يعي محمد دغلس أن فعل الكتابة مدخل أساس لنقد الذات والمجتمع اعتقاداً وسلوكاً وممارسة، وأوهومساحة ضرورية للحرية حين تسمح بتعدد الأصوات والمواقف واللغات، بل حين تستطيع إنشاء العالم وبناءه من الأفكار والكلمات.
وقد تراوحت طريقة السرد في رواية دغلس «تصبحون على انتظار» بين سرد إطار يقوم به السارد، واسترجاعات يقوم بها السارد والشخصيات، تلك الاسترجاعات التي تظهر في بعض الأحيان على شكل اعترافات، إما بدافع من السارد لإضاءة وضع ما أو علاقة ما، وإما بدافع من الشخصيات التي تحاول أن تفهم شيئا ما في حياة الشخصيات الأخرى. وفيما يتعلق بتوظيف الهاجس الشعري لمنح الاسلوب السردي خصوصيته، فقد تمكّن الكاتب من منح نفحات الشعر حضوراً متدفقاً ومؤثراً في معالجة الأحداث والمواقف المادية والنفسية في آن، واستطاع أن يزج الشعر بمناطق عديدة في الرواية، حيث يغلب مثل هذا الأسلوب على مساحة السرد.
والشخصية في هذه الرواية شخصية منفردة في علاقتها ببقية الشخصيات، ففي فضائها تتحرك الشخصيات دون أن تملك عالماً مستقلاً تتحرك فيه بأفكارها وآرائها وأصواتها. ومن الضروري أن تكتسب الشخصية الروائية صفاتها نتيجة الممارسة وبشكل متدرج، أي أن تصل إليها عن جدارة وبسبب الأفعال التي يولدها الحدث الروائي، لا نتيجة ما يضفيه عليها الروائي من صفات، وهذا يعني مقداراً من الحياد العاطفي بين الروائي وشخصياته بحيث يتاح للقارئ أن يستنتج الصفات لا أن يلقنها، ويقتضي أيضاً مسافة بين الروائي وهذه الشخصيات للتعرف ضمن شروطها، فالشخصية الروائية قطعة من الحياة أو هكذا يجب أن تكون.
وفي جو من الغموض والتشظي تظهر الكثير من الشخصيات الرئيسة والثانوية على مسرح الأحداث في رواية «تصبحون على انتظار» والتي تتسم بالتكثيف، والابتعاد عن تقنيات السرد التقليدية، وتنهج أسلوب تجريد الأشياء والأحداث في إطار تحليل التاريخ، والانتقال بالسرد من إطار وصفي زمني الى إطار نفسي فلسفي، يحطم كلاسيكية المكان والزمان بعيداً عن الانشغال بنقل التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية للشخوص.
ولم يحصر الكاتب البطولة في شخصية محددة في الرواية، إذ انعدمت البطولة الفردية في الرواية وتوزّعت على العديد من الشخصيات في مستوياتها المختلفة، وكان الاهتمام يتناول جوانب مختلفة من حياتها وعلاقاتاتها وتفكيرها، لكن التمركز والتمحور انصبّ على «ميلاد» و»ياسين» و»بيسان»، وهي من الشخصيات التي كانت تنكشف علينا بالجديد مع كل فصل فتثيرنا وتشدنا وتدفعنا لطلب المزيد من التفصيلات.
ويمكن القول إن كل الشخصيات في الرواية معطوبة نفسياً، فانعكاس الاحتلال على حياة هؤلاء الأشخاص ليس انعكاساً مادياً بفقدان بيت أو مكتبة فقط، بل وأيضاً بفقدان هويتهم الداخلية، فلا بوصلة تدلّهم على نقطة ارتكاز على الأرض، الأحباء مهددون بالرحيل كالوطن والأصدقاء ربما يموتون في أي لحظة، كل شيء مهدد بالسقوط وهذا هو الأثر الأكبر الذي يتركه العدو مهما كان هذا العدو. وفي هذا المقام ثمة ملاحظات يمكن سوقها حول بعض الشخصيات الأساسية في الرواية.
فـ»بيسان»، المنغلقة على ذاتها، المتكفّنة بالذكريات وبأشياء موتاها، قابعة في البيت تخشى التعرف على أحد جديد، وكانت زيارة قبر زوجها أول مشوار لها، فقد كانت تؤمن بزيارة الأموات أكثر من الأحياء.. عدم تقبل موت زوجها هو ما جعلها تقبع في البيت لا تقتات إلا على الذكريات وتحشو بيتها بأشياء من أحبت. وتهيأت لزيارة قبر زوجها وكأنها قد ضربت موعداً معه. ارتدت سواداً باذخاً بفرحه على حد قولها وبدأت حوارها النفسي بكثير من الحب وكأنها ذاهبة إلى موعد حب وليس إلى زيارة قبر، ذلك أن هذا القبر يحوي رفات من أحبت. ودهشت حين رأت الصبية «يارا» إلى جانب القبر وأحست بالغيرة، فهي تعشق زوجها الى درجة أنها تآكلت غيرة حين رأت صبية تقاسمها قبره.
أما «يارا» فهي صبية مفعمة بالحياة، صحفية تريد دوماً أن تجعل من الذاكرة وطناً. وهي الخيط الوحيد الذي أعاد «بيسان» إلى الحياة عبر الورق. «يارا» التي جاءت إلى المقبرة كي تسدد وفاءها لكاتبها المفضّل «ميلاد»، وهذا ما جعل «بيسان» تفتح لها باب قلبها قبل باب بيتها، فهي أحبت «يارا» لوفائها الورقي لـ»ميلاد». «بيسان» المكسورة تستعيد حياتها عبر «يارا» التي قالت لها: «الذاكرة تموت إنْ لم نُهْدِها ورقاً، فليكن الورق علاجك النفسي».
وهناك شخصية «حبق»، صديقة «بيسان» الوحيدة التي خسرت قدمها من أجل زوجها «ياسين»، والتي أرادت أن توثق الوطن بذاكرة من الصور، وهي التي حُرمت من مهنتها كمصورة حين خسرت قدمها.
أما «ياسين» فقد آمن أنّ السفر الحقيقي هو في داخلنا حين خرج من السجن معطوباً من الداخل.. وحين أراد الذهاب إلى رحم مدينته لم يجد ملامحها فاستوطن المحطات تلك التي تحلم بالسفر وهو الذي يسافر دوماً.. هناك حيث يراقب الغرباء على مهل.. والمحطة لا تؤوي إلا العابرين.
وبالنسبة لـ»ميلاد»، فهو يتيم عاش بالميتم ثم أخذته راهبة للعيش معها، وتعلّم أن الدين ليس هو العائق بين البشر، بل البشر هم العائق، فكانت علاقته عمودية مباشرة بالله لا أفقية محاطة بالبشر وانقساماتهم، فحين ننعطب من الداخل نتوحد مع العالم أجمع.
وفي ما يتعلق بحوار الشخصيات، تأخذنا الرواية عبر فصولها المقترحة، صوب رحلة وجودية أبطالها نماذج بشرية تتقاطع في ما بينها هوية وموضوعاً وتجربةً، كما يؤثث فضاءها التخييلي توالد أحداثها وتعاقب مشاهدها بين ماضٍ وحاضرٍ ومستقبلْ. فخلال كل فصل، على حدة، نتعرف إلى شخصية، تقدم نفسها كصوت سردي مستقل بذاته، داخل فضاء مكاني محدد له خصوصياته وتجلياته، الواقعية منها والرمزية.
وأول صوت سردي افتتحت به الرواية حكايتها، كان صوت «بيسان» وهي تحاور ذاتها بخصوص زيارة قبر زوجها «ميلاد». وتبعاً لذلك فقد واصل السارد توزيع الأدوار في الحوار ما بين «بيسان» و»يارا» و»حبق»، وفي خضم حالات التذكر والاسترجاع تلك، يعرض السارد لأهم الأحداث التي شكلت تحولات جذرية في مسار حياة «بيسان»، وأثناء الحوار تقرر «بيسان» أمام صديقاتها أن تكتب روايتها الأولى.
ولم يُغفل دغلس أهمية الحوار، هذا العنصر المهم في بناء الرواية، بخاصة أنه اعتمد في رسم شخصياته مهمة التركيز على موقف الشخصية المتفرد، فضلاً عن اشتراكها مع الشخصيات الإنسانية الأخرى في الرواية، حيث تدور حولهم حوادث القصة، ويمثلون مدار المعاني الإنسانية ومحور الأفكار والآراء عبر ما يجري من حوار.
وقد جعل الروائي من الحوار وسيلة لإظهار خصائص الشخصية «المتفردة» وعرض وجهة نظرها المتميزة والمبتكرة إزاء الأحداث والمواقف المحيطة، وبالتالي فإنه يرسم للشخصية نفسها موقفًا فاعلاً ومؤثراً من مجريات الواقع. ولا شك في أن هذا التوضيح لطبيعة تشكيل الأبعاد الخاصة للشخصيات وتقنين حركتها الحرة المستقلة والمبدعة في الواقع، يكشفها حوارها المتصل عبر طريقة استخدامها للّغة وتنسيق الأفكار وزوايا الرؤية ومجالات المواقف الخاصة والعامة.. وبالتالي فإنه يدل على ردود فعل مميزة للشخصيات، وهو من هذه الزاوية يتصل اتصالاً وثيقاً بالمواقف بصورة مقنعة فيطور المواقف ويكشف طبيعة الشخصية -المتحدثة والفاعلة- في آن واحد، ولهذا فقد لجأ دغلس إلى تنويع أسلوب الحوار وفق ما يتحمله وعي الشخصية وواقعها الحياتي.
كما إن هناك حضوراً قوياً للبوح في الرواية، إذ تبوح الشخصيات لبعضها بعضاً بشكل واع، وبشكل تلقائي، لوجود أشياء تتقاسمها، ووجود حقل نفسي مشترك هو الذي يدفعها إلى البوح. والبوح هنا بمثابة تداعيات حرة بلغة التحليل النفسي، لكنها تداعيات إرادية، تبوح الشخصيات بالمسكوت عنه وتبوح بكل شيء، تبوح بخيباتها وفشلها وإحباطها وعجزها. وفي الرواية يبدو البوح علاجاً للشخصيات يزيل عنها عبئاً ثقيلاً كما هو واقع الحال بالنسبة لـ»بيسان».
وفي سياق استكمال بناء المعنى، ومثلما حضر صوت الرجل، يحضر صوت المرأة، مع نماذج أخرى ذات صلات قريبة أو بعيدة بالأصوات الذكورية السابقة. يحضر صوت المرأة بشكل خافت، من خلال تجارب نسائية أخرى (الجدة، العمة فدوى، يارا، حبق، بيسان)، فقد منحهن الكاتب فرصة الظهور على مسرح الاحداث وأعطى بعضهن فرصة الحديث عن تجربتهن في علاقتهن بالآخر.
ليست هناك تعليقات