الحب في أغرب تعاريفه: هو أن يرتاح المتحابين بحبهما من غير تَكَلُّفٍ وذلك لشيء عميق تتراسله القلوب في عمقها البعيد رغم ما قد ينال المتحابين من الابتلاء في هذا الحب.
الحب في حقيقته ناتجُ احتكاك الارواح الطاهرة، وهو بصورة بدائية موجود بالفطرة في كل إنسان. لا يُكتسب بالرجولة ولا بالقوة وإنما يُؤتى كما يؤتى الله العلم الحكمة من يشاء.
لكن ما هو كائن فينا من الحب بالفطرة لا يكفي لِتناول الحياة لِــتَشعُب العلاقات فيها، بل هو مُحتاج لِــتنشئة وتنمية، وإلا فإن بِــدَائِيَ الحب سيعيش ساذجا بين الناس.
يُنمى للعوام من الناس بالمخابرة والتعايش والتَّـعلم مــن قامات هذا الفن، وكما قلنا لا يؤخذ بالقوة والتَعَـنُّت وإنما يَنساب سهلا بالهدوء، والوقار، والاتزان، والذهول عند درجات مراتبه. ظَاهِرُه اللَّين والضَعف وباطِنه القوة الخارقة التي لا تزعزعها قِوى الطبيعة فضلا عن تأثير بني البشر….
له مسالك وعرة وضيقة لتلقيه، لا يستطيع الماشي فيه أن يتقد بالقدم الاخرى حتى يأمن موضع الاولى……، تفسده أمور عدة. أصل هذه الامور عضوين لا ثالث لهما: الفؤاد واللسان…..
وأما الخواص من الناس ففضلٌ من الله وهبته لهم، فـتـرى حالهم ومقالهم كله حب. نسأل الله هذا الحب.
الحب حِصْن منيع ونهر عذب ذُلاَل متدفق بالرغبة العارمة في الحياة والاقبال الباسم عليها.
ليس للحب مظاهر ولا أشكال معلومة ومحددة، ليس الحب بالرومانسية المُعلنة، وليس الحب استرضاء لأحد، وليس ادعاء بالرحة النفسية. بل الحب أن يَهْوَى المُحب في بحر الحبيب من غير هلاك، فَـتَحصل الـنَّشوة الدائمة والمَــدَدَ المطلق إيابا وذهابا مِنْ وإلى الحبيب والمحبوب.
شَرُّ الحب ما كان في طريق واحدة إما ذهاب أو إيابا، لأنه استعبادُ طَــَرفٍ لـطيبة الطرف الآخر.
الحب له مضربان من تحتيهما ضروب:
- حب العبد لربه وهو اسمى معاني الحب وأجلِّها واكثرها ضمان واطمئنانا.
لا يوجد في دنيا الناس عبد ضعيف مُحب لِأن يبقى عبدا لمولاه ذو السلطان والجبروت، ففي نفس وقَــرَارَة كل عبدٍ الرغبة في الحرية والعِـتق لِـيُدِير دَوْلَاب حياته من عند نفسه لا من عند مولاه. لكنَّ العبودية لله أمرٌ آخر تماما إذْ هي العبودية المطلقة لله لا لِسواه والعزَّة المطلقة مع ما سواه. يقول الشاعر:
ومما زادني شرفا وتيها**وكدت بأخمصي أطأ الثريادخولي تحت قولك يا عبادي**وأن صيَّرت أحمد لي نبيا
الحب لله يأتي بعد معرفة الله، فَأَحَبُّ الناس لله اعرفهم بالله. وفي إحدى مراتب المعرفة بالله تـتيقن النفس أنها غارقة في فضل الله، في نعيم الله، في لطف الله، في حب الله لها فهي مطمئنة. وتعرف بالنفس المطمئنة ويصبح القلب مستقرا من تقلب الحال، فيصير يحمل حينها من لفظ القلب الاسم لا الصفة، فتزول عنه صفة التقلب في الاحوال، ولأن الحب بطرفين حبيب ومحبوب، ففي علاقة السَّبْق في حب الله نجد أن: الله سبحانه أحبنا كلنا بني البشر منذ البداية منذ أن كنا في صلب ابينا آدم. لكن العارفون أحبوا الله بعدما عرفوه فهم بذلك متأخرون في الاستجابة لحب الله .
حب الخلائق فيما بينها: وهو موجود بِحُكْمِ ما أقَرَّينا وجوده بالفطرة، فكل إنسان لا يحب فهو منتكس الفطرة.
يسألني صديقي قائلا: أين ترى الحب بين الخلائق؟
فأجبته قائلا:
الحب في كل وجه مشرق من الحياة، ارى الحب في عين امي وابي، اراه في عيني صبي، اراه في وفاء صديق، في تَصَبُّر شــيخ مع مريده، وأراه في عــشقنا للحياة، في املنا في النجــــاح، في حبنا للطرف الاخــر، وصدق من قال الحب حياة، فمن لا يرى الحب في الوجود هو ليس بحي في هذه الحياة.
أنظر الصوفيين لهم قلوب وصدور رحبة للغاية وعندهم قدرة عجيبة على حب الاخرين وتقبلهم لانهم يعذرون في الخلق مُرَكَّب النقص الذي جبلهم الله عليه، وهذه في طليعة سماتهم ومميزاتهم إذن فَـحَدِّث الناس يا صديقي عن الحب واشدو به في كل واد وادع إليه فإنه من إحياء السنن بمكان، فإذا عفَّ الصوفيون عن الحب فعلى الدنيا السلام
لكنَّ عــلاقةً بين الخلائق أشْكَلت طَبيعتُها على الناس، وهي عــلاقة الرجل بالمرأة. وهذا باب تم الوقوف عنده طويلا وسالت فيه أقلام لتوصيفه وذلك بسبب غموضه وها أنا أقف عنده ليس حائرا ولكن موضحا ومفسرا. والحقيقة هي أن:
أن الانسان مركبتان:
- - روح من نفخ الله، تشده بالسُمُوِّ إلى السماء ليرقى إلى الملائكة، ويكفي الروح فخرا أنها تنسب الى الله، فهي بذلك منبع الخيرية في الانسان والصفاء والحب.
- - وشهوة شَارَكْــنَا فيها البهائم تجذبه إلى الارض لينحط إلى الحيوان، وهي محل الابتلاء
فَمَن استطاع أن يَـنْـتَـشِل كَــيْـنُونَـتَه مِنَ البهيمية ويعيشها بالروحانية فقد أفلح وَسَعِدَ وأسْعَد.
وفيما سبق ذره من ضروب الحب كحب الله وحب الخلائق فيما بينها لم يَحْصَل وأن اجتمع لُـبْسُ تـأثير هاتين المركبتين- الروح والشهوة- إلاَّ في علاقة الرجل بالمرأة فقد حصل هذا اللبس. والحاصل أن هاته العلاقة تدفعها رغبتين:
- - رغبة روحانية ملائكية وهي الحب.
- - ورغبة شهوانية بهيمية وهي الشهوة.
وفي هاته العلاقة نميز ثلاث حالات:
- - نوع مُوَفَقٌ تماما في علاقة الرجل بالمرأة وهو ما كان دافعه رغبة روحانية وهو الحب الخالص. وهو حب منشود غير مبلوغ في دنيانا هاته،
- - نوع منتكس تماما في علاقة الرجل بالمرأة وهو ما كان دافعة رغبة بهيميه حيوانية بحتة وهي الشهوة، وهي علاقة تتسم بالغدر والنصب والخداع.
- -نوع ميسورٌ سِجَال الحال في علاقة الجنسين وهو ما كانت تدفعه الرغبتين: الروحانية الملائكية والبهيمية الحيوانية
وهي حالُ معظم العلاقات بين الجنسين، فإذا ما غلبت الروحانية على البهيمية كانت العلاقة إلى الحب الملائكي أقرب، وإذا ما غلبت الشهوانية على الروحانية كانت العلاقة إلى الشهوة البهيمية أقرب.
ثم سألني الصديق: لكن لطالما تخيب آمال كنا نرسمها في مستقبلنا مع حبيب.
فأجبته:
كل علاقة خالية من المنافسة تُـنـتِـجُ حبًّا. أنظُر إلى حبنا لله لما خلى من المنافسة كان أجَلَّ أنواع الحب، لان المقصود عادل منصف وهو الله.
وفي علاقتنا مع الطرف الاخر وهو بيت القصيد هناك منافسة شديدة من جهة، ولا نضمن عدل الحبيب ووفائه من جهة اخرى، فالمنافسة من بني جنسنا الذين قد ينازعوننا حبيبنا خاصة في حب الرجل للمرأة، وعدم ضمان العدل من الطرف الذي نتحبب إليه، لأنه قــد لا يُـقَـدِّر ما نَكِّنُّ لـه في داخلنا ويعرِّضُــنَا للمـساومة مـع غـــيرنا، معْ ان القلوب وصِدْقَهَا لا يُــسَاوَم، والقاعدة عندي: أكْــرِم من القلوب ما كان اسْـبَـقها إليك بــالود وأدومها لك والصفاء.
ثم قال الصديق سائلا: أريد أن أحب من بني البشر لكنني أخشى الخيبات. فما العمل؟
رددت عليه:
حَاوِل أن تُحِبَّ بوجه مشروع ولا تخشى الخيبات فإن من يهب صعود الجبل يعش أبد الدهر بين الحفر، لكن الثقة الكبرى احتفظ بها لنفسك دائما ولا تمنحها لأي انسان، لأنك وأنت تبحث عن شريك حياتك لا تزال في اطار الاستكشاف والكشف، والمُسْتَـكْشَفُ إنسان، والانسان تجري عليه سائر الاحوال. مثل الرغبة والتَّـمَنُّع والتقرب والـتَّـنَـفُّر، فإن حدث خاب ظنك فيه فتكون خيبة بأقل الضررين.
إذا علمت هذا فستكون صبورا في معاملاتك مع الناس لأنك عندما تُـقَلِّب أي تصرف او ردت فعل منهم في داخلك ستجد له العذر فيما فعل، إلا في بعض الحالات، في حالة إذا تم هدم ركن ركين من اركان القيم والمبادئ وأمهات الاخلاق، فَهُنَا لِتَـعْلَم أن الأمر قَـدْ حِــيكَ ضِــدَّك قَـصْداً.
إذا ما تخلت النفس عن البهيمية واعتزلت الجُــندية في حزب الشيطان فتطهرت من جميع امراض القلوب، والتي ما هي إلا نتيجة لرَجْمٍ خبيث للشيطان في القلب فـيُؤَجِّجُه عــداوة للآخر، فمرةً بكره ومرة باحتقار وأخرى بحسد…. وبهذا يكون الحب اساس لكل شيء جميل يعني الحياة.
فحال أهل الجنة وهو بجوار ربهم هم منزوعي الشهوة البهيمية وليس لرجمات الشيطان عليهم سبيل فهم يعيشون في حب مطلق ويفعلون كل افعالهم في الجنة بحب مطلق حتى وهم يأتون الحور العين وأزواجهم في الجنة هم يأتونهن بحب وليس بشهوة.
فحين يصف الله أهل الجنة يصفهم بصفات تعكس سلوك الحب بينهم ومن تلك الصفات نعدد ولا نحصر قوله تعالى:
** وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ **
** إِخْوَانًا عَلَى سُرَر مُتَقَابِلِينَ **
|
ليست هناك تعليقات