التقديم :
.........
الكل يعرف صوتها ولم يرها طيلة عقود من الزمن لكونها كفيف البصر ولقد نقشت اغنيتها الرياضية المعروفة إلعب ياحبيبي
نقشا في أذهان كل العراقيين الذين كانوا يتابعون بطولات كأس العرب وكأس الخليج في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
وغيرها من الأغنيات الكثيرة التي مازالت عالقة في ذاكرة الناس ممن عاصروا هذه المطربة الفذة .
هنا لايسعنا إلا أن نسلط الضوء على جانب من حياتها علّنا نعيد للأذهان ماغاب عنها .على الرغم من إنّها مازالت على قيد الحياة لكنها آثرت الإختفاء عن الجميع لانحدار مستوى الكلمة واللحن في هذه الأيام التي لم تعد تحتفظ بألق الأمس.
علاء الأديب.
الولادة والنشأة :
...................
من المؤسف أن لا نعثر على معلومات تشير إلى تاريخ ولادة المطربة هناء مهدي ومكان ولادتها وهذا قد يعود الى تهميش هذه المطربة الكبيرة وقد يكون هذا لكونها كفيفة البصر. بل حى صورتها لم تظهر للناس إلا مؤخرا .
عاشت هناء في بيت فني وعائلة يحيطها فنانون كبار امثال ازواج اختيها الفنان الكبير خزعل مهدي والفنان الكبير جميل قشطة زوج اختها الاخرى فقد نالت من هؤلاء الرعاية والاهتمام والخبرة في الغناء والموسيقى وكان الفنان خزعل مهدي هو اول من اكتشف هناء ولحن لها وعرفها على الوسط الفني والجمهور العراقي وقد عينت في الاذاعة في قسم الكورال .إضافة الى إنّها شقيقة الفنان حسين قدوري.
هناء مهدي ليست شقيقة الملحن الكبير خزعل مهدي :
..............................................................
الكثيرون يعتقدون بأن المطربة هناء مهدي هي شقيقة الملحن الكبير خزعل مهدي ولا أساس لصحة هذا الإعتقاد حيث أن ششقيقها هو الفنان حسين قدوري .وإن الملحن خزعل مهدي هو زوج أختها الكبرى الذي اكتشفها والتزمها ولحن لها أغلب أغانيها ومنحها أسمه لإعجابه بصوتها وساعدها كذلك على دخول الإذاعة .
هناء المطربة وعازفة العود تتعرض للظلم :
.....................................................
لقد ظلمت هذه الفنانة الكبيرة حالها حال الكثيرين من المواهب المبدعة لكونها ضريرة ولم تسلط عليها اضواء الاعلام ولم يهتم بها المسؤلون رغم إنها من الفنانات الاتي ليس لهن مثيل لصوتها العذب وخبرتها في الغناء وثقافتها الموسيقية في معرفة الانغام والمقامات وطبقات الصوت وتعزف الة العود فلوكانوا قد اهتموا بها واعطوها فرصة واهتماما اعلامياً اوفر لكانت شهرتها لاتقل عن شهرة ام كلثوم او وردة الجزائرية وغيرهن من النجمات العربيات .
هناء والإذاعة :
.......................
دخلت الإذاعة والتلفزيون فتاة ضريرة مطلع عام 1960 لتنضم إلى فرقة الانشاد العراقية وكانت تغني ضمن الكورال وقد جيء بها من قبل الفنان الراحل والملحن الكبير (خزعل مهدي) وحينها تبنى موهبتها لمعرفته بقدراتها الهائلة وهي شقيقة زوجته وأراد أن يمنحها طاقة وقدرة للسعي وتعويضها فقدانها البصر وهي كفيفة منذ طفولتها، كانت صاحبة حنجرة ذهبية لن تتكرر أذهلت كل من سمعها للوهلة الاولى .
صوت هناء يذهل بيلغ حمدي :
.......................................
حين زار الاذاعة الموسيقار بليغ حمدي واثناء تجواله في الاستوديوهات مع الراحل طالب القرغولي والراحل محمد عبد المحسن وخليل ابراهيم وفنانيين ومسؤولين اخرين وفنانو الاذاعة والتلفزيون كانت الفنانة هناء تغني ابتهالا دينياً في استوديو الموسيقى فهرع بليغ لسماع صوتها فترك الجميع الذين كانوا باستقباله وهو يقول بصوت عالي ( الله الله ايه ده الصوت الملائكي ده جاي من السماء ولا ايه) فدخل الاستوديو وهو يستمع لغناء هناء الذي اذهله حتى انتهت من الابتهال الديني وجاء اليها باكيأ لرهبة صوتها وسلم عليها بحرارة وفرحت حين عرفت انه العملاق بليغ حمدي الذي اثنى على صوتها وقد التفت الى الراحل طالب القرغولي وقال له (يااستاذ طالب ده كنز مليان ذهب والماس كنتم فين مخبيينو) والتفت اليها وقال لها فرصة طيبه ياست ويشرفني ان يكون بيننا عمل مشترك ففرحت هناء وقالت وانا يكون لي الشرف استاذ وقد بكت من فرحة اللقاء واعجاب بليغ بصوتها .فاحنى عليها حمدي مكفكفآ دموعها وقد ودعها بحرارة وهو مبهور بصوتها ولكن ومع الاسف لم يعر المسؤولون اي اهتمام لهذا الموقف ولم يستغلوه لكي يدعموا هناء ويستثمروا هذه الفرصة التي لاتتكرر. تخيلوا ان هذه الفنانة الكبيرة وهي تغني من الحان هذا الفنان الكبير لكانت اول فنانة عراقية تغني الحان لبليغ حمدي.
هناء وإرثها الغنائي :
........................
تركت هناء إرثا غنائيا أصيلا لكلمات كتبها خيرة الشعراء ووضع ألحانها نخبة من الملحنين الافذاذ، فقد تميزت المطربة هناء مهدي بصوت شجي يتمتع بجاذبية قل نظيرها لما فيه من نبرة تجعل الاذن وهي تستمع مستريحة الاستقبال والاذعان لها وتشد كل من سمعها لكون حنجرتها خالية من النشاز فيها من الصفاء وامتلاك النبرات الجميلة في طبقاتها الصوتية وهي الاكثر ملاءمة للتعبير القريب من الاحساس والشعور وكأنها خلقت لها كل مقومات النجاح والتفوق الموسيقي للمتلقي وهذا ما أعطاها صفة الغناء الذي لا يقبل الخدش والتخبط فكانت حنجرة ذهبية خالصة من العيار الثقيل بكل ما تعنيه الصفة والتشخيص.
هناء تخترق قلوب محبيها :
...................................
انفردت هناء لاول مرة بتسجيل أغنية وطنية سنة 1963 بأول تجربة لها واستمرت بهذا المجال حتى انفتحت لها أبواب الشهرة ولم يكن يعرف غالبية العراقيين أن صاحبة هذا الصوت الملائكي هي فتاة مكفوفة فقدت بصرها منذ الطفولة.
واستمع الناس لصوتها بإحدى الاغاني الرياضية وكانت أغنيتها الخالدة الشهيرة وقد غنتها بكل ما تملك من إحساس مرهف ونقاوة وصفاء عبر حنجرتها الذهبية يقول مطلعها (العب يا حبيبي اتمرن، ألعب بالطوبة اتفنن.. يعجبني أشوفك لاعب واسمك يملي الملاعب) كانت بعام 1966 بمناسبة اشتراك العراق في بطولة كأس العرب. لتكون الاطلالة التي أطلت بها على مستمعيها الذين أحبوها وعشقوها من ناقذة صوتها الساحر وبعدها عرفوا حالتها وتأسفوا حزناً لهذا الصوت النسوي العراقي الجديد على الساحة الغنائية والفريد بالاداء والامكانية العالية بأنها لم تتمكن من رؤية جمهورها .
صباح الخير خالدة هناء مهدي :
......................................
تألقت هناء في الاغنية الصباحية وتنفرد بها بالافضلية بعدما غنت (صباح الخير) لتذاع صباح كل يوم تقول مطلع الاغنية: «..يا بشرة سعادة وخير قلي حبيبي صباح الخير.. خطف عليه ومال وجدد الامال.. من فرحتي راح اطير ويه الهوى والطير.. قلي حبيبي صباح الخير.. صباح النور». وتعتبر هذه الاغنية التي كتب كلماتها ولحنها أيضاً الراحل خزعل مهدي واحدة من الابداعات الفنية التي تؤكد أن هنالك الالاف من الاغنيات تتلاشى ولم يعد لها ذكر .. تقابلها أغنية واحدة تبقى خالدة ولن تمحى من ذاكرة المتلقى والجمهور لانها تمتلك كل مقومات النجاح والاصالة..وهذا ما كان في رائعة (صباح الخير) صامدة وشامخة بقوة حتى وقتنا الحاضر. وبالرغم من عدم تسجيلها بالصورة مع الصوت لكونها ضريرة ومقلة بالظهور صورياً عبر التلفاز لكن المخرجين يستعينون بمشاهد تصويرية لتسجيل أغانيها الا ان عذوبة الصوت الاكثر جاذبية للمشاهد .
على شواطي دجلة مرّ
..........................
بعد أغنية (صباح الخير) جاءت رائعتها أغنية (على شواطي دجلة مر، يا منيتي وكت الفجر) التي اصبحت ضمن الموروث الفلكلوري تغنى بصوت فرقة الانشاد العراقية لما فيها من جمالية تختزل بها كل ما في الطبيعة الخلابة لنهر دجلة الخالد.
ماجينة ياماجينة :
......................
وخلدت أغنيتها الرمضانية (ماجينة يا ماجينة.. حل الكيس وانطينه) واحدة من اروع الاغاني البغدادية وكان لصوتها قد جمع نبرة طفولية تكاد لا تتوفر لمعظم مطربات العراق منذ ولوجهن الغناء وحتى الآن.
الأغنيّة المفقودة :
........................
تم العثور في قسم الموسيقى في المؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون على اغنية مفقودة لأم كلثوم.. كانت قد ادتها في زيارتها لبغداد على احد المسارح العراقية.. بالطبع لم يتم العثور على الاغنية بصوت السيدة بل عثر على مخطوطة دونت عليها (النوتة) الموسيقية للاغنية وكذلك كلماتها.. ومن خلال البحث عن الاغنية في مكاتب الاشرطة في العراق والقاهرة ظهر انها مفقودة حقا.. وقد وقع الاختيار على صوت المطربة هناء لتقديم هذه الاغنية.
هناء أول مطربة عراقية غنّت المقام العراقي :
.....................................................
كان صوتها العذب مكملاً لثقافتها الموسيقية وعلومها بالمقام العراقي. وهناء مهدي هي اول من اجاد المقام العراقي بصوتها وتفننت فيه من حيث الاداء والابداع في نقل صورته بصوت نسائي وذلك يحسب لها ولقدرتها بهذا المجال. كما غنت اشهر اغنيتين للراحل الملحن الكبير طالب القره غولي وهي (يا حبيبي) وأغنية (باجر تمر) من كلمات الشاعر الكبير زامل سعيد فتاح وهي من اجمل الاغاني التي تقول :
يكلون باجر تمر ضحكة فجر عالليل.. يكلون باجر تمر ضحكة وقصيدة وهيل
يكلون باجر تمر وجهك طفل وازهر.. وبوجنتك شمس الضحى وبشفافك العنبر .
هناء تغني القصيدة :
.........................
لها من القصائد المغناة الكثير ومنها: قصيدة (أيها النائي) وقصيدة (يا نسيم البدر)وأغنية (على بالي) وأغنية (تندم على الفات والراح) وأغنية (كلما اشوف الكمر او اسمها لا لا تصحوني)وأغنية (خليني احبك) وأغنية هذا نور الفجر لاح .
في إجابة لهناء عن دخولها الإذاعة:
.........................................
في عام 1960 دخلت الاذاعة لأول مرة.. وعملت في فرقة الانشاد العراقية.. واستمرت بالعمل مع الفرقة حتى الان.. ولكنني عام 1963 قدمت أول اغنية لي بعد ان شعرت بقابليتي على الغناء المنفرد.. كانت الاغنية بعنوان (منذورة) وهي من الاغاني الوطنية.. بعد ذلك قدمت عدة اغاني عاطفية لعدة ملحنين من بينهم خزعل مهدي وناظم نعيم وطالب القره غولي .
هناء تبتعد عن الفن في آوج العطاء :
...........................................
لقد ابتعدت الفنانة الكبيرة هناء عن الفن والغناء لكون الفن اصبح لايرتقي لطموحاتها ولالمتذوقين الطرب الاصيل لما وصلت به المواصيل من استخفاف في الكلام والغناء والحان واصوات لاتمت بصلة الى الاغنية العراقية الملتزمة والمتحشمة والتي لها تاريخ مشرف بناه اعلام الفن العراقي عبر سنين طوال . فكانت لهناء وعلى شاكلتها من الفنانيين الكبار طريق الصمت احتجاجآ على مايمر به الفن العراقي من هجمة شرسة على كل المستويات سواء في الغناء والموسيقى او في المسرح وغيرها من الفنون والثقافة العراقية والتي استهدفت من قبل الاحتلال واعوانه .لكونها تحمل ثقافة شعب عريق حتى بات الفنانون انفسهم في خطر جسيم لكونهم يحملون ارثآ فنيآ عراقيآ كبير فالكثيرون منهم في مربع الخطر فهاجر من هاجر واغتيل الكثيرون منهم على يد العصابات المجرمة واهمل الاخرون حتى قطعت رواتب البعض منهم ولم يعد لهم مكان في بلادهم فهاجر من هاجر وعانى من لايستطيع الهجرة من العوز والمرض ومات بصمت. هذا هو حال الفنان العراقي الذي لم تنصفه الحكومات اواي منظمة انسانية لحقوق الانسان لحمايته اوحماية ارث العراق الثقافي . فماكان من هناء وغيرها سوى الاختفاء والتزام الصمت والدارخوفآ على حياتهم من قبل العصابات المجرمة .
عن سر استمرارهناء مع فرقة الإنشاد مع انها قد حققت شخصيتها كمطربة.
..........................................................................................
تقول :انني احس من خلال عملي كمنشدة بانني مرتبطة دائما بعالم الاغنية عبر المشاركة مع كل الاغاني التي يسجلها المطربون والمطربات من الشباب .. انني اعتبر عملي في (الكورس) عطاء فنيا ايضا.. اضافة الى انني لا يمكن ان اقدم كل سنة لحنا جديداً.
عن أدائها للمقام العراقي رغم صعوبته تقول:
...................................................
لا اعاني اذا قلت انني استطيع تقديم كل الالوان الغنائية.. الشعبية والحديثة والحزينة.. وحتى المقامات
وقد غنيتها بالاشتراك مع المطرب (عباس جميل) وانا اول مطربة تغني المقام العراقي.. وغناء المقام العراقي بالطبع صعب ويحتاج الى قدرة فائقة على الاداء.. الا انني اديته بارتياح وسهولة.
عن تقييم هناء لفرقة الإنشاد تقول:
........................................
لقد بلغ عدد المنشدات والمنشدين حوالي الاربعين بينهم (ست) منشدات وهذا العدد غير كاف وخاصة بالنسبة للعناصر النسائية، ويبدو انه بالرغم من ان الفتاة قد اقتحمت كل ميادين العمل الفني الا ان فرقة الانشاد ظلت تعاني من قلة الاصوات النسائية.
وعن المطربين واصواتهم تقول :
...........................................
يعجبني صوت مائدة نزهت وغادة سالم.. اما المطربون فان اغلبهم يمتازون باصوات جميلة وطاقات هائلة.
يجب الحفاظ على الأغاني العراقية :
..............................................
تقول في رأيها عن تطوير الأغاني القديمة :
ان ما يسميه البعض تطويرا للاغنية العراقية ليس تطويرا حقيقيا لها.. لانه يتم بتغيير الاغنية والتصرف بها كما يريد الملحن لو يتخيل المؤلف.. ان هذه الالحان كنوز خالدة ويجب الحفاظ عليها بكل اصالتها وليس التصرف بها حسب الامزجة.
مازالت هناء مهدي على قيد الحياة وهي تسكن بغداد منعزلة عن العالم لايعرف أحد عنها شيئا.
نتمنى لها الصحة والسلامة ونسأل الله أن تشرق على عشاق صوتها من جديد .
وإلى لقاء آخر من سلسلة
{فنانون منسيون من بلادي }
أستودعكم الله.
علاء الأديب
تونس / نابل
ليست هناك تعليقات