خلال محادثة خصّ بها التلفزيون الجزائري في 14 كانون الحالي، أعلن والي غرداية، عزّ الدين مشري، وسط دهشةٍ عامة، عن خطة تسوية سياسية لصراع وادي مزاب، أعدتها السلطات الجزائرية. فها هو بعد سنوات من تفضيل الحكومة الجزائرية للإدارة الأمنية لهذا الصراع، مع نشر عددٍ هائل من قوات الشرطة في غرداية، تبدل الحكومة من استراتيجيتها لإيجاد تسوية دائمة لمشكلة تتفاقم نتيجة الفشل السياسي للدولة في جنوب البلاد.
منذ عام 1975، ومع التدفق المتزايد للبدو العرب للإقامة على هامش المدن المزابية التقليدية، شهدت المنطقة مواجهات متكررة بين البربر الإباضيين - الذين ينتمون في الأصل لجماعة دينية نشأت في فترة الانقسام الشيعي («الخوارج»)، وأقاموا في وادي مزاب للهرب من الملاحقات خلال فترة الحكم الفاطمي - وبين عرب غرداية، الذين ينتمون تقليدياً إلى المذهب المالكي.
وبديلاً من محاولة فهم منطق هذا الصراع، إلا أنه ينتشر تفسيرٌ مُبسط لهذه الأزمة وهو الانقسام الاثني والطائفي، فوفقاً لهذا التفسير، يسعى السكان العرب العاطلون إلى الاستيلاء على المنطقة التي يقيم فيها المزابيون بتواطؤ خبيث من قبل السلطات الجزائرية التي تستهدف تعديل البناء الاثني للأراضي من أجل معاقبة طائفةٍ منحسرة على نفسها، وغير مدرجة ضمن شبكة السلطة.
ويستند هذا التفسير الشائع جداً بين أوساط التيارات الفرنسية البربرية، الرافضين بتحيز أي إشارة إلى العروبة، الى الكليشيهات الغابرة من القصة الاستعمارية الفرنسية المبنية على التقسيم المزعوم بين العرب والبربر، كما أنه يقدم المزابيين كضحايا إثم السلطات العامة في الدولة اليعقوبية التحزبية التي تبحث حصريا عن الولاء. على الرغم من أنه لا يمكن إنكار أن التوترات تبلورت حول رهان احتلال الأماكن وأن فشل سياسات الدولة الجزائرية في التنمية قد ساهم مساهمة واسعة في الإبقاء على الطابع التنافسي في مزاب، إلا أن الانشقاق الخيالي بين العرب والبربر لا يبقي سوى تفسير تكذبه الحقيقة، هذا التفسير يميل إلى تناسي أن الأغلبية العظمى من الناطقين باللغة البربرية يندرجون ضمن المجال العربي الإسلامي، وأن مصيرهم جميعاً متشابك تشابكا وثيقا، فهناك بربر مثل الشاوية شكلوا دائماً رأس حربة القومية العربية في الجزائر.
أما عن المزابيين، فهم مدرجون «في جميع تيارات الحركة الوطنية: بداية من حزب الشعب الجزائري، والعلماء، وجيش التحرير الوطني، والحزب الشيوعي، وهيئة التجار الجزائريين»، مثلما تنوه عالمة الاجتماع الجزائرية فاطمة أوصديق، في تأملاتها عن حركات الشعب والتحولات الاجتماعية في مزاب.
يربط التدين المنحرف هؤلاء البربر، المنتمين إلى المذهب الإباضي (الناطقين بلغتين بالمناسبة، وهي العربية والبربرية)، بشكل وثيق بالجزيرة العربية، لا سيما سلطنة عمان واليمن، وبالتالي يمكن استشفاف أن أصل الصراع يمكن العثور عليه في نطاق آخر خارج الانقسامات الاثنية والطائفية، هذا النطاق يكمن في التنظيم الاجتماعي للطائفة المزابية وعلاقات الطبقات في منطقة مزاب.
عدم مساواة هيكلية
يرجع التطور الإقليمي والمتفاوت للجنوب الكبير للجزائر، جزئياً إلى الشكل الهيكلي الموروث من فترة الاستعمار: فالتوسع الهيكلي للاقتصاد الاستعماري ساهم في خلق تنمية غير متكافئة، كما أنه قاد إلى هيمنة اقتصادية واجتماعية ساحلية للمناطق الشاطئية مثل ألجيروا والقبائل وأوران وعنابة، على حساب المناطق الداخلية والجنوب الكبير. وفي نهاية ستينيات القرن الماضي ابان الجزائر المستقلة، ساهم فشل سياسات التنمية الداخلية للبلاد، التي كان من المفترض أن تعزز التنمية بعمق الصحراء، على العكس في إعادة إنتاج هذا التفاوت في المساواة، وحفّز هذا السياق استفحال الفقر المدقع وسط السكان العرب للجنوب الكبير، غير المدرجين جيدا في الشبكات الاقتصادية والمؤسسية للدولة.
غير أنه على النقيض، سمح التنظيم الاجتماعي للمزابيين لهم بالحفاظ على وضعهم الاقتصادي المهيمن ومنحهم الاندماج المبكر جداً في الأشكال الجديدة من الاقتصاد في التل الجزائري واندراجهم القوي في هياكل أسرية وطائفية تقليدية. وكما توضح أوصديق فإن «معدل البطالة بين المزابيين ضعيف، وربما غير موجود، على عكس وضع العديد من الشباب الشعانبة (العرب القبليين)»، قبل أن تضيف أن المزابيين يتمتعون دائماً بالاستقلالية تجاه الدولة، ويتولون إدارة شؤونهم على أساس تضامن طائفي واقتصادي، على وجه الخصوص».
وبحسب الباحثة، فإن القضاء على الفقر في مزاب يُمكن تفسيره من خلال الفاعلية الطائفية الفائقة «للعشيرة»، والتي يظلُّ فيها مفهوم التضامن مركزيا ويظهر بوضوح، خاصةً خلال تقاليد الزواج التي تقام وسط احتفالات تحضرها جماعات تضم الأكثر ثراءً والأكثر فقراً من العشيرة نفسها.
وعلى الجانب الاقتصادي، فإن المزابيين يجسدون دائما طبقة لديها ارتباط قوي بالأرض وهم نشطون في ريادة الأعمال. ويفسر ثراء هذه الطبقة من التجار المنظمين على أساس طائفي، علاقاتهم المتعارضة مع سكان عرب في تزايد عددي شديد، ومحرومين من الموارد، وبالنسبة لهؤلاء الأخيرين فإن رهان احتلال المكان أصبح أمراً أساسياً.
يشرح المخطط العمراني الجزائري، نادر دجرمون، أنه في سياق هذا التحرير الاقتصادي، أنتجت الخصخصة التي أصبحت في كل مكان والتحضر العمراني الذي يعم وادي مزاب، تنمية اجتماعية غير متكافئة في المنطقة، مع حصة بطالة واحتياجات اجتماعية وثقافية تتفاقم. ولكونها مركزا اقتصاديا ومركزا للقرار السياسي، فقد تحولت المدينة نفسها إلى رهان يستقطب كل المواطنين الباحثين عن وضع اجتماعي ومكان على الرقعة الحضرية. لكن حينما تتجاوز المطالب إلى حد أكبر، قدرات الاستقبال، فإن الرهان المرتبط باحتلال المكان يتجاوز كل المقاييس.
أصبح على الدولة في الوقت الحالي إعداد استراتيجية تنمية من أجل استيعاب عدم المساواة الهيكلية التي تشكل أصل المنافسة الاقتصادية الاجتماعية التي تسمم العلاقات بين العرب والمزابيين، إذ لا يمكن التوصل إلى تسوية دائمة للصراع بتجاهل سياسة الحصول على العمل واللوائح العقارية لضمان التوازن.
ليست هناك تعليقات