أخبار الموقع

اهــــــــلا و سهــــــــلا بــــــكم فــــــي موقع مجلة منبر الفكر ... هنا منبر ختَم شهادةَ البقاءِ ببصمةٍ تحاكي شَكلَ الوعودِ، وفكرةٍ طوّت الخيالَ واستقرتْ في القلوبِ حقيقةً وصدقاً " اتصل بنا "

« قراءة في مجموعة “شهقة ضوء” للشاعرة بسمة شيخو » ... بقلم : عبد الكريم بدرخان


 قراءة في مجموعة 
« شهقة ضوء » للشاعرة بسمة شيخو 
    بقلم : عبد الكريم بدرخان                      
   23/3/2017 
  


« مجلة منبر الفكر »
عبد الكريم بدرخان
      23/3/2017


الجسد المستباح والجسد الفردوس

“شهقة ضوء” هي المجموعة الشعرية الثانية للشاعرة والفنانة التشكيليّة السورية بسمة شيخو (مواليد 1986)، صدرت عن “مركز التفكير الحر” في السعودية عام 2015، وتتألف المجموعة من 46 قصيدة نثر

تمهيد:

عندما نقول “الشاعر/ة” فإننا نعني كاتب النصّ الذي بين يدينا، دون الإشارة إلى هويّته أو جنسه أو دينه أو عرقه أو سيرة حياته، فالمؤلّف مات في النظرية البنيويّة (بارت)، وصارت السُلطة للنصّ وحده، للنصوص التي تتوالد من ذاتها بذاتها (كريستيفا). ثم انتقلت السلطة من النصّ إلى القارئ في نظرية التلقي (ما بعد البنيوية)، فلا يكتملُ إنتاجُ النصّ إلا بقراءته وتأويل دلالاته.

عندما أكتب عن عمل إبداعي، فإني غالباً ما أتجنّب الدراسة الأدبية، فللنقد الأدبي مناهجه التي لا أتّـبعُها. وأزعُم أني أكتبُ نقداً ثقافياً.

الجسد والجسم:

في البداية سأقوم بتمييز إجرائيّ بين الجسد (The Body) والجسم (Individual Body)، فالأوّل موضوعي وعامّ، بينما الثاني ذاتيّ شهقة ضوءوخاصّ. فالجسدُ مفهوم عامّ يضمُّ جميع الأجسام، وبما أنه يشير إلى الكلّ، فإنه لا يشيرُ إلى أحدٍ في الوقت ذاته. ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، راح التطوّر العلمي يُعطي للجسم أهميّته المغيَّبة في العصور السابقة، المغيّبة بسبب إعلاء شأن الروح في المنظور الديني، والعقل في المنظور الفلسفي. وهكذا صار الجسمُ مدخلاً رئيساً وموضوعاً للبحث في الأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع، وفي الدراسات الجندرية والجنسانية والاستشراقية في النصف الثاني من القرن العشرين. لكنّ هذه الدراسات التي أعلتْ من شأن الجسم، حوّلته مع الوقت إلى جسد، أي إلى مُعطىً عامّ، فقد شكّلت بمجموعها ما يُعرف بثقافة الجسد.

ما أريد قوله إن الجسد فكرة مُسبَقة ومُقيّدة للجسم، لأنها تُلغي التمايُز الطبيعي بين الأجسام، وتُحوّلها إلى نمط واحد، ويصيرُ هذا النمطُ مادةً للاستخدام أو الاستغلال. فالجسد في المنظور الديني وعاءٌ لشيء أسمى هو الروح، والجسد في المجتمع الصناعي آلةٌ يمكن استبدالُها عند العطَب، والجسدُ في المنظور العسكري أداة لحمل السلاح، وفي الثقافة الاستهلاكية سلعةٌ أو وسيلةٌ لترويج سلعة. حتى في الأدب؛ كثيراً ما يكون الجسد مُنمَّطاً، ومرسوماً بملامح أدبية، ومستقلاً عن صاحبه الحقيقي. ففي الشعر العربي القديم مثلاً، نجد أن حبيبة جرير هي نفس حبيبة الفرزدق أو الأخطل.

ولذلك أرى أن الجسم، بخصائصه البيولوجية والسيكولوجية المميّزة له، وبملكيّته لصاحبة فقط، يمثّل الثورة ضدّ مفهوم الجسد، وأرى أن “ثقافة الجسد” ينبغي أن تبدأ من الاحتفاء بالجسم الفرد.

سوريا.. الجسد المستباح:

في مجموعة “شهقة ضوء” للشاعرة بسمة شيخو، يغيب الجسمُ الفرد كما وُصِفَ أعلاه، ويحضُر الجسد بمفهومه العام. ومع أن الجسد المذكور غالباً ما يقترن بياء المتكلّم (جسدي)، إلا أنه ليس جسداً فرداً (جسماً)، ولا جسداً يمثل مجموعة من الأجسام (نساء، شعب…)، بل هو أرضُ سوريا بما تحويه من بشر وحيوان ونبات وأشياء.

وخلال تمهيدها للنصوص قالت الشاعرة: “أحتاجُ فقط خوذةً ضخمةً لهذه المدينة”، ومن هذه الخُوذة نُحدّدُ هذا الجسد وصفاته، وأهمُّها أنه جسد مُنتـهَـك ومُستباح وممزّق. فمنذ القصيدة الأولى تعاني الشاعرة من استباحة الجسم، وتحوَّله إلى جسد عام، جسد عام مُستباح كذلك:

“أشعرُ أنّ آلافَ الأشخاصِ يسكنونني/ يمشونَ تحت جلدي/ خطواتُهم تؤلمني/ يشاركونني أنفاسي”.

هذا الجسدُ المسكون من قِبَل كائنات غريبة، يمتدُّ على عديدٍ من صفحات المجموعة، دون أن نعرف هوية هذه الكائنات أو طبيعتها، فالـتُّـهمة موجَّهة ضدّ مجهول:

“البارحة أخطأتُ/ فبدلَ أنْ أخلعَ قميصي/ سلَختُ جلدي/ لكني لم أرَ أحداً”.

الصفة الثانية التي تظهر لهذا الجسد المستباح، هي الموت، فهو ميّت سريراً وصار لزاماً إزاحته ونقله إلى مكانه المناسب (القبر). ففي قصيدة 150394_2014_06_17_00_04_06.image2“طريق للمقبرة” تأخذنا إلى مقبرة قاحلة تصفها: “الأعشابُ حولي محترقة/ لا أشجارَ في المكان/ بل تماثيلُ بأيدي كثيرة/ تحاولُ السطوَ على السماء”. أي كلّما امتلأ جوفُ الأرض بالجثث، امتلأ سطحُها بالأصنام ذات الأيدي الكثيرة، فهي أصنام لا تكتفي باقتسام الأرض، بل تتصارع على السماء أيضاً.

وفي المقبرة هذه، تمتدُّ جسورُ التواصل بين الموتى فوق الأرض والموتى تحتها: “وهَـبُـوني بعضاً منهم/ سِنّاً/ ضلعاً/ إصبعاً/ أو ظفراً”. ثم تحاولُ تركيبَ إنسانٍ جديد من هذي العظام، على طريقة الدكتور فرانكشتاين، لتُلغي أيّ فارق بين الموتى في الأعلى والموتى في الأسفل: “أحاولُ أنْ أجمع هداياهم/ وأخلقَ إنساناً حياً/ أحسبُه أنا”.

الجسد الفردوس:

وكما أن الجسم المرتبط بالـ “أنا”، كان جسداً عاماً، مُنتهكاً ومُستباحاً، يظهر الجسمُ المرتبط بالآخَر (أنتَ)، بوصفه جسداً عاماً أيضاً، لكنّ هذا الجسد الآخَر (الرجُل- أنتَ) ليس مُنتهكاً أو ميتاً، إذ هو قادرٌ بحضوره أنْ يخلقَ حياةً جديدة، حياةً مِـلْؤها الحبُّ والفرح والخضرة والنماء، فهو يأخذ صورة الفردوس المفقود- الواجب الاستعادة.

إذنْ هو الرجل/ البعل/ المطر القادر على تحويل الجسد الأنثوي المنتـهَـك إلى ربيعٍ أخضر. فتقول الشاعرة موظفّة قصة “جاك وحبّة الفاصوليا السحرية” وهي من القصص العالمية للأطفال: “لو كنتَ معي/ لزرعتُ قُبلتَكَ في جسدي/ كحبّة الفاصوليا تلك/ وتركـتُـها تنمو وتنمو/ لتصعدَ عليها/ وتمسكَ الشمسَ بيديك”.

وهكذا يمتلكُ الجسدُ المستباح حريةَ الانعتاق عند حضور الجسد الآخر، وإمكانيةَ الانبعاث من الموت، وتكون العلاقة بينهما تكامليّة. ومع أنها لا تشيرُ بشكلٍ مباشر إلى أنّ الآخَر هو الماء الذي يُحيي اليباس، لكننا لم نرَ الجسدَ المرتبط بالـ “أنا” يُنبتُ عشباً إلا في حضور الآخر: “من غيري/ تُنبتُ العشبَ تحتَ أقدامك”. ويكون لاجتماع الجسدين صورةُ الفردوس المفقود تماماً: “من غيري/ لجسدها عناقيدُ/ تنتظرُ نظراتكَ لتعتّقها. وتفاحٌ محرّمٌ/ ينتظرُ أنْ تقبّـلَ وجنته”.

خاتمة:

وهكذا تسيرُ المجموعة وفقاً لجدليّة الجسد الميّت الحاضر، والجسد الفردوس المفقود الغائب. فالأول هو سوريا المستباحة قتلاً وتدميراً، والثاني هو الخلاص والربيع والبعث من الموت. وإنْ كانت هذه الجدليّة مستخدمةً بكثرة في شعر الحداثة العربي، إلا أنْ الشاعرة أخذتها في بعض المواضع إلى حيّزها الخاص (أسلوبها- رؤيتها)، وبقيتْ في مواضع أخرى جدليّة عامة.

بالنسبة لي كقارئ؛ كنتُ أتمنّى رؤية الجسم الفرد وهو يتحرَّر وينعتق ويثور، ويُعلن عن نفسه في فضاء النصّ، ويدافع عن كينونته. فالجسمُ، بحرّيته وفردانيّته، يمثّلُ الثورة على الاستبداد السياسي والديني، وعلى النظام البطريركي- الذكوري في المجتمع، وفي الأدب أيضاً.



لإرسال مقالاتكم و مشاركاتكم
يرجى الضغط على كلمة  هنا


ليست هناك تعليقات