ثمة قراءة مبتورة تكتفي بتقديم سيف الرحبي شاعراً، دون النظر إلى منجزه الكُلِّي بعينٍ أكثر تفحصاً، وبذلك تَفقد مثل تلك القراءة فرصة الإلمام بما ينتجهُ هذا الأديب العُماني، الذي صهرَ أقانيم الكتابة المختلفة في أتون القصيدة، فوظَّفَ في سياقِ تفاعلاتها المشهد السينمائي، والسرد، والنص المفتوح، الأمر الذي يجعل القارئ أمام مُنتج إبداعي متفرِّدٌ بخصائصهِ.
فضاءات جديدة
ما يجعل منجزَ الرحبي على تلكَ الصورةِ، تلقائيتُه، وتدفُّق النصّ بشاعريةٍ لا تتقيَّدُ بضوابط الأسلوب؛ فلا حدودَ للتعبير ولا قوالبَ جاهزة. والتجريبُ والبحث عن فضاءات جديدة، هو نوع من التجديد يفتقدهُ من يكبله الشكل والتقوقع ضمن أطر محددة.
ورغمَ ريادته في القصيدةِ الحديثة، إلا أن صاحب مجموعة «رأس المسافر»، لا يتوقفُ عند حدودِ ما وصلَ إليه في «منازلهِ الأولى»، بل ينحتُ شكلاً، ويبتكر مضموناً مغايراً للسائدِ والمألوف، فنجدهُ يبحرُ دوماً نحوَ فضاء ملحمي، يتضمنُ أجناساً أدبية متنوعة، من ومضات شعرية، وحوار بين شخوص النص، وسردٍ، ومشهدية عالية قادمة من ثقافة سينمائية يُعتَدّ بها..، وهكذا في توليفةٍ تتعدد فيها أشكال الفعل الإبداعي ومضامينه.
ولأن الصورة على هذا النحو، فإن الرحبي كسر ثوابت راسخة في مدرسة «قصيدة النثر»، التي يعدُّ أحد أهمِّ روادها؛ فأوجدَ في نصِّهِ المفتوح ما يجمع شروطها، من تكثيفٍ وإيجازٍ، إلى جانبِ السرد والنثر، خارجاً بذلك من ضيق التصنيف النقدي، إلى فضاء التعبير الأوسع، ليكتبَ بتلقائيةِ إيقاعهِ الحر، الذي يتأملُ فيهِ الحياةَ والوجود.
أثر المكان
تعكسُ نصوص الرحبي الشعرية، والنثرية، تكوينه الأول، الفطري، الذي تشكّل في بيئةٍ بكر لم تلوثها يدُ بشرٍ؛ ففي قريته «سرور»، في الداخل الحجري في عُمان، الصحراء، حيث المكان الأكثر تأثيراً في الشاعر، إذ يعيدُ تشكيلها في نصهِ ضمن رموزٍ شخصية وجمعيَّةٍ، باعتبار أنها ترتبطُ بالعربِ، واقعاً، وتاريخاً.
يقول الرحبي في إحدى قصائده:
«
في هذه الصحراء العاتية
الصحراء التي تسيلُ مع الشمسٍ كثباناً وشياطينَ
تناسلَ الأسلاف جَدّاً بعد جَدّ
ونَبتْنا مصْلَ أشجارٍ صخريّة
راكضين بين الشاطئ والجبال
بأرجل حافيةٍ وقلبٍ مكلوم».
إلا أن صاحب مجموعة «
رجلٌ من الربع الخالي»، لم يبقَ أسيرَ الصحراء؛ فهو ابنُ مطرحَ، البندر، والبحر، والنوارسَ، وقصص الصيادين، والغزاة، والتجار..، وفوق هذه العناصر، يأخذ الماء في نصوصه بعداً دالّاً على الموتِ، والخصبِ، والحياةِ:
«
ضمّد المطر قروحَ المدينةِ
بقبس من أبديّةٍ.. عابرة».
الجبالُ تمثلُ الضلع الثالث للمكان في شعر الرحبي؛ فعلاوة على كونها ملمحاً أساسيّاً في هوية عُمان الجغرافية، فقد وظّفها الشاعر في نصوصهِ ضمن رموز عدة، أهمّها ما تمثّلهُ من تحدٍّ، ومن ذلك قوله:
«
أيها الجبل الأخضر
يا جبل الكور وجبل شمس
ويا جبال ظفار الشماء
التي تتناسل في أحشائها النمور
أيتها الجبال العمانية
توائم الأحقاب
وقرة عين الأزلية
منذ أزمان وأزمان
ونحن نصعد إليه
لكننا لا نصل!».
سيمياء العنوان
العنوان هو أول عتبة تلتقطها العين، إلى جانب الغلاف، وما يحملهُ من تشكيل وإضاءة وتوزيع للألوان؛ وفي حالةِ الرحبي، فإن سيمياء العنوان، ينطبق عليها ما قاله العالم اللغوي ابن سـيده الأندلسي في معجمه (المخصص) بأن «العُنوان والعِنوان والعُنيان سمة الكتاب»؛ أي علامته، والمدخل إلى رحابه، والعنصر البارز فيه.
لا تخلو عناوين الرحبي الشعرية من دهشةٍ في سمةِ تشكيلها، فهي تدعو إلى التأملِ، وتفكيكِ رمزيتها؛ فعنوان مجموعته الأولى «نورسة الجنون»، الصادرة في دمشق 1981، أثارَ جدلاً بينَ النقاد، حول تأنيث اسم النورس، الذي رأى بعضهم أنه لا يؤنَّث، وينسحب الأمر على عناوين لأعمالٍ شعرية أخرى منها؛ «رأس المسافر» (1986)، «مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور» (1988)، «الجندي الذي رأى الطائر في نومه» (2000)، «يد في آخر العالم» (1998)، «مقبرة السلالة» (2000)، «حيث السحَرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة» (2009).
تمثلُ هذه العناوين/ العتبات، مضمون النصوص الفائضة بالدهشةِ، وهو العنصر الأكثر جماليةً في قصيدةِ النثر الذي يدفعُ بالقارئ نحو التأمل، وتفحصِّ المعنى حمّالِ الأوجه. وفي ومضاتهِ ونصوصهِ الشعرية، كثيراً ما يجسد الرحبي هذه الجمالية.
ليس مجرد شاعر
تعكسُ أعمال الرحبي تنوع خياراتهِ الكتابية؛ فمنتَجه لا يقتصر على الشعر، فهناك أعمال تنتمي إلى أدب الرحلات كما في كتابهِ «سناجب الشرق الأقصى - مقاهي باريس» (2014)، وثمة أعمال تتخذُ تجنيساً مزدوجاً كما في «شجرة الفرصاد» (2016)، إذ رغمَ وصفها بـ»من سيرة المكان والطفولة»، باعتبار أن الكتاب «سير-ذاتي»، إلا أن تقنيات الكتابة، ودقة الوصف للمكان والزمان والشخصيات، واتكاء المؤلف على «أنا الكاتب/ الراوي العالم العارف»، تصبغ العمل بطابعٍ سرديٍّ حكائي، وظَّفَ خلالهُ الرحبي قدراته اللغوية، وملكاته التعبيرية، ليضفي على بنية النص جوّاً شاعريّاً.
ويضاف إلى ما سبق، كتاب «الحياة على عجل» (2009) الذي يجمع مقالات الرحبي وتعليقاته على الأدب والفن، واستذكاره ِلوجوه الأصدقاء الغائبين، وشتات ذاكرته المبعثرة في أكثر من مدينةٍ وركنِ مقهى وقارعةِ طريق.
وتمثلُ هذه الأعمال الأدبية فرصةً للإحاطة ببيئةِ الرحبي، انطلاقاً من قريته، ثم تنقله داخل عُمان، وصولاً إلى مرحلة دراستهِ في الخارج، وسفره الدائم بين الشرق والغرب، هو العابرُ في القصيدة، والمترحّل في المكان.
خاصية التفاعل
خلال حواراتٍ صحفية جمعت كاتب هذه السطور معه، كانَ الرحبي تلقائيًّا؛ يفضّل دوماً اللقاء الحي المباشر على المراسلة عن بُعد، وهو أمر يتجنبهُ عددٌ لا بأسَ بهِ من الأدباء، لأن هذا التكتيك يتطلبُ الحديثَ دونَ تحضيرٍ مسبق. بل إن هذا الأديب العُماني، كان في إجاباتهِ كمن يقرأُ في كتاب، فيتحدثُ بتسلسلٍ وانسيابيَّةٍ، مُقدِّماً معرفةً شموليَّةً، تغرفُ من التاريخ، والفكر، والفلسفةِ، والأدب، والفنون البصرية من سينما ومسر وفن تشكيلي وموسيقى.
ولأنهُ صحفيٌّ، تجوَّلَ في عملهِ بين عواصمَ عربية وأوروبية، وما زالَ يرأس تحرير «مجلة نزوى» العريقةِ، فإن الحوار معهُ له خاصيّةٌ من التفاعلِ نادرةٌ؛ لأنك في هذه الحالةِ لا تحاورُ أديباً فقط، بل وزميلاً في المهنةِ، تمرَّسَ فيها.
ويمكنُ إدراكُ ذلك بعد تفريغِ نص الحوار؛ فكلامُ الرحبي يريح المحرر من عناءِ ضبطهِ وتشكيلهِ وتحريره؛ فكلُّ كلمةٍ في مكانها.. لا حشوَ، ولا تكرار. وتبلغ الدقةُ منتهاها حين تراه يقيّد الجُمَل بعلامات الترقيم، وهذا يتضحُ في سكتاتهِ وانتقالاتهِ بينَ فقرةٍ وأخرى، واستخدامهِ أدوات الوصل بين الجمل والفقرات.
ليست هناك تعليقات