لئن كانت الفصول الأربعة التي نعيشها في هذا العالم لا تتسع لإبداع المبدعين والكتاب والشعراء والأدباء فهناك موسم خامس نستطيع تسميته موسم الكتابة..له طقوسه ومستلزماته، وأدواته..
روى
أبو الفرج الأصبهاني عن الأصمعي” قال: كان بشار ضخماً، عظيم الخلق والوجه، مجدوراً، طويلاً، جاحظ المقلتين قد تغشاهما لحم أحمر، فكان أقبح الناس عمىً وأفظعه منظراً وكان إذا أراد أن ينشد(وهنا بيت القصيد) صفّق بيديه وتنحنح وبصق عن يمينه وشماله ثم ينشد فيأتي بالعجب” (الأغاني).
لا يهمنا صفاته الخَلقية ولا الخُلُقية بقدر اهتمامنا بالجو الذي كان يدعوه لقرض الشعر، صفق وتنحنح وبصق..ولا أدري ماعلاقتها بالكتابة، على أي حال، هذا حال كثير من أهل الأدب والشعر، والمبدعين كذلك، فهذا أرخميدس يصرخ خارجاًمن الحمام(وجدتها وجدتها) ويقصد أن حجم الماء المُزاح من حوض الاستحمام – إذ كان يستحم – يساوي حجم الجسم، أو الكتلة وأن جسمه أصبح أخف وزناً في الماء، عندها أعلن عن ولادة نظرية أرخميدس..على أنني أشك في رواية خروجه من الحمام عارياً، إلا أن رواية جدتي الشعبية(اللي اختشوا ماتوا) والتي تؤكد أن ثلة من النساء كن في حمام سباحة، وهي موضة دارجة في البلاد العربية إلى وقت قريب، فحصل حريق داخل الحمام، فآثرت النسوة الموت احتراقاً على أن يعرضن أجسادهن أمام المارة إذا ما خرجن..على أي حال..لا يهمنا صحة الرواية من عدمها، وإنما نريد الخوض في مرحلة ما قبل ولادة النص الأدبي سواء كان شعراً أو نثراً(قصة، مقالة، مسرحية، أقصوصة، رسالة…) وممن تناول الموضوع قديماً ابن قتيبة في (الشعر والشعراء) وابن رشيق القيرواني في (العمدة في محاسن الشعر وآدابه)، وابن خلدون في مقدمته التي عنوانها فقط هو عبارة عن كتاب، فهل تخيلتم حجم عنوان كهذا (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) ؟
فابن رشيق يروي على ذمته أن الفرزدق يقول القصيدة إذا ركب ناقته فاندفعت به في الأودية، وبين الشعاب، وكثيّر عزة، وعَزّة اسم محبوبته التي لم يتزوجها، وليست أباه، أو قبيلته كما يتوهم بعض الناس..يقول الشعر إذا طاف في الرياض المعشبة، ولا أدري ما يفعل كثيّر إذا ما أجدبت الأرض هل يتوقف عن الشعر والقصيد، وما حيلته أمام حبيبته عزة؟
وأن
جريراً يقول الشعر إذا اختلى بنفسه، وغطى رأسه، وذكرت سابقاً كيف جهز قصيدة هجاء في الراعي النميري عبيد، وأنه كان يزحف على يديه ورجليه، لكن لا أعرف إن كانت هذه عادته أثناء كتابة الشعر أم لا؟
وأضاف ابن رشيق في كتابه (العمدة) “حكى الأصمعي عن ابن أبي طرفة: كفاك من الشعراء أربعة: زهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب. وزاد قوم: وجرير إذا غضب” طبعاً الزيادة استندوا فيها على هجائه للراعي عبيد..
أما كُتاب العصر الحديث من شعراء ووروائيين وقُصَاص فلهم طرائق وأساليب تسبق ميلاد العمل الأدبي مضحكة جداً، ف
غوته الشاعر الألماني، لا يكتب إلا إذا وضع أمامه طبق من التفاح المعفّن، و
ألبيركاموا صاحب رواية(
الغريب) وأنصح بقراءتها، وإن كان ذا توجه وجودي ملحد، يكتب واقفاً ولا أدري هل يكتب على سبورة مثلاً أم على الحائط؟ و
نزار قباني ينثر أمامه مجموعة من الأوراق الملونة، ويتعطر ويلبس أجمل ثيابه، وكأنه على موعد مع حبيبته لا مع قصيدته، والقصيدة هي الحبيبة والعشيقة برأي الروائي
حسن حَمِّيد كما علمنا هو بنفسه يوماً ما في اتحاد أدباء العرب بدمشق..وكان
الرافعي قبل أن يشرع بأي كتابة، لا بد أن يقرأ كتاباً لأحد أساطين البيان
كالجاحظ أو
ابن المقفع، ولما سأله تلميذه
سعيد العريان لِمَ ذاك؟ أجاب أنه يجب أن يستعد للكتابة بلسان هؤلاء أما لهجته المصرية الدارجة فهي بعيدة كل البعد عن البيان المطلوب..وكان
ديستوفسكي – روائي روسي – يقرأ روايته بصوت عالٍ حتى يحفظها قبل أن يكتبها، ومن أجمل رواياته (
الجريمة والعقاب) أيضاً أنصح بقراءتها لكن بعيداً عن مسرح الجريمة..وكثير من الكتاب والأدباء يحب العزلة عن الناس أثناء الكتابة كما فعل
فيكتور هيجو صاحب(
البؤساء) والصحيح أنها (
البائسون) وليس البؤساء ، وذلك لأن البؤساء تعني الأقوياء وليس الضعفاء الذين قصدهم الكاتب، ولكن الترجمة لم تكن دقيقة حتى في العنوان، من يتقن الفرنسية فعليه قراءة الرواية بلغة كاتبها بالتأكيد ستكون أجمل..ومن هؤلاء أيضاً..
محمد حسنين هيكل حيث يكتب مقاله السياسي في بيته بعيداً عن الضجيج وكذا
نجيب محفوظ،
وتعجب
أحلام مستغانمي من الكتابة في المقاهي أو القطارات كما يفعل جان
بول سارتر صاحب كتاب(
الذباب) و
رامبو الشاعر الفرنسي الشهير في فرنسا..(صحيفة مصرس/2010).
فتقول مستغانمي:
أنا امرأة مجنونة، وأزداد جنوناً في حضرة الورق
إن الكتابة لديها تحتاج إلى حميمية، وأحب جنونها لأنه أخرج لنا ثلاثية رائعة من الروايات الجميلة(فوضى الحواس، عابر سرير، ذاكرة الجسد) وألحقت بها(نسيان دوت كوم) و(الأسود يليق بك) وأحب نثرها أكثر من شعرها فقد خيّبت أملي في قصيدة (سأنجب منك قبيلة) التي غنتها جاهدة وهبي في بيروت..كما خصص السيناريست أسامة أنور عكاشة كاتب (ليالي الحلمية) التي مللنا فيها من ظهور يحيى الفخراني على التلفاز بأجزائها الثلاثة، بيتاً له في الإسكندرية فكان يعد الشاي والنسكافيه، ويجلس وحيداً بعيداً عن صخب القاهرة الممضَ، وطلبات الزوجة والأبناء..وحسب ما يروى أنه كان يكتب كل عمل بقلم خاص، ثم يكتب على القلم ذاته اسم العمل، ويحتفظ به..
وربما دخّن
الرافعي الشيشة أثناء الكتابة، واحتسى دلتي قهوة تركية، كما
تولستوي كاتب
(الحرب والسلام)و(أنّا كارنينا) حيث كان الأخير يستيقظ في الخامسة صباحاً ويحضر قهوته، ويتجه إلى مكتبه المسدل الستائر ويكتب لمدة ثلاث ساعات ونصف، ويرتدي لباس الفلاحين، وظلت رواية(
عرس بغل) التي لم أقرأها في ذهن الروائي الجزائري
الطاهر وطار خمس سنوات قبل ولادتها، كان العنوان يتحرش بذاكرته إلى أن كان المخاض، ولا تقيدوا الإبداع بزمن معين كحمل المرأة تسعة أشهر مثلاً..فربما طال إلى خمس سنوات وربما إلى أقل أو أكثر.
يقول الماغوط وهو برأيي كاتب متميز، وقد أبدع في مسرحيتي (كأسك يا وطن)و(غربة) مجسداً في شخص دريد لحام على خشبة المسرح أو على شاشة التلفاز، ولأدلل لكم على إبداعه، أن دريد لحام حينما فارقه فشل في أول عمل تلفزيوني وانتكس من خلال مسلسله البارد(أبو الهنا) ولم يتوقع أحد أن يخرج إلينا بعمل فني بهذه الضحالة، نظراً لرصيده الكبير من إبداعات الماغوط.
أعتذر عن الاستطراد..يقول
الماغوط:
عندما أكتب أصير كنهر بردى، أتدفق في الشتاء وأكتب، وأشيخ في الصيف وأتوقف عن التدفق والكتابة..
ألم أقل لكم إن الكتابة مواسم..فما كل المواسم صالحة للكتابة.
و
بطرس البستاني..كاتب موسوعي ومترجم أيضاً وله موسوعة
(دائرة المعارف الإنسانية) في ظل الاحتلال العثماني كان يشرب الشيشة أثناء الكتابة..والشاعر
بيرم التونسي يجلس في مقهى شعبي بالسيدة زينب ويكتب..أما
فولتير الكاتب الفرنسي المعروف فقد كان يضع أمامه عدة أقلام رصاص، ثم يقوم بتكسيرها ويلفها في ورقة الكتابة، ويضعها تحت مخدته، حتى إذا مااستيقظ كتب العجب العجاب..
(طقوس الكتابة لحظات الإبداع في حياة الكاتب/ مجلة الرافد: محمد الخربوطلي).
والشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري يغني بالمقامات العراقية ثم يكتب، وأنا أتفق معه فالشاعر قبل أن يكتب قصيدته يغنيها وأهل نجد يقولون(يشيلها، من الشيلة وهي لون من ألوان الغناء البدوي عندهم) وغناؤها يدل على انسجام تفعيلاتها وسلامة وزنها في كثير من الأحيان..
و
ماركيز يضع أمامه الآلة الطابعة كي يكتب..ومع ذلك أحياناً تستعصي الكتابة على الشاعر أو الأديب
فالفرزدق الذي ينحت من صخر أحياناً لا يستطيع نحت بيت واحد من الشعر كما يقول:
إن خلع ضرس أهون علي من قول بيت من الشعر أحياناً
لا أدري ما نقول نحن الشعراء عن حالنا اليوم حيال ما قاله الفرزدق؟
ولا شك أن معرفة الجو الذي كتب الشاعر به نصه أشبه بمعرفة أسباب نزول آيات القرآن الكريم، فكما أن أسباب النزول تساعد على إيضاح المعنى، وسهولة التفسير، كذلك فإن الإحاطة بالجو الذي كتب فيه الشاعر أو الناثر يضفي على النص جمالاً، ويساعد الناقد والدارس على حد سواء على استنباط ما لا يمكن رؤيته، وهو ما يسمى قراءة ما بين السطور.
وليس بالضرورة أن تكون للشاعر أو الكاتب طقوس محددة، أو لحظات جنون كما تسميها
مستغانمي، المهم أن يكتب، ولو في الحمام كما كانت تقول
أجاتا كريستي في رواياتها البوليسية التي سببت لي الرعب أثناء قراءتها ولا سيما(
مقتل السيد أكرويد) و(
جريمة في ملعب الغولف)
وبعض الكتاب بالغ في اتخاذ الأمكنة الخاصة بكتابة الشعر أوالأدب، ليوحي لنا أن العملية الإبداعية أشبه بالوحي الذي كان ينزل على
النبي صلى الله عليه وسلم عندما يدخل ما يشبه الغيبوبة ويتعرق، ويأتيه الوحي كصليل الجرس صلى الله عليه وسلم..وبعضهم يوهمنا بوجود شيطان لشعره، كما كانت العرب تسمي شيطان امرئ القيس لافظ بن لاحظ، وشيطان عبيد بن الأبرص هبيد، وشيطان الأعشى مسحل..وهي أسماء ما أنزل الله بها من سلطان..(طقوس الكتابة..ديوان العرب/ فيصل التلاوي2014).
صحيح أن الإبداع حالة جنونية، ولكن من المبالغة القول إنه يصل إلى ما ذكر لدى الكثيرين.
أنا معكم بطبعي أحب الهدوء، ولكن أحياناً أكتب والتلفاز يتحدث على ناشيونال جرافيك، وخصوصاً في السجالات الشعرية، وأحياناً أكتب وابنتي بجانبي تلحّ علي لأشتري لها علبة ألوان، وهي عادتها دائماً إذا ما رفضت لها طلباً تأتيني في غمرة الكتابة، فأعطيها المحفظة لتأخذ ما تريد حتى إذا ما انتهيت من الكتابة شعرت بالندم عندما أجد المحفظة خالية من النقود.
الكتابة شعور..احتراق..جنون..ذهول..اكتئاب..لحظة انفصال الجنين عن أمه كما يقول الروائي سيد الوكيل..لكنها لاتحتاج بالضرروة إلى كل ما ذكر.
ليست هناك تعليقات