أخبار الموقع

اهــــــــلا و سهــــــــلا بــــــكم فــــــي موقع مجلة منبر الفكر ... هنا منبر ختَم شهادةَ البقاءِ ببصمةٍ تحاكي شَكلَ الوعودِ، وفكرةٍ طوّت الخيالَ واستقرتْ في القلوبِ حقيقةً وصدقاً " اتصل بنا "

« لا أريدُ شَيْئًا » ... بقلم: فريد غانم



   « لا أريدُ شيئاً »
    بقلم : فريد غانم    
   15/2/2018


« مجلة منبر الفكر »
  فريد غانم       15/2/2018


"إلى الَّذين تجمَّدوا في صُندوقِ تَبْريدٍ، في طريقِ هروبِهِم من غُرْبَةٍ إلى غُرْبةٍ".

لم يقرَعُوا جُدرانَ الخَزَّان هُناك. ولِغسَّانٍ* أَنْ يكتُبَ بحِبْرِهِ المُتفَحِّمِ ما يشاءُ الحِبْرُ. ففي جهنَّمَ الحاضرةِ استبدَلُوا، في عَصْرِ الهايْتِك والذُّقونِ المُشَفَّرةِ، كِبريتَ عامُورا بمَواقدِ الجَليدِ.

هناكَ، يا صديقِيَ، أُمنياتٌ مشوِيَّةٌ على خرائطِ الحدودِ الفاصلَةِ بين توأَمَيْنِ، بينَ دمْعَةٍ مُجفَّفةٍ ودَمْعةٍ مفتَّتَةٍ وعَيْنَيْنِ. والأنينُ مُعلَّقٌ على عوسَجَةِ الماضي وضَفائرِ الوَهْمِ السَّعيد. وهنا، بالضَّبطِ هُنا، على أجفانيَ البيضَاءَ فَوْقَ الشّاشةِ المُشقَّرَةِ، يتجمَّدُ الصَّوْتُ.

كنتُ على وَشَكِ أَنْ أقولَ:  أطلِقْ صوْتَكَ في كُلِّ الجِهاتِ. دَعِ الكأسَ تلطُمُ وجنتَيْها المكسُورَتَيْنِ وتبكي فَوْقَ الشَّظايا. لكنَّ الصَّمْتَ يغلبُني والآذانُ مُشمَّعةٌ بطُبولِ الاحتفالِ.

ولم أعُدْ أريدُ شَيْئًا.
لا أريدُ حِصَّتِي في شِباكِ الصَّيْدِ على شاطئِ الطُّوفانِ، ولا لُقمةَ خُبْزٍ مِنْ ذاك الرَّغيفِ الّذي ينفَدُ كُلَّما اقترَبَ مِنْ فَمِي.
سأترُكِ السَّفينةَ كاملةً لأبناءِ نُوحٍ. 
سأُلقي الوَصايا للوَحْشِ الذي يكبرُ في بئرِنا.
سأطهُو قَهْوَتي بلا ماءٍ ولا سُكَّر.
سأُعَرِّي صُورَتي من زُجاجِها.
سأسحبُ من وجهِيَ المُؤطَّرِ بسمَتِيَ الغابِرةَ. 
سأتعطَّرُ في الصَّباحِ الكَسيحِ من زُجاجةِ عِطْرٍ فارغةٍ.
سأشرَخُ أُسطُواناتي.
سأترُكُ الجنازاتِ اللَّائِقَةَ لفَصيلةِ الفِيل.
وسوفَ أُعلِّقُ ثيابِيَ فُزاعاتٍ تَرُدُّ الجَوارحَ عن عيونِ الموتى.

فلَمْ أعُدْ أُريدُ شَيْئًا.
وسأترُكُ مليونَ وردةٍ جوريَّةٍ تُسَاقُ للذَّبْحِ، لبِناءِ مصطَبَةٍ تردُّ البَرْدَ ورطوبةَ الماءِ عن نَعْلٍ راقيةٍ.
سأنذُرُ رِمشَيَّ وحاجبيَّ للخَريف.
سأتركُ للذَّهَبِ المُكدَّسِ خلفَ ستارةِ الأُمراء أنْ يقطفَ ثمارَ الحربِ العالميّةِ الرّابعة.
ولن أختلفَ في مسألة الأسبقيَّةِ بينَ البيضَةِ والدَّجاجةِ، أوْ بينَ الرِّبْحِ والبَحْرِ.
فلَمْ أعُدْ أريدُ شَيْئًا.
وللحِبْرِ أنْ يجفَّ في الطَّريقِ بينَ الأصابعِ العرجاءَ والوَرَقِ المُبَعثَرِ في المواقدِ والقُطْبِ الشَّماليّ.
للشَّمْسِ أن تتغيَّبَ عن دِفْئِها.
للصَّقيعِ أَنْ يجتاحَ وجنتَيْنِ مُزهِرَتَيْن.
لِلَّوْزِ أن يتخلَّى عن تقليدِ العُيون.
للهواءِ أنْ يَجرَحَ الرِّئتَيْن.
للأوتارِ أَنْ تنسى لُغَةَ النَّشيجِ.
للقطَعِ النّقديَّةِ أَنْ تشتريَ الرّاحاتِ وتقودَ قطعانَ إلغاوْتشو إلى سُمنتِها المُميتة.
وللثَّلّاجاتِ الرّقميّةِ أنْ تسكُنَ في عينيِّ حَبيبَتي، في الدَّرْبِ المُعثَّرِ بين غُربَتَيْن.

فلم أعُدْ أريدُ شيئًا.
كلُّ ما أريدُ، حينَ يحترقُ طفلٌ على صَدْرِ دُمْيَتِهِ، أنْ أُلملِمَ هَبْوتَيْنِ من رمادِهِ الرّيَّانِ، في قارورَتَيْنِ من طينٍ لمْ تمسَسْهُ نارٌ ولا حربٌ، وأُوَاريهِما تحتَ التُّرابِ؛
واحدةٍ في الطَّريقِ إلى هذا العالَمِ،
وثانيةٍ على بابِ الخُروج.

_______________

*لعلَّها إشارةٌ إلى غسّان كنفاني، صاحب "رجالٌ في الشَّمس". (فريد غانم).




  اقرأ المزيد لـ فريد غانم


لإرسال مقالاتكم و مشاركاتكم
يرجى الضغط على كلمة  هنا


ليست هناك تعليقات