لم يكن ينقصه شيء إلا الموت واقفاً، لكي تكتمل أساطيره.. جميل شفيق ليس مجرد فنان تشكيلي، نقدمه بعدد المعارض واللوحات الفنيّة، لكنه مشروع «مبدع»، يعيد صوغ العالم والمخلوقات بطريقته المتقشفة المتفردة،
لذلك اتسعت رؤيته لتشمل الصحراء والبحر والسماء، وتعددت عناصره لتشمل كل الكائنات، ولكن بنظرته الخاصة، التي يتمازج فيها الواقع بالأسطورة والخرافة، فالحصان عند جميل شفيق ليس هو الحصان الواقعي، كذلك النساء، والقطط، والسمك، والحمير، والمراكب، والنخيل، والطيور والزهور.. فالنساء يشبهن كثبانا رملية ذوات عيون مفتوحة على اتساعها، والأحصنة مزيج من الديناصور والزرافة والحصان، والحمار قد يتأنق ويتراشق ليصبح غزالاً، والسمكة قد تصبح شاهدا على العالم، أو مراقباً يقظا لما يدور، أو تقبع حزينة فوق رأس امرأة كما لو أنها ضحية أبدية للأفواه الجائعة، لكنها لم تكن في اي عمل من أعماله رمزاً دينياً لفنان من عائلة قبطية، من المؤكد أنه سمع يوما عن رمزية السمكة وبطرس الرسول.
ميراث العزلة
نشأ جميل شفيق على هامش الصخب: طفلٌ قبطي من قرية صغيرة في أواسط الدلتا المصرية.. صبي على شاطئ ترعة ريفية، كان (الشاطئ) بالنسبة إليه هو ضفة التأمل
لتي توفر له فرصة الإبحار في الخيال.. تلميذ سرحان شغوف بالرسم ودراسة الفن لأب يرى أن الرسم مضيعة للوقت وللمستقبل، لذلك كانت أمه تتستر على الكراسات التي يملأها برسوم مختلفة باقلام الرصاص والحبر الجاف.. شيوعيٌ يناصر الفقراء و يحلم بتأسيس أول كوميونة مصرية مع صديقه وزميل دراسته حجازي (رسام الكاريكتير في ما بعد).
عندما انتهى جميل من دراسته الثانوية في طنطا، والتحق بكلية الفنون الجميلة، بدأت مرحلة مختلفة تماما في حياته، فقد كانت مصر في أعقاب العدوان الثلاثي (نهاية الخمسينيات) تموج بالثورة، وبالأفكار الاشتراكية، وبالأمل المغامر في بناء مجتمع العدالة والتصدي لمخططات الاستعمار والامبريالية، وأثناء الدراسة التقى جميل في المسكن بزميليه محيي اللباد ونبيل تاج، وتعرف إلى عشرات الفنانين والمبدعين القريبين من أفكاره الاشتراكية، وكانت النقاشات الثرية تتضافر مع رؤيته البصرية للعالم، وتصوغ بداخله اتجاهاً مغايرا لفن اللوحة، ولبهجة التلوين والزركشات، كان يحلم بفنٍ جديد من الناس وإلى الناس، لم يكن يريد تغريب العيون، ولا الموضوعات، بل كان يسعى لتحقيق حالة من الألفة بين الفقراء وبين الفن، لذلك اختار الحبر الشيني القريب من الحبر الذي يكتب به الأطفال في الكتاتيب، والقريب من الأسلوب الذي كان يرسم به في كراسات الطفولة.
بعد التخرج التحق ابن القرية الصغيرة في محافظة الغربية بالعمل كرسام في مجلة بالأبيض والأسود كانت تصدر كنشرة لخدمة الفلاحين باسم «التعاون الزراعي»، وقد اتاح له العمل في هذه المجلة أن يطوف مصر من شمالها إلى جنوبها، ليخرج من محدودية شاطئ الترعة في قريته، إلى آفاق أوسع، ويتعرف إلى عناصر وبيئات وشخصيات تتنوع بين عالم الدلتا الأخضر اللين، وعالم الصحراء الهائل في الواحات، والجمع بينهما بتفرد في الصعيد، بالإضافة إلى البيئات المغلقة على تراثها الخاص مثل البدو والنوبة.
أسطورة الماء
لم يكن جميل شفيق يفكر كثيراً في هاجس الإنجاز الكمي، أو التفكير في أعماله كسلع ومقتنيات تدر عليه الربح، لذلك لم يفكر في مغازلة النخبة (لا الثقافية ولا المالية) ولم يفكر في تنظيم معرض تجميعي لأعماله، حتى تجاوز الخمسين من عمره، وفي عيد ميلاده الأول بعد الخمسين أقنعه النحات الكبير عبد الهادي الوشاحي بتنظيم أول معرض له، وقد أهداه إلى روح الفنان الاشتراكي المؤثر حسن فؤاد، الذي كان بمثابة جيفارا فني للفنانين الاشتراكيين في الخمسينيات والستينيات، ونظرا للطابع الجديد الذي أظهرته لوحات جميل في المعرض، فقد عرف باسم «إلياذة جميل شفيق»، لأن اللوحات كانت بمثابة متحف تراثي يضم الكثير من العناصر التي تعبر عن بيئات مختلفة، بروح أسطورية لا تسجيلية.
بعد ترنح الاشتراكية، وتراجع حالة الثورة في المنطقة ولدى المثقفين المصريين، عاد جميل شفيق إلى عزلته الاختيارية، لكن ليس بالطريقة المتطرفة التي نفذها صديقه حجازي، لكنه اختار أن يبتعد بمسافة محسوبة.. ليس إلى شاطئ الترعة في قريته الأولى، ولكن إلى شاطئ البحر، في مسكن صغير، كان يتأمل من خلاله الماء باعتباره المادة الأولى للخلق، وهناك على شاطئ البحر المتوسط تفرغ جميل لالتقاط «طرح البحر» من أخشاب ونفايات صلبة، ليبني منها عالما مجسدا من الشخصيات، وهي خطوة تجريبية تتجاوز التقسيمات التعسفية للفن التشكيلي، وتليق بفنان جميل وشفيق وأسطوري.
ليست هناك تعليقات