استهلال:
"إن الفضيلة بوجه عام، وفي مختلف الموضوعات، هي شيء يقدر لتفوقه، وهي تقوم على المقارنة"[1]
اختلف الفلاسفة حول ضرورة القيم وظروف نشأتها وأسباب تشكلها، فهناك من ماهي بين الأخلاق والطبيعة وجعل النسق القيمي جزء لا يتجزأ من نظام الكون ودعا إلى الحياة في توافق مع الطبيعة ومسايرة نواميسها وثمة من حاول تأسيس الفضيلة عقليا
وماهى بين الخير والحق والجمال ورأى أن ماهو أخلاقي هو حقيقي وماهو حقيقي أخلاقي لأن المعرفة فضيلة والجهل رذيلة ولا أحد شرير بإرادته،
أما الفريق الثالث فأنه جعل التجربة والتاريخ والجسد هي المصادر التي تستقى منها المعايير التي تحدد المصلحة .
غير أن علاقة الإنسان بالقيم سواء تأسست باتفاق مع الطبيعة أو بالانطلاق من التجربة التاريخية أو بالاعتماد على العقل مازالت تتراوح بين الإتباع والإبداع وبين التقليد والتجديد، ولما كانت القيم هاجسا إنسانيا متأكدا وكان الإنسان الذي يبدعها أو يطبقها في علاقة جدل مستمرة مع الواقع فإنه تأكد عندئذ أن رهان التفكير الفلسفي يتركز في مساءلتها بغية استجلاء مكانتها ومقارنتها مع الجوانب المعرفية والوجودية.
من نافل القول أن نثبت أهمية الأخلاق في المجتمع البشري ونعظم من شأنها اذ يؤدي فقدان القيم الطيبة إلى تكاثر مظاهر الفساد وتفشي العلل الجسدية والأسقام النفسية وتناقص الأمل في الحياة وتسارع الهرم والشيخوخة وانهيار المؤسسات وخراب العمران، والإنسان إنما استحق لقب الإنسان بما يحمله من خلق يعبر به عن إنسانيته وإذا تجرد منها فهو يرد إلى مرتبة بهيمية.
إن مصائب الإنسانية ومشاكلها تتضاعف عندما يخسر بني البشر معركة القيم والغايات وتسيطر النجاعة والمصلحة وبالتالي كلما ازدادت الأخلاق الفاضلة لدى النوع البشري تناقضت آلامه ومصاعبه، وكلما تناقصت هذه الأخلاق ازدادت مآسيه فيسبب ذلك انحطاط المجتمعات البشرية فتحدث النكبات والصراعات والحروب والإرهاب والاعتداءات العنيفة والتفرقة.
على هذا النحو تبدو فضائل الأخلاق من الأركان الأساسية لسعادة البشر وتكامله المادي ورقيه المعنوي.
لكن ما نلاحظه أن الإنسان العادي السوي ينشد الخير وينفر من الشر وهذا أمر عادي ومعروف ولكن الموضوع سيصبح إشكاليا لو طرح السؤال
- متى يكون الفعل خيرا؟
- ومتى يكون شرا؟
- هل ما كان خيرا سيظل كذلك ؟
- أم أن ما هو خير اليوم يمكن إن يصبح شرا غدا؟
من البديهي أن الإنسان مدني واجتماعي بالطبع وأنه يحتاج إلى الأخلاق الفاضلة والاهتداء بنور القيم وتوجيهية المعايير لأن تدنيس المقدسات والرضا بحالة الفراغ والعدمية يؤدي إلى الضياع والحيرة والظلال في العالم والتصادم مع الآخر والإساءة إلى الذات والى الطبيعة.
إن الوجود اليومي للإنسان يعلن الحاجة الملحة لاستعادة الفلسفة الأكسيولوجية، وقد نتج عن ذلك ازدياد الطلب على الأخلاق بشكل متزايدا خاصة في ظل غيابها في ساحة المجتمع, ولكن
- - ماذا نعني بالأخلاق؟
- - وكيف ترتبط الأخلاق بالإلزام وتضمن الحرية في الآن نفسه؟
- - ألا الواجب الناس في النفاق وسوء النية والأخلاق الشكلية والأوامر الشرطية؟
- - وماذا عن تراوحها بين المنفعة والفضيلة؟
- - ماذا عن الصراع بين النظرية اللذية والنظرية الحكمية العملية؟
- - كيف انقلب التفكير الفلسفي المعاصر في القيم إلى اعتناء بالفرح والنجاح والى الحرص على الفعل والانجاز؟
- - هل نتوجه بالفعل نحو إيتيقا مستقبلية خارج إطار ثنائية الخير والشر وقريبة من ماهو حسن وماهو قبيح؟
- - على ماذا ترتكز هذه الإيتيقا؟
- - هل على مبدأ المسؤولية أم على مبدأ الأمل؟
ما نراهن عليه هو تفادي النظرة التحقيرية للقيم والكف عن التسريع بخلخلة الأصول والاستفادة من الجهود الأكسيولوجية التي بذلها الأول من أجل إبداع منظومة من القيم تواكب روح العصر وتؤهل الإنسان في المستقبل للسكن في المعمورة في أحسن مقام.
1- فحوى الإلزام الأخلاقي:
"ان الواجب أو الأمر الكانطي ليس إلا وجها مجردا للواقع الأخلاقي"[2]
في البداية يتشكل الإلزامobligation من الرابطة الحقوقية التي بها يكون فعل الشيء أو عدم فعله واجبا على الشخص تجاه الآخر، فهو إذن علاقة حقوقية بين شخصين يسمى بموجبها الأول دائنا والآخر مدينا.
في مستوى ثان لا ينشأ الإلزام الأخلاقي عن عقد وإنما عن طبيعة الإنسان من حيث هو قادر على الاختيار بين الخير والشر. فما كان فعله أو عدم فعله ممكنا من الناحية المادية.
ثم وجب حكمه من الناحية الخلقية كان إلزاميا،
بمعنى أن الشخص لا يستطيع أن يتهاون في فعله أو عدم فعله من دون أن يعرض نفسه للخطأ واللوم. حول هذا الموضوع يقول كانط:
" الواجب مادة الإلزام" و" إذا وجب عليك فأنت إذن تستطيع" ويبرر ذلك بأنه "لا يوجد سوى أمر قطعي واحد وهو: افعل دائما وفق القاعدة التي يمكنك أن تريد أن تجعل منها قانونا كليا".
في حين أن الواجب Devoir هو الإلزام الأخلاقي الذي يؤدي تركه إلى مفسدة ومن أهم مميزاته أنه جماعي لأنه يفرض عموما على جميع أفراد المجتمع ، وانه ملزم لصاحبه ومتعال على الأفراد لأن مصدره هو المجتمع والدين والأخلاق الموروثة...
يطلق الواجب في فلسفة كانط على الأمر المطلق الذي يتقيد به المرء لذاته لا طمعا في شيء من الأشياء أو خشية منه.
ولقد ميز كانط بين الأوامر الشرطية التي توجب القيام بفعل من الأفعال وسيلة لأجل بلوغ غاية معينة (مثلا لا تغش حتى لا تخسر زبائنك أو كن معتدلا حتى تحافظ على صحتك) والأوامر المطلقة أو القطعية وهي التي توجب القيام بشيء ما لا كشرط للفوز بمنفعة ما أو تجنبا لمضرة معينة وإنما لأن الواجب يقتضي ذلك ' مثلا كن عادلا وكن نزيها).
إن السلوك الأخلاقي الحقيقي هو الذي يقوم على الأوامر المطلقة لا على الأوامر الشرطية التي هي من حيث مظهرها الخارجي موافقة للأخلاق لا غير وتكون مصدرها المجتمع والدين وكل ما يردع الإنسان أو يحفزه بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد.
اللافت للنظر أن الواجب قد يكون سبيل لتحصيل السعادة إذ يرى كانط:
"قد يتمثل الواجب بوجه ما في العناية بسعادتنا" و" أفضل طريقة لنشر السعادة- عند روسو- بين الناس هي أن تدلهم إلى واجباتهم" بينما يقر أندريه جيد أن "سعادة الإنسان ليست في الحرية وإنما في التعهد ببعض الواجبات".
يريد كانط أن يحدد المبدأ الأساسي لكل فعل أخلاقي أي المبدأ الصوري الذي تستمد منه القواعد الأخلاقية,
فهو إذن على خلاف الفلاسفة لا يقدم نسقا أخلاقيا يضبط فيه الواجبات الأخلاقية وإنما يبحث في المبدأ الأساسي لكل فعل أخلاقي, لذلك يطرح كانط سؤال يتعلق بالمفهوم المركزي الذي تدور حوله الأخلاق ليجيب بأن الواجب هو هذا المفهوم,
فالواجب عند كانط هو جوهر التجربة الأخلاقية. والواجب يمثل الجبر الأخلاقي في ذاته بقطع النظر عن تطبيقاته وعلى هذا الأساس يتحول سؤال ما هو مصدر الأخلاق؟ مع كانط إلى ما هو مصدر الواجب؟
الواجب كمفهوم يتسم بالكونية والضرورة لا يمكن أن يكون حسب كانط نتيجة للتجربة والخبرة ذلك أن الكونية والضرورة هي ميزات ما هو قبلي، فالواجب عند كانط هو إذن مفهوم قبلي. كمفهوم قبلي لا يمكن أن يكون الواجب صادرا إلا على العقل،
لذلك يميز كانط بين الأمر الشرطي والأمر القطعي, فالأول هو أمر يربط بين الفعل والمنفعة التي تتحقق منه وهذا يعني أن الفعل وفق الأمر الشرطي لا يكون ضروريا بصفة محضة فهو ضروري لتحقيق غاية ولذلك لا يعبر الأمر الشرطي عن الواجب باعتباره كوني وضروري.
فالواجب ككوني وضروري لا يمكن أن يكون إلا أمرا قطعيا يأمر دون شرط فهو يضبط الإرادة بالقانون وهذا يعني أن الأمر القطعي وحده يمثل قاعدة أخلاقية بالنسبة لكانط.
إن الأنساق الأخلاقية السابقة لكانط ترى في السعادة غاية كل فعل إنساني، فهي الخير الأسمى لذلك تسمى أخلاق أو دونية. في حين يعتبر كانط أن الفعل الأخلاقي هو الفعل الذي يقوم بالواجب من أجل الواجب .
- فهل يعني ذلك أن القيام بالفعل من أجل تحقيق السعادة هو فعل لا أخلاقي؟
يلاحظ كانط أن السعادة بما هي حالة كمال هي مفهوم غامض لأنه يرتبط بالتجربة فالسعادة عنده هي مثل أعلى لا للعقل بل للتخيل يقوم على مبادئ خبرية فحسب.
فالسعادة إذن، ليست مفهوما عقليا وترتبط برغد العيش، لذلك لا يمكن تحديدها, فرغد العيش يختلف من شخص إلى آخر بحسب خبرته وميولا ته لذاك يرى كانط أن السعادة ليست من مجال الأخلاق.
إن مجال الأخلاق هو مجال ما هو عقلي, كوني وضروري أي واجب. ومجال السعادة حسب كانط هو الدين لأن السعادة هي موضوع أمل و من حق الإنسان ككائن رغبة أن يأمل في أن يكون سعيدا دون أن يناقض ذلك الواجب.
فما هو أولي بالنسبة لكانط هو الأخلاق الكونية ولا يهدف أي فعل في المجال العملي إلا إلى تحقيق الفضيلة باعتبارها طاعة الأمر القطعي.
لكن ذلك لا يمنع من أن تكون مقولات العقل العملي مقبولة في حقل الأخلاق وهو ما يضفي مشروعية على البحث عن السعادة. في هذا المجال يقول كانط:
«الأخلاق ليست إذن نظرية تعلمنا كيف يجب أن نكون سعداء ولكن تعلمنا كيف يجب أن نكون جديرين بالسعادة... ذلك أننا لا نأمل في تحقيق السعادة إلا بتدخل الدين»[3] .
وهكذا يكون البحث عن السعادة عند كانط أمرا مشروعا وواجبا في معنى ما بما أن التعاسة ليست ظرفا مناسبا للقيام بالواجب. السعادة كموضوع أمل بالنسبة لكانط لا تتحقق في الأرض وتبقى موضوع أمل مشروع لا غير.
هكذا يرتبط كانط الحرية بالعقل، فالإرادة الخيرة هي التي تخضع لإرادة القانون العقلاني والكوني أما الإرادة التي تخضع للرغبات الحسية فهي إرادة حسنة أي لا تخرج عن تأثير الحواس, فالحرية والعقل لا ينفصلان عند كانط الذي يقول:
"الحرية هي خاصية إرادة كل كائن عاقل"
وبالتالي لا تكون السعادة بالنسبة لكانط شأنا سياسيا.
لكن قد يسبب مبدأ الواجب العديد من الإحراجات وقد يتحول إلى عائق أمام التقدم ويمنع الناس من التمتع بحرياتهم وحقوقهم ومن الإقبال على الحياة ويكرس القسر والخضوع والتبعية.
ألم يقل كانط نفسه في هذا الموضوع تخديدا:
"إن الأوامر الأخلاقية قد استبعدت حقا عن سلطانها الآمر كل خليط من منفعة أيا كان نوعها"[4] ؟
2- غسق أخلاق الواجب:
" قد يعمل بعض الناس عمل العدول وليس بعادل ويعمل عمل الشجعان وليس بشجاع ويعمل عمل الأعفاء وليس بعفيف"[5].
"الواجب الأخلاقي هو ما يناقض الطبيعة" كما يعتقد شوبنهاور لاسيما وأن القيام بالواجب أهون من معرفته ولكن لا توجد في الواجب أية صعوبة عدا تحقيقه، كما أن لكل شخص واجبات تجاه المجتمع لكن ليس لأحد أي حق من الحقوق. حول هذا الموضوع يصرح ايبسون ساخرا:
"الواجب آه لا أقدر على تحمل هذا اللفظ اللعين" ويسانده نيتشه في ذلك بقوله:"
الأمر الأخلاقي المطلق تشتم منه رائحة القساوة" لأنه " يوجد فرق شاسع- عند ماكس فيبر- بين من يتصرف وفقا لقواعد أخلاق اليقين والاعتقاد الراسخ وموقف من يتصرف وفقا لأخلاق المسؤولية."
ذهب نيتشه إلى القول بأن القيم مبدعات إنسانية ساهمت في صنعها بعض الاعتبارات الخاصة وعملت على خلقها مجموعة من الأحكام المسبقة الدينية والميتافيزيقية ويعتبر هذه القيم مجرد أصنام ينبغي أن تحطم وأوهام يجب أن تزال لأن الذات البشرية هي التي ابتدعتها من عدم دون أن يكون لها أصول في صميم الحقيقة الموضوعية.
يقترح فيلسوف المطرقة في هذا الشأن مساءلة الأخلاق عن أصلها وفصلها ويرى أنه من الضروري البحث عن قيمة أحكام القيمة وحاجتنا الماسة إلى نقد القيم من خلال تقصي جنيالوجي يحلل ظروف تشكلها وملابسات نشأتها ويحطمها عبر ضربات المطرقة ليقتلعها من جذورها العدمية وليكتشف بمقتضاها أن إرادة القوة هي أساس كل القيم.
الأخلاق الحقيقية عند نيتشه تتجاوز حقل الواجب لأن الواجب هو تقنين السلوك الموجه ضد الحياة. فالإنسان عند نيتشه هو قبل كل شيء إرادة القوة لذلك يسعى إلى تفسير نشأة الأخلاق المثالية جينيالوجيا بإرجاعها إلى أصلها لكن إذا كانت الأخلاق صادرة عن إرادة القوة،
- فكيف تكون أخلاق الفلاسفة المثاليين موجهة ضد الحياة؟
إن الأخلاق في ذاتها لا وجود لها وان الاعتقاد في قيم مطلقة هو اعتقاد خاطئ ناتج عن أحكام قيمية سيئة ولذلك من الأجدى أن ننظر إلى الأخلاق لا من جهة أسسها ومبادئها فهي لا تمتلك أسسا ولا تشكل مبادئ مطلقة بل من جهة النتائج والمصالح وإرادات القوة واستراتيجيات الهيمنة التي تقف ورائها وتحركها لصالحها اذ يقول هنا:
" إن الأخلاق هي أخطر الأخطار وإن فكرة الواجب هي أكثر الأفكار التي أسالت الدماء."
إن إرادة القوة عند نيتشه منشطرة إلى إرادة حياة وإرادة عدم وهذا الانشطار ناتج عن ديناميكية الرغبة ذاتها بما هي ماهية الإنسان,
فالرغبة كرغبة تسعى إلى الإشباع وبالتالي تفتح على اللذة فتتحدد باعتبارها إرادة حياة، فالإشباع هو تمجيد للحياة و إقرار لها، و لكن أيضا، الرغبة كرغبة تبحث عن الإشباع تنفي موضوعها وبالتالي تفتح على الموت فتتحدد كإرادة عدم. يقول في هذا السياق:
"إننا بحاجة إلى نقد القيم الأخلاقية ويجب أن نبدأ بالتساؤل بشأن قيمة هذه القيم نفسها."
من هذا المنطلق يميز بين أخلاق العبيد وأخلاق السادة ويرى أن أخلاق العبيد هي أخلاق الواجب والإلزام يعتنقها القطيع وتقوم على العبودية والإمتثالية والخضوع والإتباع وتحركها أصول دينية وقوى ارتكاسية رادة للفعل ترفض الحياة وتتشبث بالعدم، أما أخلاق السادة فهي التي تليق بالإنسان الأرقى الذي يعشق التجاوز والانتصار على الذات في كل مرة والسباحة في نهر الصيرورة العظيم وتحركها قوى فاعلة وتقدس الحياة الأرضية وتشجع على المغامرة والتحرر.
إرادة القوة عندما تكون في أوجها وصاعدة تناشد الحياة وتمجدها لأنها قادرة على فرض سلطانها وقوتها لكن بما أن كل قوة مآلها الضعف و بالتالي الانحطاط فان إرادة القوة الواهنة تنتج القيم والأخلاق,
أخلاق الشفقة كحيلة للمحافظة على بقائها فتنقد اللذة والرغبة وتحاصرها ومن هنا تظهر حسب نيتشه نقمتها على الحياة, هذا يعني أن نيتشه يرجع كل وجود إما إلى القوة وإما إلى الضعف والضعف هو مصدر أخلاق الشفقة لذلك ينظر نيتشه لأخلاق الأقوياء، الأخلاق التي تقوم على القوة وإرادة الحياة، ذلك أن أخلاق الشفقة تمنع الإنسان من بلوغ أعلى درجات القوة والبهجة وبالتالي السعادة.
- لكن كيف يمكن دون الوقوع في تناقض الجمع بين الأخلاق والحرية؟
3 – مستلزمات الحرية:
"لا يشعر كائن ما بأنه ملزم بأمر ما إلا إذا كان حرا "[6]
يستطيع الإنسان أن يلتزم بالقيم الأخلاقية وأن يضمن حريتها وتزداد مساحة الفعل في الوجود لديه إذا ما أدرك الفرق بين وضعيات المسايرة والإتباع ووضعيات الخلق والإبداع وهو ما تفطن إليه برجسن عندما ميز بين الأخلاق المغلقة والأخلاق المفتوحة ونقد الأولى لأنها تقوم بالأساس على فكرة الواجب وما ينجر عنها من انقياد أعمى للأوامر وخضوع كلي للإلزامات وتهادن التقاليد والأعراف وتتماشى مع المجتمعات التراثية التي تمجد الماضي وتقدس السلف وتنشد المحافظة وتتشبث بالهوية وترفض التطور وتعادي كل أشكال التغيير،
ومقابل ذلك تبنى الأخلاق المفتوحة لكونها تقوم على أساس المحبة والتعاطف والإلهام والتعاطف والإيثار، ويصرح هنا:
" كلما كانت الأخلاق تقوم على واجبات غير شخصية كلما كانت أقوى وأشد".
ويقصد أن علاقة الإنسان بالقيم لا يجب أن تكون عن طريق الإكراه والضغط والإجبار بالرهيب أو بالترغيب لل تكون نتيجة الإقناع والحب وتتوفر فيها الوعي والحرية، بعبارة أخرى إن الإنسان لا يطبق قيما ألزم بها وأجبر عليها وإنما هو الذي يختار الذهاب إلى قيمه بنفسه عن طواعية ويتبع في ذلك النماذج المثالية ويسير على خطى الأنبياء والفلاسفة والمصلحين وملهمي البشرية الكبار ولذلك نراه يتشبث بها ويسير على نهجها مهما كانت المحن التي يتعرض لها.
يقول برجسن حول هذا الموضوع:
"إن الواجب الطبيعي ضغط ودفع وان الأخلاق التامة هي نداء"
- فكيف يمكن إن تتحول الحرية إلى شرط إمكان قيام كل فعل أخلاقي قويم؟
من المعلوم أن أخلاق الواجب تعاني من تناقضات داخلية تتمثل في إمكانية أن يجد المرء نفسه مطالب بالامتثال لأمرين قطعيين في نفس الوقت مثل بر الوالدين وفداء الوطن حيث لا يقدر المرء على أن يختار بينهما وفق لقاعدة ترجح طرف على طرف.
في هذا السياق ليعيد تأسيس المنظومة القيمية على قاعدة الوجود الحر وحرية الوجود الإنساني وينصح بأن يأتي الإنسان الفعل الذي يكون به حرا لاسيما وأن الحرية هي وضع أصلي وقيمة كبرى ينبغي على كل إنسان أن يطلبها لنفسها ولغيره معا، في هذا السياق يقول سارتر:
"إن الإنسان ملزم أن ينشد حرية الآخرين في نفس الوقت الذي ينشد حريته..."
على هذا النحو تكون الأخلاق عند سارتر أخلاقا وجودية تدفع بالفرد الحر إلى مغالبة عادات وتقاليد المجتمع والثورة على القدر وتحدي الموجود والتوجه نحو إيجاد المنشود والوجودية مذهب إنساني لأنها ترى أن الإنسان ليس له ماهية ثابتة بل له تاريخ يصنعه بنفسه لاسيما وأن" الوجود يسبق الماهية" ونظرا لأن
" الإنسان حكم عليه على أن يكون حرا"[7]
والحرية ليس من هدف سوى أن تريد ذاتها ولذلك ينبغي أنم نستعمل حريتنا للدفاع عن حريتنا.
لكن هذا التصور الوجودي يسلم بأن الفرد كائن الوعي والحرية وقادر باستقلالية على تحقيق إنيته بنفسه ولكن نسي أن الإنسان هو كائن اللاوعي والغرائز على ما بين فرويد وأنه وليد الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يعيش ضمنها كما شخصه ماركس وأن الأخلاق كانت على الدوام أخلاقا طبقية تبلور سيطرة الطبقة السائدة ومصالحها".
- - فالي مدى نستطيع الحديث عن قدرة المرء على خلق القيم في ظل واقع الاغتراب والصراع والهيمنة والعنف والعبودية؟
- - وكيف تتيح فضيلة الحرية في وعي التجربة الخلقية بذاتها؟
خاتمة:
" بقدر ما يكون لشيء من الأشياء من الكمال، يكون أكثر فعلا وأقل انفعالا، وعلى العكس، بقدر ما يكون فاعلا، يكون أكثر كمالا"[8]
صفوة القول أن الخطاب الفلسفي لا يخلو من مطارحة لمسألة القيم سواء في بعدها المنطقي أو الاقتصادي أو الجمالي أو الأخلاقي
وأن القيم الأخلاقية التي تتعلق بالتمييز بين الخير والشر والفضيلة والرذيلة والواجب والحرية هي مركز الثقل في التعيير الأكسيولوجي
لاسيما وأن الإنسان هو كائن التقييم بامتياز وهو الذي يمنح الأشياء قيمتها الحقيقية.
في هذا السياق بحثت الفلسفة في مشروعية المصالح وأحقية الأهداف التي يسعى كل إنسان وراء تحصيلها وحاولت الإجابة عن السؤال الكانطي الشهير:
ولكنها وقت في تناقضات داخلية وتضارب بين الأنساق والنظريات وظهرت أزمات تاريخية كرست الخلاف حول المبادئ التوجيهية للحياة الأخلاقية.
غاية المراد أن
"وظيفة الأخلاق تظل هي هي رغم التطور التاريخي للإيديولوجيات والآداب والقيم والمثل العليا، وتتمثل في بيان ما يلزم على صعيد الفعل الذي يخضع بدوره إلى نظام من المقاصد..."[9]
من هذا المنطلق بدأ التفكير الجدي في الانتقال من الأخلاق بوصفها مجمل الضوابط الكلية والقوانين العامة التي ينتظم بها سلوك الأفراد داخل مجتمع معين إلى الإيتيقا بوصفها فن تدبير الوجود الإنساني عن طريق جودة الروية وقوة التمييز وحسن التصرف في وضعيات مخصوصة عن طريق حيل استعجالية وحلول مؤقتة وظرفية تصلح لفترة وجيزة في مجال البيئة والمهنة والحياة والطبيعة والصحة.
"إن فكرة "الأرض تواجه خطر الموت" قد فرضت بعدا جديدا من المسؤولية وتصورا مستحدثا للالتزامات الإنسانية تتجاوز ماهو محصور في العلاقات المباشرة بين الناس. ينبغي الآن على المسؤولية البشرية أن تتمدد إلى الأشياء الخارجة عن الإنسان وأن تحوي البعد الحيوي من الفلك برمته
لاسيما وأن الإنسان هو الذي يحوز على الوسائل التي تعرض مستقبل الحياة على الكوكب إلى الخطر. نحن مطالبون حسب الأصوليين بالاعتراف بالقيمة البيئية للفلك في حد ذاتها بشكل مستقل عن الخير الإنساني وبإعادة اكتشاف الكرامة الداخلية للطبيعة، وحسب العدد الأكبر حقيق علينا أن نحترم الطبيعة من أجل فائدتنا وأن نتصورها كوطن مشترك حتى نسلمها إلى الأجيال المقبلة.
مهما يكن عمق هذا الانفلاق فإن الإيتيقا التقليدية المنغمسة في القريب وفي الأهداف المتجاورة لا تبدو كافية ، كما أن التقنية المعاصرة قد أوجدت تأثيرات مستحدثة وكوارثية من جهة الإمكان بحيث بات من الضروري القيام بتحويل في المبادئ الإيتيقية.
إن الحضارة التقنية في حاجة إلى ايتيقا مستقبلية، إذ أن مواجهة مخاطر تحطيم الحياة تقتضي على الأقل إعادة صياغة أمر قطعي جديد هو:
لا تعرض للخطر شروط المحافظة اللامحدودة على الحياة بالنسبة إلى الإنسانية على الأرض، تعلن الحقبة عن اتيقا المسؤولية في حدها الطويل، والالتزام اللامشروط بالمحافظة على وجود الإنسانية على الأرض...
"إن المواطنة ما بعد الحديثة هي أقل سياسية منه مواطنة بيئية، نحن أكثر من مرة أمام التربية الأخلاقية والمدنية الموجهة نحو تكوين المشاعر الوطنية والغيرية ولكننا نطمح رويدا روديا نحو مواطنة خضراء"[10] .
هكذا نتبين اتفاق كل المقاربات الفلسفية حول اعتبار القيم جوهرية وأولية في التجربة وبالتالي يتجلى بوضوح أن الفعل الأخلاقي هو السلوك الذي يتطابق مع مبادئ الخير، والآية على ذلك أن الإنسان وجود موجها بطبيعته باستمرار نحو تحسين مصيره وجعله أكثر رفاه.
بناء على ذلك تراهن الايتيقا على ارادة الحياة وتنظر الى الجدارة من زاوية القيمة وتمنح القوة الشرف الذي يليق بها من زاوية التقدير ويمكن العودة
من أجل ذلك الى ما يقوله هوبز:
" إن قوة الانسان، بمعناها الكلي، هي الوسائل التي يملكها حاليا للحصول على خير مستقبلي ظاهر، وهي تكون اما أصيلة أو ذرائعية"[11] .
لكن ماذا لو نستمع إلى جييروم بندي كيف يعبر عن الفراغ الأكسيولوجي الرهيب الذي تعاني منه الإنسانية:
- -"وفيما نحن نسأل:
- - القيم إلى أين؟
لا يمكننا أن نتجاهل السؤال الآخر: ما الذي سنصنعه نحن بالقيم؟ إن التهيؤ للمستقبل يتطلب بلورة إيتيقا من أجل المستقبل ، إيتيقا للزمن...إنها الإيتيقا هنا والآن، لكي يبقى هناك فيما بعد هنا والآن...
- - فإلى أين تسير القيم؟
- - هل إلى ذوبانها واختفائها من الحياة الإنسانية أم إلى انصهارها وإعادة بعثها من جديد؟ --- ألا يجوز لنا أن نتحدث عن مستقبل الإيتيقا؟ فماذا يمكن أن تكون عليه إيتيقا المستقبل هذه؟
الإحالات والهوامش:
[1] هوبز (توماس) ، اللوياثان، الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة ديانا حبيب حرب/ بشرى صعب، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 2011. القسم الأول، في الإنسان،ص77.
[2] Emile Durkheim , Sociologie et philosophie, Edition .PUF, 1924.
[3] عمونيال كانط، نقد العقل العملي، ترجمة أحمد الشيباني، دار اليقظة العربية، بيروت، ص222
[4] عمونيال كانط، أسس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، منشورات الجمل، 2002، ص113
[5] أحمد ابن مسكويه، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1961
[6] هنري برجسن، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة عبد الله عبد الدايم وسامي الدروبي، دار الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر. 1971.
[7] سارتر جان بول ، الوجودية مذهب إنساني، ترجمة كمال الحاج، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1983،ص 44.
[8] سبينوزا (باروخ)، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، الجزء الخامس: في قوة العقل أو في حرية الإنسان، القضية 40، دار الجنوب، تونس، طبعة أولى، 1991، ص394.
[9] Robert Misrahi, Traité du bonheur, II, Ethique, politique et bonheur .Ed .Seuil, Paris.1983, pp35
[10] Gilles Lipovetsky, le crépuscule du devoir , édition Gallimard ,Paris 1992,pp274-275.
[11] هوبز (توماس) ، اللوياثان، الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، مصدر مذكور، ص92
المصادر والمراجع:
باللّسان العربي:
أحمد ابن مسكويه، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1961
سبينوزا (باروخ)، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، الجزء الخامس: في قوة العقل أو في حرية الإنسان، القضية 40، دار الجنوب، تونس، طبعة أولى، 1991،
برجسن (هنري) ، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة عبد الدايم وسامي الدروبي، دار الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر. 1971
كانط (عمونيال) ، أسس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، منشورات الجمل، 2002
كانط (عمونيال) ، نقد العقل العملي، ترجمة أحمد الشيباني، دار اليقظة العربية، بيروت،
سارتر جان بول ، الوجودية مذهب إنساني، ترجمة كمال الحاج، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1983،
باللّسان الفرنسي:
Gilles lipovetsky, le crépuscule du devoir , edition Gallimard, Paris 1992,
E. Durkheim , Sociologie et philosophie, Edition .PUF, 1924
Robert Misrahi , Traité du bonheur, II, Ethique, politique et bonheur. Edition .Seuil, Paris.1983
|
ليست هناك تعليقات