1
الثورة المضادة هي من تحكم الآن. بعد 6 سنوات من اللحظة الثورية والطوباوية الرائعة في 25 يناير 2011 وصلنا إلى هذه النتيجة المؤلمة والدالة. أسباب كثيرة لا يسعني ذكرها ولا أزعم بمعرفتها كلها أوصلتنا إلى ما نحن فيه حاليًا: اختفاء شبه كامل لثورة يناير، إلا في حالات نادرة وغالبًا ما تأتي مقرونة بتحميلها المسؤولية عما تواجهه مصر في الوقت الراهن من أزمات اقتصادية، رغم أن الثورة "المسكينة" لا دخل لها بكل هذا الخراء، لأنها ببساطة لم تحكم مصر ولو يومًا واحدًا يوحّد ربنا.
الثورة قامت بتلقائية وافتقدت التنظيم اللاحق الداعم، ونحن نحتاج الآن للارتجالية من جديد، بعيدًا عن أحاديث النوستالجيا البائسة
الثورة المضادة هي من تحكم الآن، والشباب الثوري أغلبه محبط وكثير منهم يجترّ ذكريات "الميدان" و"الـ18 يوم"، في أجواء لا تخلو من سنتمنتالية مبتذلة بعض الشيء، تصل بعدد منهم إلى جعل 25 يناير صنمًا من الحلوى لذيذ المذاق، يبقى إلى جانبه ليل نهار دون أن يقوم بأي أمر مفيد يمكن أن ينتج عنه شيء يمكن البناء عليه مستقبلًا.
2
قبل 20 عامًا تقريبًا نظّم الأمريكان مؤتمرًا يهدف للإجابة على "أزمة الإبداع في المجتمع الأمريكي"، وخرج المؤتمر بعدة توصيات أهمها حماية الارتجال وتقبُّل الخطأ وترك مساحة للمبدع يشطح فيها على راحته، وقد كُتب عن هذا المؤتمر كثيرًا، خصوصًا في كتاب "الصناعات الإبداعية" (عالم المعرفة – أيار وحزيران 2007 – ترجمة بدر الرفاعي). وأحسب أن مصر تحتاج مؤتمرًا مماثلًا يشارك فيه العلماء والفنانون والمثقفون والسياسيون والجامعيون لأن مصر المبدعة تتعرّض للخطر وتتربّص بها جهات لا ترى فيها غير فرص استثمار مشبوهة وسوق كبير وعمالة رخيصة ومعدة تبلع "الزلط".
لقد نجح النظام في فترة حكمه التي بالكاد تتجاوز العامين في إبعاد المثقفين والمبدعين عن مراكز التأثير، ليس هذا فقط بل حاصرهم ووضعهم في خانة الأشخاص غير المرغوب فيهم، وها هي النتيجة التي وصلنا إليها: حالة من التسطيح والفجاجة والجعجعة والتفحّش، بسبب قفز غير الموهوبين على الأماكن التي تحتاج إلى موهبة. لننظر معًا إلى البرلمان المصري الذي ليس كمثله شيء في تهافت أعضائه وخواء مضمونه، إلى رؤساء تحرير الصحف الحكومية، إلى مذيعي البرامج المدعومين من الأجهزة الأمنية المختلفة، إلى رموز نظام السيسي الجدد الذين يتحالفون مع فقراء الموهبة، لأن الموهوبين الحقيقيين يعرفون أنهم عابرون.
أصبحت كلمة "مثقف" أو "مبدع"، عند قطاع كبير من "الحرامية" ورجال الأعمال وطالبي الوصال والباحثين عن دور في عالم ما بعد 30 يونيو، كلمة مقرونة بالامتعاض و"عوجة البوز"، وأصبح كلام المثقفين الحقيقيين كلامًا خارج حسابات الزمن الجديد، هذا في وقت يُفترض أن تزدهر الثقافة المصرية لتخوض بمفردها معركة مصر الكبرى ضد رجال السلطة المستقويين بنفوذهم، وضد رجال الدين المدعومين بالنفط، وضد الفساد، وضد رجال الأعمال الذين حوّلوا المواطن إلى مستهلك فقير، وضد التعذيب، وضد الاختفاء القسري، وضد الموت المجاني، وضد أشياء أخرى كثيرة استجدت أو تجددت بعد وصول الجنرال للحكم.
الدولة المصرية لا تدعم المواهب الشابة، تبحث فقط عن الوجود المضمونة والمأمونة للقاء السيد الرئيس عندما يريد أن يجلس مع "مثقفين"
في الوقت ذاته، نرى الدولة مشغولة بالتفنّن في "تطليع دين" الشباب وتثبيطهم وإرهاقهم وإحباطهم. الدولة لا تدعم المواهب الشابة، هي تبحث فقط عن الوجود "المضمونة" و"المأمونة" للقاء السيد الرئيس عندما يريد أن يجلس مع "مثقفين"، الدولة لا تحتفي بخريجي كليات الفنون والمسرح والسينما ودار العلوم، فضلًا عن الطب والهندسة والعلوم والتربية والآداب، لأنها لا تهتم سوى بالضباط الذين تصنعهم "على يديها" ليحموها مستقبلًا من أي "تغيير" محتمل.
نحن في لحظة سيريالية محتشدة بالمفارقات، يوجد فيها نظام غني جدًا وشعب فقير جدًا، نعيش في بلدين، بلد مليء بالإنجازات الكبيرة والقصور الفاخرة في المسلسلات، وبلد يوجد به مبدعون يحلمون بالعدل والمساواة والخير والجمال والانتصار، مبدعون محاصرون في كل مكان، وهؤلاء هم الذين سيذكرهم التاريخ لأنهم في هذه اللحظة يكتبون ويرسمون ويخرجون أفلامًا ومسرحيات ويلعبون موسيقى لأناس "ضحك عليهم النظام" وأقنعهم أنهم في أحسن حال "بس هم مش شايفين كويس".
3
25 يناير كانت عفوية، بالطبع كان لتصاعد الغضب أسبابه الوجيهة، ولكنها كانت بالأساس حدث ارتجالي: "إيفنت" على "فيس بوك" ومشاركة كبيرة قابلها غباء من قوات الداخلية في التعامل مع المتظاهرين الذين استمروا في التحرير حتى منتصف الليل، ثم فجأة بعد يومين جاءت "جمعة الغضب"، وهكذ سارت الأمور، إلى أن خرج علينا عمر سليمان يقرأ بيانًا في التلفزيون الرسمي، يخبرنا بتخلي مبارك عن حكم البلاد وتسليمها إلى المجلس العسكري.
25 يناير كانت عفوية، كانت حدث ارتجالي: "إيفنت" على "فيسبوك" ومشاركة كبيرة قابلها غباء من قوات الداخلية
الثورة قامت بتلقائية، وافتقدت التنظيم اللاحق الداعم كي تحقق أهدافها، ونحن نحتاج الآن إلى تفعيل الطاقة الارتجالية من جديد، بعيدًا عن أحاديث النوستالجيا البائسة، والمحاولة المستحيلة لإعادة عقارب الزمن إلى الوراء.
نحن في 2016، والمجال العام شبه مغلق، والبطش الأمني في أوجه، والنخبة السياسية منقسمة على نفسها، ولا تزال ثنائية عاطفية الجماهير الشابة وانتهازية النخب الكهلة هي التي تحكم الحراك الاجتماعي والسياسي في مصر. هل نبحث عن آلة الزمن لتعيدنا إلى 24 يناير 2011 كي نلعب من أول وجديد، أم نفكر بعقلانية في ما يمكن عمله لاستئناف الحراك المُعطَّل بفعل فاعل؟
ليست هناك تعليقات