في 4/1/1965 توفي الشاعر ـ الناقد، الأمريكي بالولادة ـ البريطاني بالتجنس.
وقد يثير هذا الاسم، وهذا التاريخ بعض المشاعر، عند بعض المعنيين بالثقافة والأدب، في هذه الأيام اللاثقافة واللاأدب فيها سوى ثقافة القتل بالمجان، وأدب الشتائم والتنابز بالألقاب بين أهل البلد الواحد غالباً، وبين أهل هذا البلد وشقيقه حتى الأمس… في أحيان كثيرة، بحيث صار الحديث عن الشعر والنقد في هذه الأجواء حديثا يدعو إلى بعض الحرج وشيء من الخجل من الذات.
لكن، لندفن الرأس في الرمال، كما تقوّلوا على النعام، ظلماً وعدوانا. فالنعام، أو أي طائر، إذا ما كبا، لا يلبث أن يرفع الرأس ويتطلع إلى المدى، لكي يستوضح أي خطر ابتعد، وأي خطر يلاحقه. فهل نتعلم من النعام، أو القطا؟!
يثير هذا الاسم تساؤلا عن كم من مثقفي العرب، وشعرائهم بالذات، أفاد من ثقافة وأدب اليوت خلال نصف القرن أو يزيد من بداية المتأدبين العرب الحديث عن اليوت، شاعراً ـ ناقداً، وقد نستدير قليلا في التاريخ إلى حوالي عشرة أيام قبله، إلى يوم 24/12/1964 إذ توفي الشاعر العربي العراقي الأهم في نظر كثير من شعراء ومثقفي هذه البلاد العربية اللاتغرب ضروب الشعر عن فيافيها. بدر شاكر السياب تربطه أكثر من وشيجة مع اليوت. تعلم بدر من اليوت الأسلوب الصوري في سلسلة صور توحي بالفكرة دون اللجوء إلى الأسلوب الخبري في البلاغة العربية. وهذا ما يقوله اليوت، سيراً على رأي سابقه، الشاعر ـ الناقد الإنكليزي ماثيو آرنولد الذي توفي عام ولادة اليوت، في 1888 في مدينة سانت لويس بولاية مزوري الأمريكية. يرى آرنولد أن الفكرة هي كل شيء في الشعر، وأن العاطفة تكون لاحقة للفكرة. وهذا ما حاول بدر أن يفعله جهده، إذ من الصعب التخلص تماماً من سبق العاطفة في أغلب الشعر التراثي العربي، وهو ما نشأ عليه بدر ومجايلوه من الشعراء العرب في الغالب. إلى جانب الأسلوب الصوري وسبق الفكرة على العاطفة، تعلم بدر، وتبعه كثير من مجايليه، أهمية الثقافة الواسعة للشاعر. وهذه تأتي من مصدرين: معرفة لغات أجنبية والقراءة بها، وهو ما لم يتيسر لبدر ولا لكثير من مجايليه، ومن هنا تلهف بدر على التوسع في معرفة اللغة الأجنبية الوحيدة المتيسرة في زمانه وظروفه، فتحول من قسم اللغة العربية إلى قسم اللغات الأجنبية في سنتيه الأخيرتين من أربع سنوات في الكلية. وكان القسم في الواقع يدرّس اللغة الإنكليزية ومبادئ اللغة الفرنسية، التي لا أحسب بدراً قد تيسر له منها شيء. والمصدر الثاني في الثقافة هو الأساطير القديمة بما تحمله من مغازي ورموز. وهنا راح بدر يعب من معين الأساطير المشرقية بالدرجة الأولى، وما تيسر له من الأساطير القديمة الغربية، مما استطاع ان يجده في الكتب المترجمة، على ندرتها النسبية قبل نصف قرن. لكن اهتمام بدر بالأساطير امتد إلى شعراء عرب كانوا أسعد منه حظاً في معرفة اللغات الأجنبية، فنجد ما يقترب من الإغراق في استخدام الأساطير القديمة في الشعر العربي المعاصر خارج العراق. وأحسب أن مساعي بدر في هذا الميدان قد شجعت غيره، ولا أقول هو البادئ في تعليم الآخرين.
لقد وجد المتأدبون العرب، والشعراء منهم بخاصة، في شعر اليوت، ما نُقل منه إلى العربية، أو ما استطاع بعضهم أن يقرأه في لغة النص الإنكليزية، مفهوماً جديدا عن الشعر، هو «الشعر الحر» الذي قد يقع في أبيات/أسطر متلاحقة، لكنه يخلو من الوزن والقافية، وهما من المقومات الأساس في مفهوم الشعر العربي منذ تناوله نقاد القرن الرابع الهجري، مثل قدامة بن جعفر. ترجع تسمية «الشعر الحر» إلى الشاعر الأمريكي والت وتمان الذي نشر عام 1855 مجموعة بعنوان «أوراق العشب» سماها Free Verse ولم يقل Free Poetry ولأن الكلمتين تفيدان «شعر» في العربية، كانت الترجمة مضللة، وترسخت مفهوما غير دقيق في أذهان الشعراء والمتأدبين العرب. و»شعر» وتمان تواليف أنيقة، تفيد معنى، ولو أنها تخلو من الوزن والقافية. وفي عام 1911 نشر أمين الريحاني، اللبناني المغترب في أمريكا كتاباً بعنوان «الريحانيات» تحدث فيه عن شعر وتمان فسماه «الشعر المنثور» فياليت هذه التسمية شاعت في العربية لتجنبنا اضطراب المفاهيم عن الشعر الحر الذي غدا مركبا سهلا أمام أصحاب المواهب الضعيفة، ولو أن عدداً من أصحاب المواهب الأصيلة والثقافة العرب قد انتجوا كتابات من الشعر الحر لا ينقصها سوى الوزن والقافية ليتم الاعتراف بها بين الروائع. من الأسماء البارزة في هذا الميدان: جبرا إبراهيم جبرا في «تموز في المدينة» 1955، و»المدار المغلق» 1964، و»لوعة الشمس» 1979، و»متواليات شعرية» 1996. ومن أعمال توفيق صايغ: «معلقة توفيق صايغ»، و»القصيدة ك» وغيرها. ومن أعمال محمد الماغوط: «العصفور الأحدب» وأعمال أنسي الحاج اللبناني ومحمد بنيس المغربي.
لقد بدأ تداول تسمية «الشعر الحر» في العربية نتيجة ما أطلقته نازك الملائكة في ديوانها الثاني «شظايا ورماد» 1949 متمثلة بقصيدتها المعروفة «الكوليرا» مستعملة تفعيلة الخبب/المتدارك: فعِلُن/فعلُن مرتين في السطر/الشطر لأن ذلك يكفي للتعبير عن الفكرة/الصورة، وقد تحتاج أربع تفعيلات في بيت/سطر/شطر آخر لفكرة/صورة أخرى. تؤرخ نازك لذلك أنها «ابتكرت» ذلك يوم 27 تشرين الثاني/نوفمبر1947 وسار مجايلوها ومن تبعهم على ذلك النحو من «الشعر الحر».
لكن الذي فعلته نازك أنها «حررت» قصيدتها من «عدد» التفعيلات في الشعر التراثي، لكن هذا لا يجعله شعراً حراً، وهي خير من يعرف دقة التسمية، وخصوصاً بعد دراستها في ويسكونسن الأمريكية. وكنتُ أناقشها في ذلك أثناء زمالتنا بكلية الآداب ببغداد، وبعدها أثناء تزاملنا في جامعة الكويت الوليدة في أواخر ستينات القرن الماضي، لكنها بقيت تصر على التسمية الخطأ.
كانت هذه التطورات في الشعر العربي المعاصر نتيجة مباشرة غالباً، وغير مباشرة أحياناً لأثر اليوت في الثقافة الشعرية العربية المعاصرة. يقول اليوت إن من لا يتقن كتابة الشعر الموزون، المقفى، الجيد، لا يستطيع كتابة الشعر الحر الجيد. لكن ضِعاف المواهب مصرون على رصف أي كلام تحت مظلة الشعر الحر، وهو ما يجب الا يُعتد به. لقد قال وتمان نفسه أنه بين 1855 و1881 لم يتوقف عن إعادة النظر وتحسين ما نشره في «أوراق العشب» وهذا ما دفع إمرسن شيخ الشعراء الأمريكان في أواخر القرن التاسع عشر أن يكتب مهنئاً إلى وتمان واصفاً كتابه «أروع قطعة من الخيال والحكمة جادت بها القريحة الأمريكية».
انتشر أسلوب الشعر الحر الجديد إلى فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر، فأبدع فيه بودلير ومالارميه، وقد ترجم الكثير من شعرهما إلى العربية، في لبنان بخاصة، مما وسع في التعرف على هذا الشعر الجديد لدى أصحاب الثقافة العرب. وإلى جانب الشعر الحر ظهرت «قصيدة النثر» عند الفرنسيين وهم يدعونها poeme en prose وكأنها وليدة «شرعية» للشعر الحر. هذه توليفة تمتد على صفحة أو أكثر، بمقاطع أحياناً، وتخلو من الوزن والقافية، مما زاد في اضطراب التسميات عند المتأدب العربي المعاصر. ولكن، لندع ألف زهرة تتفتح.
كان أثر اليوت في الثقافة الأدبية الشعرية المعاصرة في العالم العربي يتمثل، كما سبق القول، في إظهار أهمية الثقافة الواسعة لدى الشاعر، وفي الانفتاح على الآداب الأجنبية والتوكيد على أهمية الأساطير القديمة. وهذا كله يظهر في قصيدته الكبرى «الأرض اليباب» 1922 التي وجدت طريقها إلى ترجمات عربية لا يخلو بعضها من مآخذ. لكنها كانت عاملاً محفزاً للمتأدب العربي المعاصر والشاعر. إلى جانب شعر اليوت، كانت آراؤه النقدية ذات أثر خاص في الثقافة العربية المعاصرة. فما نقل من تلك الآراء التي نجدها في كتابه «الغابة المقدسة» أو ما جرى التعريف بها في كتابات المتأدبين العرب، قد فتحت عيون الكثيرين على ما في تراثنا الشعري. يقول اليوت: «إن من يريد أن يبقى شاعراً بعد الخامسة والعشرين من العمر يجب أن يُحس في نخاع العظم منه أفضل ما قاله الشعراء من هوميروس إلى الحاضر، بما في ذلك شعر لغته هو» ألا يُعيدنا هذا إلى قول أبي نواس: «ما نطقتُ بالشعر حتى حفظتُ لستين من شاعرات العرب، فما رأيك، بالشعراء؟».
عام 2016
تخفيض الميزانيات إلى أقل من النصف وتقليص عدد المهرجانات
موجةٌ من الأزمات، عصفت هذه السنة بالقطاع الثقافي في الجزائر، يتصدرها الشقُ المالي، الذي انعكس تراجعه على مُستوى مردودية جميع المؤسسات الثقافية التابعة له، فرغم أن القائمين على مختلف التظاهرات والنشاطات يُؤكدون بأن تلك الأخيرة بالنهاية تسعى إلى إبراز المورُوث الثقافي والفني الذي تزخر به الجزائر، إلا أن تجاوز عددها الـ170 في السنة وفق وزير الثقافة عز الدين ميهوبي جعلها لا تسلمُ من الانتقادات التي لاحقتها على مدار السنة والتي صنفتها ضمن خانة الفساد وتبذير المال العام، خُصوصا بعد كشف بعض الأوساط عن الميزانية الضخمة التي رصدت لأغلبها.
وكان وزير الثقافة قد أكد فيما سبق أن وزارتهُ لا تتجهُ إلى تبني سياسة التقشف بسبب تراجُع مداخيل البلاد، إلا أنهُ “لم ينف” أن تلك الأخيرة تتجه نحو ترشيد النفقات مع مُراقبة ميزانيتها مع التحكم في تسيير المهرجانات، فقد حدد ميهوبي، عدد المهرجانات الثقافية بــ 77 مهرجانا، بعد عملية مُراجعة ميزانية كل مهرجان ومدته الزمنية، وقال وقتها في مؤتمر صحافي، إن قطاعهُ قد قرر الحفاظ على كل المهرجانات الدولية، و31 مهرجاناً وطنياً، و18 مهرجانا محلياً، أي ما مجمُوعهُ 77 تظاهرة ثقافية، وهذا بعد عملية إعادة تنظيم شملت قائمة بــ 186 مهرجاناً.
كما أشار الوزير إلى أنهُ قد تم إعطاء الأولوية للحفاظ على المهرجانات الدولية باعتبارها واجهة للثقافة الجزائرية، حيث تم الإبقاء عليها كُـلها مع مراجعة مدتها وعدد المشاركين فيها، وأوضح أن هذه المهرجانات ستمول بما يقاربُ 40 بالمائة من مُخلفات ميزانية عام 2016، كما تم الحفاظ على بعض المهرجانات على غرار المهرجان الدولي لفنون الأهغار والمهرجان المغاربي للموسيقى الأندلسية، غير أنهُ تم تعليقهما مؤقتاً لإعادة النظر في بعض التفاصيل المتعلقة بالتنظيم والإدارة، فيما تم دمج بعض المهرجانات التي ستشاركُ في نفس الموضوع على غرار مهرجان الخط العربي ومهرجان المُنمنمات والزخرفة، في حين ستنظمُ بعض التظاهرات الأخرى، على غرار المهرجان الدولي للأدب وكتاب الشباب (فيليف) والمهرجان الوطني لموسيقى الديوان ببشار مرة كل عامين.
في هذه السنة أيضا، لاقت بعض المهرجانات والتكريمات انطباعات غير جيّدة لدى الكثير، فميزانيةُ الــ 12 مليار سنتيم الممنُوحة في عز التقشف على مهرجان وهران للفيلم العربي اعتبرها إبراهيم صديقي الذي كان محافظا له بأنها قليلة جداً، مما جعل الأصوات المُعادية لهذا الإنفاق ترتفعُ، وأكد إبراهيم وقتها بأن الطبعة التاسعة للمهرجان قد تأثرت نوعاً ما بسياسة التقشف وترشيد النفقات التي اتخذتها وزارة الثقافة في إطار السياسة الحُكومية العامة، التي مست المهرجان من خلال تقليص عدد المدعويين أعضاء لجان التحكيم، وربط المتحدث نقل الافتتاح الرسمي للمهرجان من مركب أحمد بن محمد بفندق المرديان الفخم إلى المسرح الجهوي عزالدين علولة، بسياسة التقشف، مُعتبرا أن ميزانية 12 مليار سنتيم جد ضعيفة، في ظل الغياب شبه الكلي للمساهمين الخواص، مُؤكدا أن لا أحد من النجوم أو المشاركين في المهرجان سواء في طبعته الحالية أو الماضية قد طالب بالدفع ماديا لحضوره للمهرجان كما يعتقدُ البعض أو يُروّجُون لهُ، وعلى غرار هذا الأخير، فقد لاقت العديد من التظاهرات مجمُوعة من ردود الأفعال، فعلى شبكات التواصل الاجتماعي، تداول الناس والمتابعين صُورا كثيرة للمُدن المضيافة لتلك التظاهرات وهي غارقة في الوحل والقُمامة، ويقُولون في تعليقاتهم إن الميزانية الضخمة التي رصدت للتظاهرة كانت كافية لإنقاذهم من ذلك الوضع، لكنها أنفقت على مهرجانات لم يتجاوز صداها القاعات التي احتوتها. بالمقابل، كان ينظر بعض السياسيين إلى هذه المهرجانات بعين الريبة والشك، فهُم يعتبرون أن إقامة مهرجانات غير جادة يغلبُ عليها طابع “الكرنفالية” أو “التهريج” أمر مقصُود من السُلطة التي تحاول من وراء ذلك إلهاء الشعب عن مشاكله الحقيقية.
ليست هناك تعليقات