قالَ، بعدَ أنْ مسحَ وجهَه براحتِهِ وتمتمَ مبتهلًا إلى الله أنْ يُعينَه على قَوْلِ الصِّدق، منتقيًا ألفاظَهُ توخّيًا للدّقَّةِ:
"سمعتُ جدّةَ والدي رحمَهما الله، نقلًا عن والدِ جدّتها رحمَهُما الله، أنّ جدَّ جدِّه، تغمّدَهُما اللهُ بواسعِ رحمتِه وآلائِه، كان أَثرى وملأَ جيوبَه وخزائنَه بالمال، فلم تعُدِ الدّنيا تتّسع له".
توقّف لحظاتٍ، همهَمَ خلالها بسلسلةٍ من البَسْملاتِ والحَوْقلات والتّعوُّذات، وأضاف:
"وكان أنَّ الجدّ القديمَ زركشَ حصانَه النَّفّاثَ بسرجٍ يفيضُ منه شلّالٌ من الخيطان الدِّمقْسيّة، ولجامٍ من الفضّة والزُّمرُّدِ والعَقيق، ومضى لكي يجمعَ الغمامَ في أكياسٍ ملوّنةٍ وليشربَ البحرَ الكبيرَ بشوكةٍ مصنوعةٍ من حجرِ الفلاسفة."
تلفّتَ حولَهُ، واستطرد قائلًا:
"في الطرّيقِ نحوَ البحر، كان جدّي القديمُ يُلقي شباكَهُ في الفضاء فيملأ أكياسَه بالغُيوم، ويُطلقُ السّهامَ على الأشجار والسَّماء، فيملأ جعبتَهُ بأسرابٍ من الطّيور والنّجوم.
"ثمّ هناك، حين وطِئَت قدماهُ الخليجَ، التقَى صيّادًا يغرفُ من البحرِ سمكًا مُلوكيًّا، راحَ يُلقيه في برميلٍ مليء بالماء والمِلح، ثمّ قدّمَه للجدّ المدجّج بالزّخارف.
"في طريق العودة، وفيما كان جدّي القديمُ ينقلُ البرميلَ المملوء بالسّمك الحيّ والماءَ المملَّح في عربةٍ تجرّها خيولٌ أربعة، ويشحذُ أسنانَهُ للمأدبةِ الشّهيّةِ، سقطَ عن الحصان المزركشِ ووقعَ في البحر الذي كان قد شربَه للتّوّ، وغرق معه البرميلُ بما حَمَل."
نظرَ في الجمعِ، أطرقَ قليلًا مستجمعًا قُواه وذاكرتَه، واستأنف قائلًا:
"وقالت جدّةُ والدي، نقلًا عن والدِ جدّتِها، إنَّ جدَّ جدِّها لم يكنْ يُتقنُ السِّباحةَ، فراحَ، بعد أن سقطَ في البحر الذي كان قد شربَهُ للتَّوّ، يتمسَّكُ بحبالِ الهواء التي كانت تنقطع على الدّوام، كعادتِها، إلى أنْ أكلَهُ السّمكُ حتّى الثّمالة."
بلعَ لعابَه، ولحسَ بلسانه شفتَيْه، وقال:
"وبعد حينٍ، حطَّتْ على وجهِ الماء أسرابُ الطّيورِ ثمّ طارَت وفي مناقيرها هيكلٌ عظميٌّ.
"أمّا الغيوم فقد تسرَّبَت من الأكياس المُلوَّنة، وبكَتْ بغزارةٍ من شدّة الفَرَح، وكانت تهطلُ حِبالًا من المطرِ الرّصاصيّ فوقَ أكوامِ الزَّبد."
|
ليست هناك تعليقات