فتحتار أيّ زهرة تقف عندها مليا لتتأمل جمالها وترتشف رحيقه !
سعى السّماوي لتأسيس "حديقة شعريّة" أو "مدينة محبة كونيّة"(ص105)هي المدينة الفاضلة للعشّاق الذين يلجؤون لقصيدته للإرتواء من جرعاتها العشقيّة.
منح شاعرنا قصيدته هويتها الأدبيّة فأطلق عليها تواضعا منه اسم: " نصوص نثريّة" بينما هي "ومضات شعريّة" لا يُجيدها إلاّ القلائل من الشعراء الحداثيين، تتألف من مقاطع مكوّنة من (4-2) سطور. كلّ مقطع عبارة عن ومضة شعريّة متكاملة الفكرة أو الصورة الشعريّة داخل قصيدة قد تتألف من مقطعَيْن أو أكثر يجمع بين المقاطع العنوان ويوحّد بين جواهره خيط المضمون، كما ويفصل بين المقطع والآخر فراغ فتبدو كالمتواليات المقطعيّة:
ما دمنا قد أوقدنا نار الخصام
فليرحلْ كلٌّ منّا في حالِ سبيلِهِ
أنا: نحوكِ...
وأَنتِ: نحوي!
(خصام- ص. 47)
*
لأنّها مئذنة
فقد غدوتُ " بلال السّومريّ"
(أنا وهي- ص. 42)
*
كذلك، يلجأ السماوي إلى قفل أغلب مقاطعه بعلامات تّعجُبّ(!) فائضة عن الحاجة. ربما، يستعملها ليُعبّر عن تعجّبه من شتّى الحالات التي وصلنا إليها في عصر القبح هذا ، سواء كانت وطنيّة، سياسيّة أو عاطفيّة.
لكون شاعرنا يتمتّع بثقافة غزيرة الملامح وهذا من إيجابيات كونه في الستين من عمره، فقد إتكأ في شاعريته على شتّى أصناف "حقول المعرفة"، فوظَّفَ التناص الدينيّ بكثرة:
أنتِ
لستِ عصا موسى
فكيفَ لقفتِ
جميعَ ثعابينِ حُزني؟
(أنتِ لستِ عصا موسى- ص. 68)
واستدعى عدّة شخصيات دينيّة، سياسيّة، أدبيّة، تاريخيّة، أسطوريّة.. الخ. كما ووظّف حقل الأبجديّة، والحكايا، والأساطير والتراث والأمثال، فأثرى حديقته الشعريّة بقصائد متعددة الملامح.
من أهمّ سمات الومضة السماويّة، هي الإيحاءات أو الرموز الجنسية(الإيروتيكيّة). فالأنوثة هي التّنور التي تصنع خبزاللذة :
وحده تنورها ما يملأ صحون مائدتي
وليس ما يملأ واديها العميق
إلاّ سيولي
نهرها الممتدُّ من قمّةِ رجولتي
حتّى أخمص أنوثتها
صرتُ
ضفّته الثالثة!
(نهر بثلاث ضفاف-ص34)
وهي النّار، وأنهار الأنوثة، والوادي العميق، والنخلة، ونهداها حمامتان، وهي المِحبَرة، والخمر، وهي التويجة، وهي ماء الحياة:
الأسماكُ تموتُ
إذا لم يُغرقها الماء
فأغرقيني بمائكِ
واغرقي بمائي
(نافذة-ص.54)
أمّا الرَجُولة فيشير إليها برموز: المحراث، والسيول، والنّدى، وصحارى شاسعة، يدا العاشق عُشّ، ومنه المَيسَم، والقلَم:
هل كان قلمي سينجبُ القصيدة
لو لم أَغمسهُ في
محبَرَتِك؟
(رعودك هدهد البشري – ص 72)
*
حتّى محراثي
يأبى تقليبَ الجمرِ
إلاَّ
في تنورك
(عصيان- ص. 77)
*
" السّاعة آتية لا ريبَ فيها"
ساعة اجتماع التُّويجة والميسم
في مزهريّة واحدة!
(سنبلتك لا بيادرهن- ص. 70)
لجأ شاعرنا لهذي الرموز للتعبير عن الأنسجام العشقي والتكامل، وأحيانا يبلغ وصفه ذروة الجرأة:
هذا ما اكتشفته
حين رأيتُ الفَرَاشات
تدخل من شِقِّ قميصكِ
لتخرجَ ثملى
ثمالة شفتيّ المترنحتينِ
كلّما شربتا
رحيقَ ياقوتَتَيْكِ
الحمراوَيْن
وهو بذلك يستدعي للذاكرة قصائد نزار قباني الإباحية.
يظهر العاشق أحيانا كالمستقبِل وأخرى المُعطي:
هو الذي يستقبل خمر أنوثتها بكأس رجولته:
لأشربَ خمرَ أنوثتك
بكأسِ رجولتي
(صَدَقَة - ص. 5)
ويستقبل فاكهتها بصحن الرجولة ، ويستقبل خبز تنورها وأنهارها:
صحاري رجولتي شاسعة
وليس مَن ينسج لها
قميص الخضرة إلاّ
أنهارُ أنوثتك
(أنتِ لستِ عصا- ص. 69)
وهو أيضا المُعطي السيول والأمطار التي تروي أنوثتها.
من سِمات الومضة السماويّة توظيف الإنزياحات الشعريّة
كالإنزياح اللفظي الذي يجعل القارئ يتمهّل ليتأمل التعبير المبتكر ويلتقط أنفاس دهشته:
يوم تسلقت نخلتك قبلة قبلة
(لذّة- ص. 35)
ويكرر ذات الإنزياح اللفظي في صورة شعريّة أخرى:
(نهرها) شربتُه قُبلةً قُبلةً
ذات لقاء
(أنا وهي- ص. 39)
*
كذلك:
قبلَ أن أشربها قبلةً قبلة!
(مئذنة وقبّة محراب-ص. 60)
*
حكايا ألف قبلة وقبلة
(خشوع-ص 75)
*
وبدل أن يستعمل التعبير: عن ظهر قلب، يلجأ للإنزياح اللفظي فيقول:
أنتِ آيتي البيّنة
أرددها عن ظهرِ وجدي
(ص49)
كذلك، بدل التعبير عن الزمن بالأيام، يلجأ للإنزياح اللفظي المبتكر:
منذ أربعةِ أنهار
(وطن_ ص. 51)
فيربط الزمن بالدفق العاطفي ليضيف للصورة الشعريّة بُعدًا آخر.
كذلك:
تصبحين على جنّة
(عيد الأم- ص. 97)
بدل التعبير المتعارف عليه: تصبحين على خير.
*
كذلك يوّظّف شاعرنا الأمثال أو أبيات شعر مشهورة:
آمنتُ أنَّ" القناعة كنزٌ لا يفنى"
(كنز لا يفنى-ص. 38)
مع التلاعب بمفرداتها لخلق دلالات جديدة مُدهشة.
مثلا، بدل الإقتباس الحَرفي لبيتيْ الشعر من لامية العجم للطغرائي: "أعلل النفس بالآمال أرقبها .. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل" يُطوّع شاعرنا البيت المشهور فيأتي به بثوب جديد ليضفي عليه دلالات جديدة:
ما أضيقَ زنزانة الدّنيا
لولا
نافذة الأمل
(نافذة-ص. 53)
كذلك بدل استعمال القول المشهور للفيلسوف الفرنسي ديكارت: " أنا أفكّر إذن أنا موجود" ، قام شاعرنا بالتلاعب بمفرداته :
أنا أحبُّكِ؟
إذن
أنا موجود!
(سنبلتك لا بيادرهن- ص. 70)
وهو بذلك كرر ذات الفكرة التي توصّل إليها بايرون .
*
كذلك أجاد التلاعب بالحروف أكثر من مرّة كما جاء في قصيدة "نقطة" التي أثبت فيها الأهمية الدلاليّة للنقطة فوق أو تحت الحروف:
الأمرُ بسيطٌ جدا
لإخراجِ العَالَمِ
من
قعر " الجُبّ"
فقط: أن نزيل " النقطة"
من
تحتِ " الجيم".
( نقطة- ص 66)
*
ويشير بحرفيّة إلى الحروف التي تُلفظ والتي تكتب ولا تلفظ فيوظّف هذي الخصوصيّة في أكثر من قصيدة. مثلا، المقطع الأول من قصيدة حقل وبئر:
أيّتها الضروريّة لي
ضرورة واو : السمو"
قبلك كنتُ "واو عمرو"
(حقل وبئر- ص61)
أمّا في المقطع الثالث من ذات القصيدة فقد وظَّف كلمة "حبّ" بمنتهى البراعة اللغويّة :
"حاءٌ" حقلي كانَ
بلا معنى
قبل "باء" بئرك!
*
ولغزارة ثقافة شاعرنا ، نراه يوظّف العديد من الشخصيات الدينيّة، السياسيّة، الأدبيّة، التاريخيّة، الأسطورية،في أكثر من قصيدة، ممّا يُضيف لشاعريته أبعادا فكرية وجماليّة:
قيس- ليلى(ص. 95)، أنكيدو(ص. 100)، موسى(ص. 100)، بلال السومريّ(ص102)،عروة بن الورد(ص. 103)، أبو ذر الغفاري(ص. 103)، ابراهيم (ص. 106)، أخوة يوسف(ص. 107)، طائر الفينيق(ص. 81)، شهرزاد -شهريار(ص. 75)، زليخة-يوسف(ص. 55)، زكريا- يحيى(ص. 55)، نوح(ص. 60)، زياد بن أبيه وعمار بن ياسر(ص. 32)...الخ:
أنا
لستُ طائر الفينيق
والعصرُ ليسَ عصر مُعجزات
فكيفَ
أعدتِ رمادَ احتراقي
شجرةً مُثقلةَ الأغصانِ
بعناقيدِ الضَّوءِ
بعدَ طولِ ظلام؟
(كيف حدث ذلك- ص81)
ومن الحكايا، قصص ألف ليلة وليلة:
لكلّ عصر شهرزادُهُ
وليسَ من شهريار
أجدرُ منّي بحكايا ألفِ قُبلة وقُبلة
تقصُّها شفتاكِ
فتصيخُ لهما شفتاي
حتّى يكفَّ العناقُ المباح
فتغفو
(خشوع- ص. 75)
وها هو يتكئ على حكاية رابونزل:
لستُ في قاع بئر
لتمُدّ لي ضفيرتها حبلاً
( ضياع-ص. 37)
*
من سمات القصيدة السّماوية توظيف المتضادات المزدوجة (الكلمة وعكسها) بكثرة:
مذ خرجتُ
من جنتي المزدحمة
بالشياطين
داخلا جحيمها المليء بالملائكة
وأنا
طفلٌ في السّتين
(نهر طفولة بدون ضفاف- ص. 62)
*
كذلك:
هي
أَمسي الذي لم يأتِ بعد
وأنا
غدها الذي مرَّ سريعا
هنا تلاعب أيضا بالمفهوم الزمني المتعارف عليه، فالأمس مرّ حسب المنطق البشري، والغد لم يأتِ بعد، إنّما هو جاء بالدلالات العكسيّة ليُثري قصيدته فيدهش المتلقي.
من المتضادات في المعنى: ضخم- ضئيل، قوي – ضعيف، إياب- ذهاب،والمتضادات في طبيعة الكائن: غزال- ذئب
(أنا وهو-ص. 45-46)... قصير- طويل(صدقة- ص. 50)، كفر- إيمان، أخرجتها- أدخلتني، جحيمي- جنّتها، الشيطان-الله، جنون-حكمة(أنا وهي-ص. 39) :
هيَ كفرت بإيماني
فأخرجتها من جحيمي
وأنا
آمنتُ بكفرها
فأدخلتني جنّتها
(أنا وهي-ص. 39)
*
ولا يُخفي شاعرنا عن المتلقي أنّه في الستين من عمره:
وأنا
طفلٌ في السّتين
(نهر طفولة بدون ضفاف-ص. 62)
ويشير إليه في أكثر من موضع أنّه الخريف ويشير لعمر حبيبته بالرّبيع وهو بذلك يشير إلى ما ينتج من صعوبة التواصل بينهما بسبب عدم التناغم العُمري) فكيف نعثر علينا:
هي ضائعة في خريفي
وأنا ضائعٌ في ربيعها
فكيفَ نعثرُ علينا؟
الزّمنُ أخرسُ والطّريقُ أعمى!
(ضياع-ص. 37)
كذلك:
تلاشت أمطاري في واديكِ
موقظةً
عشبَ ربيعكِ
في
صحراء خريفي
(لذّة-ص. 35)
*
ويعتبر أنّ قدرته الرجولية(شتاءات جسدي) إنّما وصلت لمرحلة النهاية فيصمها بالمفردة(عورة) :
يستر عورةَ شتاءاتِ
جسدي!
(كنز لا يفنى- ص. 38)
ويشير إلى حاجته إلى عمر طويل كي يكتشف أنوثة حبيبته وربما قصيدته أيضا، في تناص دينيّ، لافت حيث يعبّر عن حاجته إلى عدد سنوات نوح:
كلّ الذي أريده: عُمرُ نوح
لأُكملَ اكتشافَ فراديسِ جسدها
قبلَ أن أشربها قُبلةً قبلة!
(مئذنة وقبّة محراب- ص. 60)
ويأخذه حسّه الوطني إلى الكتابة عن الوطن في أكثر من قصيدة:
في وطن بات مسلخا بشريا
ما عُدنا نميّز فيهِ
بين اللصّ والناطور
بين البرتقالة والقنبلة
ولا بين عِمامَتي زياد بن أبيه وعمّار بن ياسر
(الوطن- ص)
*
هكذا، أعتقد أن قصائد الشاعر العراقي المقيم في أستراليا يحيى السماوي، والذي صدر له للآن 25 ديوانا شعريّا ، تناولت هنا الأخير منها، ستخلّد كمدرسة شعريّة لا بُدّ أن ينهل منها شعراء المستقبل.
|
ليست هناك تعليقات