يعتبر الروائي المبدع ( برهان الخطيب ) من الجيل الستينات في القرن الماضي . وقد برز في الابداع الروائي , بأنه متقن حرفة الفن الروائي في ابداع واضح وقدير , في امكاناته الفنية والتعبيرية في الحبكة الفنية الراقية , بأن يستلهم براعة التوغل الداخلي في اعماق تفاصيل الواقع وافرازاته الداخلية والخارجية . وبرازها بشكل موضوعي على السطح الواقع وعلى المكشوف دون مداهنة ومحاباة ,
وانما بموضوعية الواقع وتحركاته وافعاله الدرامية , في براعة في استنطاق مسار احداثيات النص الروائي بجوانب متعددة ومتنوعة , ويتجنب التقريرية الاخبارية , او تحويل العمل الروائي الى منشور سياسي مليء بالشعارات المهلهلة ,
بل يتوسم الموضوعية التعامل , في التحري لاقتناص دقائق تفاصيل الواقع المتحركة والفاعلة , ومسك الخيوط وطرحها في عملية متناسقة ومرتبة في المتن الروائي , بطريقة اسلوب روائي مبدع, متمكن من تقنياتها وتكتيكاته , في تحريك الشخوص المحورية بالنص الروائي , بافراز مكنوناتها الذاتية والعامة . وطريقة فهمها وادراكها واستنباطها , وطريقة تعاملها وفق رؤيتها السياسية والا جتماعية , في ضمير تفكيرها وتصرف سلوكها الفعلي .
وهذه الرواية ( ليلة بغدادية ) ظلت تختمر في فكرتها الروائية عند الروائي , ثلاثة عقود كاملة . من عام 1963 الى عام عام 1993 , لم يجازف في كتابتها وبطرحها في حينها , لان الروائي , كان يخشى الفشل والاحباط في عمله الروائي , وانها ليس رواية عادية , وانما تتناول احرج فترة عصيبة من تاريخ العراق السياسي المضطرب .
وهي بالضبط فترة سقوط جمهورية قاسم ( عبدالكريم قاسم ) وقيام جمهورية الخوف والرعب في الجمهورية الثانية ( عبدالسلام عارف ) .
لذا فقد اختمرت خميرة فكرته بنضوج مبدع طيلة هذه الفترة وكتبها واعاد استنساخها اكثر من مرة . حتى ولدت سالمة في ابداعها السردي , المتمكن من تقنياته الفنية الحديثة , ومتمكن في ادوات التشريح والتحليل النص وا حداث الدراماتيكية , لهذه الحقبة الحرجة والمضطربة بكل جوانبها ,
اي ان ولادتها تكاملت بالفن الروائي المبدع , المتمكن من حرفته الابداعية , في كشف مضامينها بطريقة احترافية قديرة في المتن الروائي , وبراعة لغة السرد , لكي تلاحق الاحداث الدراماتيكية متسارعة في حركة افعالها المتلاحقة . وهي تبرز ظاهرة العنف والارهاب والبطش في الخصم السياسي . ان اطلاق الحرية المطلقة لزعران فرق التفتيش ( الحرس القومي ) بأن يكونوا قوة باطشة بقوة السلاح في الشوارع العامة وتقاطع الطرق في نقاط التفتيش المرعبة , حتى يحمون سلطتهم الارهابية .
لذا فان الارهاب الوحشي , وهو المتحكم بعصب الحياة العامة , في التنكيل البشع والهمجي . لذلك نجد ان شخوص رواية ( ليلة بعدادية ) تعاني الاحباط والانكسار والانهزام , تعاني الخناق والحصار والحرمان , لان لعبة الموت اصبحت سهلة التناول والتداول ,
واصبحت من الظواهر العامة , ضمن دائرة الحصار والخناق , لان الحكمة التي طفحت على السطح تؤمن بالقوة والبطش بلا هوادة , من فرق مفارز التفتيش ( الحرس القومي ) , في سلوكية همجية في مداهمة البيوت ,او حملات التفتيش في الطرق والشوارع ,
اي انها عبارة عن فرق الموت ليس إلا ( حكمة . يكتبها اصحاب السلاح , وليس اصحاب قلم كما ادعى جبناء ) ص274 . فكان الصراع مستعر في نيرانه المشتعلة , في اجهاض وابادة التيار اليساري برمته , الذي خسر الرهان لصالح التيار القومي / البعثي , وهذا لا يعرف سوى لغة الدم والموت , لغة السلاح هي الناطقة والفاعلة . مما جعلوا الواقع على راحة عفريت , بالتصرف الوحشي واطلاق العنان لزعران ( الحرس القومي ) انهم كسبوا السلطة بتحالف الغرب الاستعماري والطبقة البرجوازية والاقطاعية والرجعية , التي ساندت التيار القومي / البعثي الى السلطة , وقمع وبطش اليسار عموماً ,
وجعلوا الناس تأكل بعضها البعض , من اجل الاستحواذ على النفط ( اما البرجوازية والحنقبازية الرجعية والاقطاع , وما تفضلت به , فانهم عكس ما تقول . انهم حلفاءونا في صراعنا ضد اعداءنا . وكلما عجلنا بأنهاء هذا الصراع لصالحنا ضد اعداءنا , كان ذلك افضل لنا ) ص 132 . لذلك ازاحوا اليسار بالدم والقتل والتصفيات العشوائية ... هذه مسارات المتن الروائي , في ابراز شرور الصراع السياسي العنيف , وانهزام اليسار , الذي اصبح ضحية البطش والتنكيل ,
ولكن في الطرف الاخر الذي بيده السلطة والنفوذ , فأن جهاته السياسية متنازعة بين طرفين , طرف يدعو الى تخفيف من حدة العنف والاضطهاد السياسي , وطرف اخر يدعو الى تشديد البطش والعنف مهما كانت وحشيته , فهو السبيل الوحيد لاستمرار السلطة بيدهم , في زرع الخوف والرعب في صفوف المواطنين , حتى يشعروا بالرهبة والخضوع والنكوص ,
بينما الطرف الاخر يعتقد في ممارسة المتشددة في العنف الدموي بانه انتحار وكارثة لا محالة , . والفكرة الرئيسية في رواية ( ليلة بغدادية ) تختصر على ليلة واحدة دراماتيكية في احداثها المشؤومة , لذلك بدأت اطول ليلة مظلمة وعاصفة في تقلبات حداثها , في سبيل القبض على الشخصية اليسارية ( صلاح ) بعدما عرفوا عنوان التخفي ,
وهذا الصراع يشمل ايضاً , ثارات واحقاد عدوانية وانتقامية ,سياسية / اجتماعية / عشائرية , وجدت الفرصة الملائمة لتحقيق غايتها بقيادة ( عدنان ) العدو اللدود الى ( صلاح ) لتصفية حسابات قديمة جاء وقت حصادها . في هذه الليلة البغدادية المشؤومة
×× شخوص الرواية المحورية :
× خالد : شاب طالب في كلية الهندسة , متقلب الاهواء , ليس له رؤية حياتية محددة, مولع في قراءة الكتب المتنوعة الاتجاهات والمدارس , وهو مضطرب في نزواته وغرائزه العاطفية , وتتغلب عليه نوازع الانانية , يستغل غياب زوج ( اميرة ) في البيت , لكي يتسلل اليها في بيتها , بغرائزه الجنسية , ويتعلق عاطفياً في ( اميرة ) , ولكن اضواء هالة الانجذاب اليه , تتضاءل يينما تدرك عشقيته , بانه غير متزن في سلوكه وتصرفاته وغير آهل للمعاشرة معه , وهو يملك الانانية الزائدة وقلة تجاربه العاطفية . فيجد نفسه محشور في الشحن السياسي العنيف , دون ارادة منه , وفي تلك الللة المشؤومة , كان كل همه انقاذ عمه ( صلاح ) من الوقوع في قبضة مفرزة الحرس القومي , بعد تشديد الحصار عليه , بعد معرفتهم في مكان اختفاءه في بيت اخيه ( سالم ) ومجيء مفرزة الحرس القومي لقبض عليه , لذلك خرج ليبلغ عمه صلاح بمجيء المفرزة الى بيتهم , ويتفق مع ( اميرة ) ان يختفي في هذه الليلة طالما زوجها غائب في البيت . لكنه لم يفهم التبدل السياسي الغريب في غرائبته من اليسار الى اليمين باحداث مفاجأة , بأن كان المد الاحمر يملك الشارع وعصب سياسة الواقع , تنقلب علية مجموعات صغيرة متناثرة هنا وهناك , ولا يستطيع الدفاع عن نفسه وحماية الثورة من السقوط في يد اعداءها , فكان يقول لعمه اليساري البارز ( صلاح ) , بقوله ( كان لجماعتك من المؤيدين , اضعاف ما لخصومهم مئات المرات , فمن يتحمل مسؤولية هزيمة جمهوريتناالاولى ؟ قاسم ؟ ) ص180 .
× اميرة : البنت المدللة بعمر 16 عاماً زوجوها اهلها الى رجل ثري , جاء من الخارج يحمل شهادة طبية , وبعمر ابيها . لم تسمع من اهلها عن مراسيم الزواج , سوى عبارة ( امورة جاءوا يطلبونك لزواج , فما تقولين ؟ ) لكن انقلب هذا الزواج الى تعاسة وحرمان , وجفاء وبرود في الدفئ والحنان , فلم تكون غاضبة على زوجها , بل ساخطة عليه , في زوج عاجز وبارد جنسيا ً ولاينجب اطفال , انه الحظ العاثر دفعها الى هذا الزواج التعيس , وهي تحلم بزوج يملئ عينيها بالدفئ والحنان في عواطفه ( أتظل هي تحلم دائماً برجل اخر غيرالذي جوارها ؟ فمتى يستقر لها حال ؟ عند قرار الاحوال أم عند استقرارها ! وهي مذنبة لو شعرت في نفسها رغبة في الاندماج بآخر غير ذلك الغائب عنها , وتحرقت للمسة حنان )ص320 . فهي تشعر بالحرمان في حياتها الزوجية , في زوج بارد من الحنان ولا ينجب اطفال , فهي تبدي الاستعداد أمام ( خالد ) في ايواء عمه ( صلاح ) حتى يتجنب الاعتقال في هذه الليلة المشؤومة , ويفهمها ( خالد ) خطورة فعلها والعواقب الوخيمة المرتبة عليها في خطورتها , في ايواء مطلوب خطير الى السلطة , ولكنها تصر على موقفها المساند في تجنيب اعتقال عمه ( صلاح ) بقولها ( - ضع في علمك , حتى لو عاد الزوج مرة خرى باعجوبة ووجده عندي , صارحته وابقيت هنا صلاح , كافراً كان أم مؤمنا, حتى يأمن دربه , نحن بشر وعلينا ان نثبت هذا لأنفسنا يوما ما ) ص260 . وتحملت مسؤولية اخفاءه في بيتها , فكادت في تلك لليلة المشؤومة . ان تدمرها في الاغتصاب وتهديد حياتها بالموت , بعدما عرفت مفرزة الحرس القومي , بانه موجود في بيتها ساعة الدهم .
× صلاح : وهو عم ( خالد ) الشخصية اليسارية البارزة , المعروفة في الاوساط الشعبية والسياسية , يصبح طريداً مطلوب رأسه , ويذاع اسمه من جملة قائمة المطلوبين يومياً , في الاخبار عنه والقاء القبض عليه , بأعتباره عدو لدود الى سلطة القومية / البعثية , وهو يؤمن في نهجه السياسي ولا يمكن التخلي عنه , لذلك يملك رؤية واتقان واضح في تحركاته , في تجنب الاعتقال , وهو يشعر بالحصار والمطاردة يومياً , ويسمع حملات الاعدامات الجماعية من المذياع , اضافة الى السقوط والاعترافات التنظيمية , لذلك كان يختفي في دار اخيه ( سالم ) بعدما غير ملامح هيئته ولبس الزي الشعبي , ويتجول في هوية مزورة . يخبره ابن اخيه ( خالد ) بأن مفرزة الاعتقال قادمة الى البيت , وعليه الاختفاء في بيت ( اميرة ) بعد التفاهم معها , واستعدادها في ايواءه مهما كانت العواقب , في ظل غياب زوجها . ولكن ( خالد ) يبلغ عمه بأن كل الابواب موصودة , تؤدي الى الاعتتقال , ولن ينجو منها إلا اذا سلم نفسه طواعية والاعتراف على تنظيمه , حتى ينجو من الموت المحتم , فيقول له "
(- السفينة تحطمت ياعمي فلم لا تتشبث بخشبة ؟ أعترف كالاخرين وكفى الله المؤمنين شر القتال ....
- كفاك انت! انت لا ترضى أن يعتدي أحد على شرفك ؟
- لا بالطبع !
- ما قلته اذن أسوأ ...
- الكل مستعد هذه الايام للقتل والموت , فما جدوى هذا؟
- لا جدوى , لكنه حكم قدرنا الذي صنعناه بيدنا ) ص290 . وفي ساعة اختفاءه في بيت ( اميرة ) هجموا على بيتها مفرزة الحرس القومي , لكنه افلت من ايدهم في اللحظة الاخيرة .
× عدنان : الشاب المتهور العنيف الشرس , الذي لا يعير اهمية للقيم والاخلاق , تطوع الى الجناح القومي / البعثي , وهو داخل السجن بعد قتل شقيقته ( شمسه ) التي هربت من اهلها وتزوجت من ( مزعل ) ولكن هذا سجن لاسباب سياسية , فتزوجها ( صلاح ) , وبعدها قتلها شقيقها ( عدنان ) غسلاً للعار ومحافظة على شرف العائلة والعشيرة ,
وهو يؤمن بالبطش والقتل , سبيل لاستمرارية الحياة , لذلك برع في الحرس القومي , في البطش والتنكيل بهمجية وحشية , ويعتبر استخدام وسيلة العنف الدموي لمحافظة على استمرارية سلطتهم في الحكم , لان الارهاب الدموي صمام الامان لبقاءهم في الحكم ,
وخلق هالة لرعب والخوف عند المواطنين , حتى يشعر الناس بالخوف , فيركعون لهم بالخنوع والخوف , ولم يتواني في استخدام الوحشية الدموية ضد انصا اليسار او الحمر , بهذا الشكل يبعد تقويض سلطتهم . واي تخاذل في البطش والتنكيل يعتبر خيانة لثورتهم , رغم ان الاخرين من جناحه الحرس القومي , يحذرونه من مغبة استخدام الوحشية المفرطة , بأنها انتحار سياسي لهم ستجلب عليهم الكارثة والسقوط لا محالة ,
لذلك وجد الفرصة الثمينة , للانتقام من عدوه اللدود ( صلاح ) ليأخذ بثار العائلة , بثأر شقيقته ( شمسه ) التي ذبحها بيديه , ان الانتقام من ( صلاح ) وقتله , هو رد الاعتبار لشرف عائلته كما يعتقد , لانه يعتقد انه المجرم الاول في هروب بشقيقته ( شمسه ) وجاء وقت تصفية الحساب بالانتقام الدموي ,
لذلك اخذ مفرزة بقيادته من الحلة وتوجه الى بغداد , بعدما عرف , مكان اختفى ( صلاح ) في بيت اخيه ( سالم ) في بغداد . ولكن الاحداث الدراماتيكية والعربدة والطيش المجنون , التي التهبت في نوازع وغرائز ( عدنان ) , فشل في القاء القبض على ( صلاح ) وانفلت من ايديهم في اللحظة الاخيرة . مما جعل هوس الجنون يتقمص ( عدنان ) , ما اقدم على قتل رفيقه في المفرزة ( مزعل ) بذريعة التقاعس والخيانة
× رواية ( ليلة بغدادية ) الروائي برهان الخطيب
× صفحة 375
|
ليست هناك تعليقات