اشتد به السعال هذه الليلة.. حاول أن يحبسه داخل صدره، لكنه أقوى.. انفلتت منه سعلات قليلات خفف من ضجيجها وهو يضع يده على فمه، فارتد الاهتزاز إلى داخل القفص الصدري، ليحس بمُدى حادة تمزق أحشاءه!
تحامل على نفسه، وغادر غرفة النوم، كي لا يوقظ زوجته.. توجه إلى شرفة البيت، واقتعد كرسيًّا بلاستيكيًّا لا ظهر له، ودسّ لفافة تبغ بين شفتيه الصدئتين.. نفث الدخان بعيدًا كأنما يحول بينه وبين التسرب إلى داخل البيت.
لا يُحب أن يسمع محاضرة الوعظ المألوفة في هذا الوقت من الليل!
تأمل سحب الدخان، ينفثها في وجه النجوم المتلألئة فتغيم الرؤية أمامه.. استمرأ المشهد.. وأحس بالزهو حين اختفت النقط المضيئة في سحائب دخانه!
أخرج سيجارة ثانية.. تحرك نسيم خفيف.. أحاط شعلة اللهب بكلتا يديه يحميها.. اقترب إليها بفمه.. توهج رأس اللفافة طويلًا.
هذه المرة سيختفي مصباح الإنارة العمومية الواقف منذ زمن إلى جانب بيته.
اشتكى إلى البلدية من هذا العمود.. أخبرهم أن اللصوص يتسلقونه ليدخلوا إلى بيته.. أخبرهم أن ضوء المصباح يمنع عنه النوم وهو كهل مريض.. أخبرهم أن المارة حوّلوا قاعدة العمود إلى مرحاض عمومي يقضون فيه حوائجهم نكاية فيه وفي الإنارة العمومية.. لا فائدة.. ما زال العمود واقفًا!.
طبعًا هو لم يخبرهم أن غرفة نومه، لا ظلام فيها بسبب هذا العمود اللعين.. ولذلك كثيرًا ما امتنعت عنه زوجته معتذرة بهذا الضوء الفاضح!.
كلما أراد أن يقضي وطره، رمى المصباح بالحجر.. لكنه يُفاجأ صباحًا بسرعة استبدال البلدية للزجاجة المنكسرة!. عجبًا.. على غير معهودها مع مصابيح المدينة المهشمة منذ زمن!.
أرسل السحابة البيضاء في اتجاه الرأس المشتعل.. رويدًا رويدًا.. ضعف الضوء أمامه.. استنشق ثانية، كأنما هو مدفع رشاش يلقمه بمئات الرصاصات.. انطلق الدخان الأبيض هذه المرة قويًّا كقذيفة في خط مستقيم، ثم تمهل.. ليتمدد.. تحول إلى نقاب حجب وجه المصباح طويلًا.
– اختفِ أيها الملعون.!
مرت لحظات من الظلام اللذيذ.. ثم سحب النسيم نقاب الدخان.. بعيدا.. شعَّ المصباح أكثر كأنما هي بسمة ساخرة على الوجه المضيء.. أحس بعبث المواجهة !
أح.. أح.. أ.. نوبة سعال جديدة.. صدها بحزم، وكسر موجها الصاخب بكلتا يديه.. فتح ثغرة صغيرة في جدار الفم.. ليفلت اثنتين أو ثلاثًا خشية الاختناق.. لم يعد الصدر المهترئ قادرًا على كظم هذه الهزات العنيفة بداخله.!
لو استيقظت زوجته الآن لأشبعته توبيخًا.. ولأكرهته على تناول الدواء.. ولذلك يجتهد في نزع الصوت عن سعاله.. هي مهارة أسعفته كثيرًا في تجنب المواجهة!
تراقصت أشعة المصباح أمام عينيه المحمرتين، فأشاح بوجهه الذابل إلى الجهة الأخرى.
أربعة كلاب علا نباحها وهي تتصارع بجوار حاوية الأزبال الطافحة بقيئها.
اشتكى إلى البلدية من وجود هذا المكب النتن بجوار بيته.. اشتكى تأخر عمال النظافة عن إفراغ الحاوية أيامًا عديدة.. توسل إلى المصلحة البيطرية أن تجد حلًّا لهذه الكلاب الضالة.. احتج وأرغى وأزبد.. رشى وأهدى وتوسل.. دبج العرائض ودس فيها مشكلة العمود.. جمع التوقيعات المساندة.. كل الذين اشتكى إليهم تفهموا مشكلته.. وتعاطفوا معه.. ووعدوه خيرًا!.
أشعل سيجارة أخرى.. تعمد أن تكون هذه النشقة أطول.. أطول.. أرسل سحابة الدخان الضخمة أمامه كصاروخ يغزو الفضاء.. في اتجاه الكلاب المتقاتلة!.
اختفت الحاوية ومعها الكلاب.. ما زال النباح قويًّا.. زاد نفثة أكبر.. يريد أن يحجب صوتها المزعج.. دون فائدة.. انزاح الستار الأبيض، ما زالت الكلاب تتقاتل.
ما دامت الحاوية مليئة بما لذ وطاب.. فإن الكلاب لن تغادر!
مد أصبعيه ليلتقط سيجارة جديدة.. لكن العلبة كانت فارغة.. تسلل داخل البيت وعاد بعلبة جديدة.
كم يبذل من جهد وتمويه لخداع جمارك زوجته حين يُهَـرب مخزون السجائر إلى داخل البيت؟!
يخفي العلبة الكبيرة أسفل الثلاجة في المطبخ.. يعرف أن آمن الأماكن هي أقربها إلى الأعين!
اقتعد الكرسي ثانية، وضم فخديه إلى بعضهما، وأفرغ العلبة كلها بينهما.. تأمل الأجساد اللذيذة المستلقية أمامه.. تأمل بياضها المبهر في استدارتها المتقنة.. والشعيرات السوداء المستوية وهي تطل بحذر من رأس اللفافة.. قلب الخصر البرتقالي الذي تحتضنه الشفتان في عشق جنوني.
دس الأولى.. شعت شعيرات الرأس.. تمدد اللهب كثيرًا وهو يزحف نحو الخصر البرتقالي سريعا.. أغمض عينيه!. نفث السحابة البيضاء بين رجليه.. اختفت القدمان.. عاود النفث.. اختفى الساقان والركبتان.. عاود النفث.. تصاعدت دوائر الدخان كأنما هي نُذر بركان يستعد لانفجار وشيك.
سكنت نسائم الليل.. اختفى الجسد النحيل وسط الغيمة الكبيرة.. ما زالت العينان مغمضتان تسبحان في ملكوت لذيذ من الخدر.. اختفى العمود الكهربائي.. نبتت أشجار باسقة مثمرة وسط حاوية الأزبال.. غادرت الكلاب وهي تعانق بعضها.. ضمته زوجته الجميلة بوله عاصف!.
هدر الصدر المهترئ بسعال قوي.. وضع عليه يده اليسرى كأنما يخنق السعلات قبل تخلقها.. زحف الهدير نحو الأعلى.. وضع يده اليمنى على فمه، فإذا بالعاصفة تمطر بللا لزجا لم يعتده من قبل.. لكنه عرف منذ مدة أنه قادم لا محالة.. نزيف من دم!
سرى تيار بارد من الرهبة في جسده.. أحس بركبتيه خاويتين لا تقويان على القيام.. خانه صوته وهو يحاول مناداة زوجته.. افترش الأرض وهو يشعر بتمزق يخترق صدره عموديا.. تتابعت حمم البركان الحارقة.. حرك يديه الواهنتين ليطرد سحائب الدخان الكثيفة ..سقطت اليدان على الأرض..
انطفأ مصباح الإنارة العمومية، وغادرت الكلاب في هدوء.. ما زالت الغيمة البيضاء تخفي الجسد الهامد!
|
ليست هناك تعليقات