(١)
كأنَّني قلتُ لها في الطَّريقِ من البيت،
لم يَبْقَ أمامَنا إلَّا القليلُ،
قليلٌ من الوقتِ المُفتَّت؛
نُتَفٌ من تُرابٍ،
هبَّةُ ريحٍ رخْوَةٌ،
مسحةُ زيتٍ مُجعَّدَةٌ،
حفنَةٌ ماءٍ مالحٍ على وسادةِ زهرةٍ مُسِنَّةٍ،
ريشَةُ عصفورٍ ذهبَ ولم يعُدْ،
كأسٌ فارغةٌ من كلِّ شيءٍ،
شرارَتانِ خابِيَتانِ،
نبضَةٌ لا تصلُ إلى الوجنَةِ اليُسرى،
لونٌ مُعَفَّرٌ،
ثُمالةٌ في ساعةِ الرَّمْلِ الأخيرةِ،
سهلُ سرابٍ مُطفَأٍ،
عطشُ إسماعيلَ،
كبشُ فِداءٍ مملوءٌ بالأسمال....
ولم يبقَ شيءٌ وراءَنا.
ها هو صيفُنا يستعدُّ لملءِ الذَّاكرةِ بالسِّلالِ والعِنَبِ والثَّعالبِ. وصوتُ اليَمامةِ قادمٌ يلهثُ بهديلٍ أجَشَّ من أطرافِ الحُقولِ الرَّاحلِة. ها هُوَ ذا التُّفَّاحُ الهَرِمُ يسقطُ مِنَ تَعبِ الجمبازِ على دفاتِرِ نيوتُنْ وأوراقِ آدمَ المبعثرةِ على عُرْيِنا.
ها هي كُرومٌ بقلمِ الرَّصاصِ مُزيّنةٌ برسوماتِ الصَّبايا الرّصاصيَّة. مواسمُ الحربِ مُحنَّاةٌ بالكِلْسِ وطبلٌ يعزِفُ سمفونيّةً. والطّقسُ عندَ الغروبِ مُهَندَمٌ.
(٢)
لم يبقَ إلّا قليلٌ، قلتُ لها. والوراءُ مضى.
والسّاعةُ ترفُضُ أنْ تعودَ القَهْقرى.
لم يزَلْ للوَرْدِ الشائِخِ شَوْكٌ للهِجاءِ.
لم يزلْ للشّوكِ وردٌ للبكاءِ.
للفساتينِ رائحةُ المساءِ اللَّامُبالي.
للمساءِ رائحةُ الفساتين المُكوَّمَةِ في خزانةٍ مُهمَلةٍ.
للسّراويلِ جيوبٌ معبّأةٌ بالرُّمَّانِ المُشظَّى.
للرُّمّانِ طعمُ العَرَقِ السَّاكنِ في السّراويل.
والطّقسُ مُهندَمٌ.
(٣)
كأنَّها قالَتْ: لكلِّ شيءٍ زمانٌ.
لكلِّ أمرٍ تحت السَّماءِ مَكانٌ. ولكلِّ نجمٍ في السَّماء آن.
للحربِ وقتٌ مُنقَّى من القمحِ والغَيْمِ والضَّباب. فالطَّائرات تسبِقُ صوْتَنا ولا تُحبُّ الغَبَشَ. للقاتلِ وقتٌ للتخفِّي. ولا وقْتَ للمقتول.
كأنَّكِ تقولينَ، للسِّلمِ وقتٌ مُبذّرٌ. تعالَ نقفزُ يا حبيبي إلى سقفِنا قليلًا، قبلَ أنْ يهاجرَ في الصَّيْفِ إلى ثوبِ الرّكام. تعالَ نصبغُ شعرَنا بالحليبِ، قبلَ أنْ يشيبَ.
فللموتِ وقتٌ ضائعٌ بين شوطَيْنِ.
للبَعْثِ وقتٌ للدخولِ في عَبثِ بيوتِ العناكبِ تحتَ المطَرِ الغزير، وانتظارِ كأسِ "نيسكافّيه" في جزيرةِ العربِ تُجهّزُهُ ألةٌ تحفظُ درْسَها.
للزَّرعِ وقتٌ مضى، والرؤوسُ يانعةٌ،
ووقتٌ للحَصاد.
(٤)
كأنّكِ ستقولينَ، باطلُ الأباطيلِ.
باطلُ الأباطيلِ التَّمزيقُ والتَّخييطُ. باطلُ الأباطيلِ دورَةُ المياهِ.
يهطُلُ البحرُ على حدائقِ الأغنياءِ وينسى ابتهالاتِ الشّقوقِ إلى السَّماء. وها هوَ القيظُ يهطلُ بحِبالِ المَرَسِ على قيظِنا.
وقتٌ للبُغْضةِ المتفاقمةِ مثلَ الخلايا الطَّافرة. وقتٌ للحُبِّ الممنوعِ. كلبٌ ينوحُ على صاحبِهِ. قمْلَةٌ تعيشُ في شَعْرِ الميِّتين. وقتٌ للجُنونِ. ووقتٌ قليلٌ لما تبقّى من الوقت.
(٥)
كأنّني قلتُ.
كأنّكِ قلتِ.
فتعالِي نجمَعُ الحجارةَ كي نفرِّقَها على طاولةِ النَّرْدِ.
تعالي نجمعُ الأعدادَ كي نطرحَها على ثَوْبِ العروسَيْنِ.
تعالي نشتري مِرآةً لا تسكنُ فيها الأَصْفارُ.
تعالي نشتري ليلةً من ألفِ ليلةٍ وليلةٍ، "ميد إن يو أسْ إيه".
تعالِي نفترقُ كي نجتمعَ على خشبةٍ.
تعالي نجرِّبُ الطُّوفانَ مرّةً أخرى، خارجَ البيت، كي لا تتعفَّنَ صورةُ جدِّنا الحزين.
*تذييل من المؤلَّف: قد يكون هذا الكلام صدىً متأخِّرًا من أصداء "سفر الجامعة"، (التوراة).
ليست هناك تعليقات