قعدتُ على مقعدِ الكسلِ، كنتُ رجلاً هزيل البدنِ، طويل النّفس، ساخرا، مبتسما، كانتْ حدّةُ الخلاص جليّةٌ على سحنتي المُتعبة، أتّكئ ظهري إلى ظهرِ مقعدِ موقفِ الحافلات، وعيناي كانتا تلسعُ ماضيها وحاضرها، نعستُ نُعاسَ خفيفا، كنت أتلكّأ في دهشةٍ ومكرٍ عن أشياءٍ قد تقصيني عن هذا الوضع، كانتْ الإشارات بالنّسبة لي كلها بضوءٍ أحمر، فلم يكنْ لي مفرّ في أنْ أجتازَ هذه الوجهة، أنْ أمتهنَ قليلا بهذا الواقع، ولم أكنْ أتكهّن أنّه اختبارٌ مرّ، قدْ يطلقني إلى دنيا جديدة، دنيا أخرى كما يمكنُ للاختبارِ المرّ أنْ يقصيني بعيدا عن مُتعةِ الخلودِ، وكنتُ أشاهدُ ما يشاهده الرّاقد بأنني على أعالي منحدرٍ صخريّ مرتفعٍ أضحكُ بصوتٍ عالٍ، كانتْ أهوالي تشيرُ بأنني أخرجتُ آخر أنفاس ذاكرتي منذ مدٍّة، لقدْ سمحتُ للحاضرِ الدّنو أكثر إلى قطعةِ أجنّتي دونما مانع ودون تساهلٍ لأحد. كان المكانُ الذي أكون فيه هو ذات المكان، الذي أتوه أمامه لأسابيع وأسابيع. ثم ألقيتُ نفسي مباشرةً على أسفله بمقلٍ ناعسة مغمضة، وكنتُ عائما فيه كفيضِ مسقط ماءٍ أعور في ردمٍ مفتوحٍ على كل الأرجحات، ثم هوتْ أطرافه الواحدة تلو الأخرى في سيلٍ متناسق إلى أعماقٍ غير مأثورة، إلى أعماقٍ متروكة على ارضٍ متعفّنة، تلفُّ دماغٌ معطّل الإحساس بكمياتٍ غير صالحة من عقاقير الضّياع.
ازدردتُ ماضيَ وحاضري، وها أنا مستعدٌّ لازدراد ما ظلّ من سنيني. هذا الجسد النّاحب على مدّة من الدّهر ولّتني سبخاته، هذا المستنقع المرضع تبنّى سواه لزعامة مستقبله، وما كان لي غير الإيعاز له وهو يسحبُني بكلّ قوةٍ إلى ممراتٍ حالكة، هناك داخل مخّي. كان ذهني الفطري قد ارتدَّ تماما عن التّرشح لمسؤوليةٍ أخرى، لأنّ هذا الجسَد المُتشقّق فوق أيّامي لا يمكن له مهما يكنْ السببُ الثّباتَ أمام تيّاراتٍ تطلعُ من بين أنفاسي، لا أستطيعُ التّمهّل قليلا، لا أستطيعُ التعجّل، ولا أستطيعُ أن أكون مستيقظا،لا أستطيع حتى اللوْك البسيط للبان علق بين أسناني، تركته متردّداً بين تفّه أو ازدراده، لأنّ إحدى الحركتيْن قد تشوّش عليّ نعمة التّشدد والثّبات في مطرحي.
كأنها تحدثّني بكل زورٍ وخلاص، وكأنها تؤنبني على سحابة قد أفشتْ أنفاسي الباطنية بكل انتباهٍ، وما استقرت على الانتهاء منّي حتى عاجلتني بنتيجةٍ غامضة لذهنٍ ضاع بين تيهٍ أنا مختلقُه وأجيره والمسئول الأول والأخير على انغلاقه.
لا أقدرُ إزالةَ التّرابِ المكوّم على سحابةِ مقلتيّ، لا أستطيعُ حتى النّحيب على حالِي، لكنّ الدّموعَ رفضت إلا إن تهيج في محيا هذا الوضع، بنقطات جرّت معها رذاذ هذا الخادع من فوق غشاوتي، وفي هذا الوقتِ استيقظَ النّمر من نوْمه رافعا سلاحه لسلخِ جلدِ هذا الحال، لإطعامِ بطنٍ خاوٍ، رقدَ فارغا لمدة قليلة، أين فاضت الدماء إلى هذا الدماغ، الذي لا يزال قائما رغم ثوران كل هذه الفصول، ثم بدأ بتحريك أصابعي كإشارة لبدء التطهر من هذه المواد، التي لبستني لوقت غابر، وجعلتني جرذ اختبار لهذا الدهر.
نهضتُ في النهاية بخطى شوقٍ وعدتُ قليلاً للخلف، لتفادي بعض الأمور، تفقدتُ وضع حوْضي المسدود منذ مدّةٍ طويلة في ذهني، ملأتُ بطريّاتِ أيّامي استعداداً للقادم، الذي لنْ يكون هيّناً، وغصتُ لبعضِ الوقت في قراءةِ أسئلة هذا الزّمن في غمرةِ من الإحساسِ المختلط بطعمٍ غريب، بدأتْ أصابعي بحياكةِ دربٍ جديدٍ نحو الصّعود، لأنه في تلك اللحظات سهوت ُبأنني في قاعِ البرميل، وبأنني عمتُ لمدةٍ طويلة داخله في طريقٍ دائرية حتى تعبأت رئتاي بسُمِّ هذا الأخير، وما عليّ سوى العوم للأعلى داخل دواماتٍ متفرقة، والبحثُ عن الطّريقِ الثّابتة للرّجوعِ إلى الأعلى.
بغتة وفي لحظةِ اندهاشٍ طبيعيٍّ غارتْ جسارتي بقوةِ نورسٍ جائع هجمَ على سمكةٍ من قاعِ البحر، تمسكتُ بها رغم الكلوم، التي تسببتْ فيها مخالبه، وأنا على هذا الوضع والوجع يحزنُ قلبي، حتى ظهرَ لي مكانُ الانطلاق، الذي أقفُ فيه في أوّلِ اختبارٍ لي في هذه الحياة، بين رهطٍ كبير من رفاقي، وتبددتْ عنْ مقلتيّ تلك الغيمة السّوداء في لحظةِ نزقٍ، واستطعتُ بعدها العودةَ إلى ممراتِ الحياة، والبدء في دربٍ قويٍّ بين حيثيات معروفة، وبين حشودٍ عادية، وركبتُ أخيرا الحافلة لوجهتي المحدّدة، وتركتُ خلفي أحزاناً ما كان لي أن أختبرها لو صمّمتُ على وجهتي بكلّ منطق معق
|
ليست هناك تعليقات