أخبار الموقع

اهــــــــلا و سهــــــــلا بــــــكم فــــــي موقع مجلة منبر الفكر ... هنا منبر ختَم شهادةَ البقاءِ ببصمةٍ تحاكي شَكلَ الوعودِ، وفكرةٍ طوّت الخيالَ واستقرتْ في القلوبِ حقيقةً وصدقاً " اتصل بنا "

« ألَامُوتْ* » ... بقلم : فريد غانم



  « ألَامُوتْ* » (من كتاب "ترنيمةٌ للقديم")
    بقلم : فريد غانم    
   9/1/2018


« مجلة منبر الفكر »
  فريد غانم       9/1/2018


 (١)

في "أَلامُوتْ"، عندَ صخرةِ الإخفاءِ، فوقَ جدائلِ النّهرِ، إلى يسارِ الجِسْرِ المزروعِ على هُوّةٍ، في حديقةٍ لا يَطالُها إلّا الشّمسُ في النّهار والقمرُ في اللّيل، كانَ يلعبُ بالخناجرِ الخفيفةِ والموْتِ والأشعار.

(٢)

ها هوَ الحَمَامُ الزّاجلُ يحملُ الرّسائلَ بينَ الحوريّاتِ وبينَ الشّهداء، بينَ الحديقةِ المعلّقةِ على ضحكاتِ الصَّبايا وبينَ الأرواحِ المُعلّقةِ على أسنّةِ الرّماح.

الغَنَجُ والرُّمحُ وجهٌ لوجهَيْن.
والذّبابُ يجهلُ المكانَ هنا، لأنّهُ لا يُحبُّ المُكيّفاتِ والقِممَ الشّاهقَةَ. والسّنونوّاتُ تبحثُ في السُّهولِ والتّلالِ المُنخفضةِ، عن الهوامّ وفراشاتِ الرَّبيع.
وقوسُ قُزحٍ صارَ هرِمًا، لا يستطيعُ الصّعودَ إلى ما فوقَ فوقَ خَصْرِ صخرةِ الإخفاء، فيفرشُ ذيلَهُ كالطَّاووسِ تحتَ أحزمةِ التَّنانير المُعلَّقةِ على غيمٍ شاردٍ.

(٣)

انظروا، انظروا، ها هي تسقطُ الشّمسُ على الرَّذاذِ المُتطايرِ من عرَقِ النَّهرِ، فترسمُ ثمانيةَ ألوانٍ وثمانينَ طيفاً على العالمِ السُّفلي. والظِّلُّ يسرقُ الألوانَ من قوسِها.

انظروا، انظروا، ها هو النّسْرُ يجمعُ الأشجارَ العتيقةَ بمنقارِهِ، ويطاردُ الأعداءَ في سوقِ دمشقَ. والظّلُّ يصبِغُ النّاسَ بثمانينَ طيفًا.

انظروا، انظروا، ها هو الشابُّ الأسمرُ يقفزُ من هذهِ الضّفَّةِ على حبلِ دخانٍ إلى الضّفةِ الأخرى المُمتدَّةِ على صدرِ حبيبتِهِ الوهميَّةِ. 

(٤)

وها هو، يجلِسُ خلفَ أسوارِ صرامتِهِ، ويلعَبُ لُعْبةَ الخناجرِ الرَّشيقةِ والموْتِ ويعقِدُ حاجبيْهِ فوقَ أُحجيةٍ في الرّباعيةِ الرَّابعةِ والأربعين، ويحاولُ إيجادَ معادلةٍ تربطُ بينَ المُكعّبِ والمخروط. هو يعرفُ أنَّ كلَّ قصيدةٍ موتٌ لفارسِها، موتٌ قصيرٌ، في المسافةِ بين مطلعِها والشّهقةِ الأخيرة. وهو يعرِفُ أنَّ كلَّ قلعةٍ ستصيرُ مقبرةً.

لكنَّهُ لا يرغبُ في الموتِ الآن. سيموتُ حينَ ينتهي من شقِّ قنواتِ العَسَلِ الزَّعتريِّ المُرِّ، بالخناجرِ الخفيفةِ الرَّشيقةِ، وبناءِ مُروجٍ للإوزِّ الأبديِّ بالوُجوهِ الخفيّةِ، وسريرٍ من مبِيضِ النّعامةِ والحريرِ للأمواتِ الذين أرجأوا بعثَهُم، إلى حينِ تتوفَّرُ ساحاتٌ للوقوف.
هو لا يرغبُ في الموتِ الآن.

(٥)

لا ذُبابَ في الجنّةِ.
لا جِراحَ،
ولا حاوياتِ للنّفايات. والحَمَامُ الزّاجلُ يأتي خِفيةً من تحتِ عُشِّ النّسرِ، يوزِّعُ رسائلَ الحبرِ الأبيضِ على الصّناديقِ الحجريَّةِ، ويمضي بكاملِ ريشِهِ إلى بيتِهِ السرّيِّ في الأبواقِ العتيقةِ. وهو شاردٌ، خلفَ عُقدةِ حاجبَيْهِ، فوقَ النَّهرِ المزروعِ على الهاويَة. يموتُ قليلًا كلّما قرأَ قصيدةً، ويحيا قليلاً كلّما اقترب من خيمةِ صديقِهِ:
ستقومُ الأسطورةُ على رمادِ العُيون، وسوف يُصدّقُها أبطالُها.
سوفَ تقومُ الجنّةُ على رمادِ الأفيون، وسوف يصدّقُها أبطالُها.
وسوفَ تقومُ السّاعةُ على رمادِ النّاس، ولن يصدّقَها أحدٌ حينَ لا يبقى أحَدٌ.

(٦)

وها هو، فوقَ صخرةِ الإخفاءِ، يُجري حديثًا مع الحماماتِ والخناجرِ الرّشيقةِ والشُّهداء، بالرّومانيّةِ القديمةِ واللاتينيّةِ والفارسيّةِ والتُركيّةِ والعربيّة. يعرفُ أنَّ قوَّتَهُ في ضعفِهِ، وأنَّ ضعفَهُ في قوَّتِهِ. ويكادُ يصدِّقُ أنَّ التاريخَ يكتُبُهُ المنتصرون. لذلك، هوَ لا يرغبُ في الانكسارِ اليوم. سيكتبُ، قبلئذٍ، جملةً واحدةً فقط. سيقتحِمُ الخيمَةَ ببراعةِ شَبَحٍ. سيفقأُ فُقاعَةَ المملكةِ بشوكِ القبائلِ الجديدةِ، ثمَّ يُسلِّمُ مفاتيحَ الدَّربِ وماءَ الرّافدَيْنِ وبوَّاباتِ غرناطةَ للتَّتار. 

(٧)

في أَلَاموتْ، بين دروبِ نَيْسابور ونبيذِ عُمَرٍ، بينَ قصرِ هيلانةَ وحاملةِ الطائرات في الخليجِ المُحَيَّرِ، بينَ أيا صوفيا وأديس أبابا، اختلفَ النّاسُ على لونِ القمحِ.

في أَلامُوتْ، بينَ أعناقِ حُورِ العِين ونُحورِ السَّلاجقة، بينَ ما نحتَهُ البشرُ على قسوةِ الصُّخُورِ وما نحتَتْهُ القسوةُ في الأسفار، بين ما عرفناهُ في الجهلِ، وبين ما جهلناه من جهلِنا، اختلفَ النّاسُ على اسمِ القمح.

في أَلاموتْ، بينَ البُقْعةِ التي لا شكل لها والشَّكل المخفيِّ خلفَ البُقَعِ المرئيّة، بينَ الشّهوةِ للارتقاء والارتقاء نحو الشَّهواتِ الأولى، بينَ الموتِ من أجلِ حياةٍ تختلفُ والحياةِ من أجلِ موتٍ يختلفُ، اختلفَ الناسُ على طعمِ الحِنطة.

(٨)

في َألامُوتْ، عند صخرةِ الإخفاءِ، على يسارِ النّهرِ المعلّقِ على رذاذهِ، كان يجلسُ وراءَ أسوارِهِ. وكان يلعبُ لُعبةَ القفزِ إلى الموتِ في حِضنِ حوريّةٍ، ويخلطُ الخناجرَ الرّقيقةَ بالأشعار، ويشاهدُ فيلمَ داحسَ والغبراء.

(٩)

لا ذبابَ هنا، في أَلاموتْ.
لا قمحَ هنا، في أَلامُوتْ.
والسّنونوَّةُ تقتفي أثرَ الرّبيعِ في العالمِ السّفلي. وفيما يتكوَّرُ، في شكلِ مخروطٍ،  فوقَ يقينِهِ المُتَفسِّخ، وفيما تتفسّخُ بغدادُ أمامَ يقينِ قبائلِها، يجيءُ رداءٌ رثٌّ من طريقِ القوافلِ، يتسلَّقُ نحوَ وكْرِ النَّسرِ، عبرَ العُصورِ، على حبلٍ من الهواءِ.

(١٠)

وفي الطّريقِ، نحوَ قِمّةِ أَلامُوتْ، خلفَ الرّداءِ الرّثِّ، على ذيلِ حمارٍ أبيضَ مُحمَّلٍ بالأعشابِ الفقيرةِ، يحومُ سربٌ من الذُّباب.
_____________________________________

*"ألاموت" هي قلعةٌ شهيرةٌ في إيران، عُرفت في حينه بكونِها حصينةٌ وغيرَ قابلةٍ للاختراق. تحصَّنَ فيها حسن الصَّبَّاح، وفرقتُه التي اشتهرت باسم "الحشّاشين"، ونُسِبت إليه وإلى هذه الفرقة عمليَّات اغتيالات سياسيّة. واعتبرَها البعض أنجعَ وأفضلَ حركةٍ إرهابيّة في ذلك الحين. وكان حسن الصّبّاح، قبل انتهاجه هذا الطّريق، صديقًا وزميل دراسةٍ لعمَر الخيَّام (الشّاعر والفلكي والرّياضيّ المعروف) ولنظام المُلك، الّذي صار  الرّجل الأوّل في الدّولة العربيّة الإسلامية في  تلك الفترة. وينسبُ إلى حسن الصّبّاح أنَّهُ نجح، مع فرقتِه، في اغتيال نظام الملك، حينَ كان  الأخير في خيمتِه وبين جنودِهِ.

‭‮

  اقرأ المزيد لـ فريد غانم


لإرسال مقالاتكم و مشاركاتكم
يرجى الضغط على كلمة  هنا


ليست هناك تعليقات