" لقد نأت مابعد الفلسفةméta philosophie بنفسها بمرور الوقت ، وتكونت كاختصاص مستقل مكرس لكل أشكال تحليل الخطاب الفلسفي وبما في ذلك مقولات النظريات" -جورج ليرو-
لكي يفهم المرء التحولات التي تجري في الفلسفة المعاصرة أثناء متابعتها للمشهد الراهن الحري به أن يدرس نقاط الافتراق بين الفلسفة القارية والفلسفة التحليلية ومواطن الالتقاء والاستفادة المتبادلة بينهما.
تُعَدُّ الفلسفة التحليلية صورة متقدمة عن الفلسفة القارية وشكل من أشكال الانتشار الجغرافي والتناسل الطبيعي لها وتعتبر الفلسفة القارية بمثابة المصدر الذي انحدرت منه الفلسفة القارية وتفتحت في الخارج.
بيد أن المؤرخين أقاموا بينهما العديد من التمييزات المنهجية والمضمونية وأكدوا على الفروق في الاهتمام والتخصص والأساليب المتبعة خدمة لأغراض بيداغوجية توضيحية أو تأكيد لخصوصية فكرية حضارية.
إذا كانت الفلسفة القارية تنطلق من أولوية الرؤى والتصورات وتشتغل على مشكلات تاريخية ومنحرفة وتذهب في اتجاه النظر الواسع والمتعمق والشامل وتستخدم الرمز والاستعارة وتبذل جهودا أسلوبية دقيقة وتمارس التأويل فإن الفلسفة التحليلية تمنح الأولوية إلى الحجاج وتعود إلى الإشكاليات في طابعها المباشر وتبحث عن التوضيح والدقة والصرامة والإحكام وتؤثر الصياغة الأدبية وتفتش عن المقاصد الإيتيقية للكلام وتعلن عن أطروحات فلسفية بكاملها في جمل قصيرة وعن نظريات منطقية عبر عبارات مقتضبة.
من جهة أخرى تعرض الفلسفة القارية أطروحة معقدة وفق صورة مكثفة دون استعمال الأمثلة ولا تتمكن من التلفظ بها بصورة وافية إلا نادرا وتطلب من المتلقي أن يقطع المسار التفكيري الذي ذهب فيه المؤلف لكي يقتدر على فهم الأطروحة والإلمام بعناصرها وفحواها واقتحام التأويلات المختلفة التي أعطيت لها والذهاب في اتجاه المشاركة في تطوير صورة الواقع وشكل الحقيقة التاريخية وتستهدف تقديم رؤية شاملة تحدث انقلابا تحرريا في الفكر والواقع ولا تكتفي باقتراح أطروحة واضحة ومحدودة قابلة للبرهنة عليها.
أما الفلسفة التحليلية فتنطلق من فكرة بسيطة ساعية إلى إثباتها أو دحضها وتجعل كل عنصر من النظرية بسيطا من خلال الحجاج والبرهنة وتقوم بتوضيحه بشكل محدد والاستدلال عليه بصورة منطقية صارمة. كما تسمح هذه الاستدلالات بنقد الأطروحات المعارضة والرد على الاعتراضات التي تضاد الأطروحة المركزية والغاية من هذا الشغل المنطقي في التوضيح هو جعل الفكرة مقبولة منطقيا ومفهومة بشكل تام.
هكذا يتم استدعاء المستمع أو القارئ لكي يقوم بالتثبت والتحري والتدقيق في كل مرحلة من المراحل المنطقية من قيمة الحجج المقدمة حول الأطروحة ويتم التعويل على صلابتها المنطقية ومتانتها الحجاجية وليس على طابعها المفاجئ والأصيل لتبريرها وتسويغها ومنحها القيمة المعرفية والمعقولية اللازمة.
والحق أن الفلسفة القارية تتبع النموذج الأدبي للفيلسوف في مرحلة أولى والنموذج التاريخي في مرحلة ثانية وتتعامل معه من حيث هو مؤلف لجمة من الأعمال والآثار من ناحية وتؤكد على حضوره في الواقع وإصداره لمواقف واضطلاعه بمهام في الحياة الاجتماعية ويرافع على أفكار في مواجهة المجتمع وتعتبر الفيلسوف الحقيقي هو الذي يحصل على اعتراف من الجمهور الواسع ومن الوسائط الإعلامية المتعددة.
في حين يشترط أن يكون الفيلسوف في المجال القاري مختصا في مجموعة من المشاكل الفلسفية بعينها وأن يتبع نموذجا جامعيا وأن يتخذ لنفسه منهجا صارما ويبحث عن الاعتراف الأكاديمي عبر مناقشة أعماله من طرف نخبة من المختصين دون أن يعمل على تبليغ مؤلفاته إلى جمهور عريض من المتلقين.
في الواقع تميزت الفلسفة القارية باهتماماتها المتنوعة حول الميتافيزيقا والمعرفة والأخلاق والفن والعلم والسياسة والقانون والمجتمع ولقد أدى بها هذا التعميم إلى التطابق مع الفلسفة الرسمية للمؤسسة التربوية والفضاءات التعليمية ومخابر البحث في الجامعات والمعاهد والصالونات الثقافية والمنابر الإعلامية.
في المقابل تنظر الفلسفة التحليلية إلى الفلسفة القارية على أنها اختصاص فلسفي ضمن بقية الاختصاصات وتعتمد على منهج التحليل المفهومي بشكل أساسي وأولي للقضايا المنطقية ولغة المعرفة العلمية والعادية. لقد اعتبرت فلسفة اللغة المنهج الأساسي للفلسفة التحليلية وتنحدر من الوضعية المنطقية والفلسفة التجريبية وتضم مباحث الفعل والذهن والإيتيقا والحق والواقع والتقنية والديني والدلالة والقصدية والسرد والرمزية.
بيد أن الفلسفة الخالصة لا يمكنها أن تتقدم برأسين متعارضين القاري والتحليلي ولذلك تجد نفسه في حاجة إلى العمل على توحيد المجهود الفلسفي ضمن مطلب الكوني من خلال بناء جسور رمزية بين المعسكرين. إن التمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية يعود له الفضل على الأقل في منج بعض من الترتيب للتفكير في الفلسفة المعاصرة من جهة طرق اشتغالها وأدوات تحليلها ومقاصد مقاربتها وحقول تجريبها.
في الواقع يؤدي التفكير المضاد للفلسفة إلى تكريس الاستسلام الفكري ومضاعفة ثقافة الهزيمة ونشر النزعات الهادمة للقيم والذات والنافية لكل إمكانية الحضور والتأثير والتغير للمناهج الفلسفية للواقع الاجتماعي والمكتفية بالتنظير للفكر الضعيف والتبشير بالهشاشة المعرفية والسيولة الحداثية واللاّيقين. فكيف يؤدي الاتجاه إلى مابعد الفلسفة الذي يراهن عليه بعض التقنيين إلى الخروج من كل فلسفة؟
ليست هناك تعليقات