إ ذا كانت الأفكار بحرا زخارا فلا شك أن لها تموجات كتموجات البحر الحسي، و لا مندوحة أن نقولبها عبر إفراغها داخل قنوات مختلف أشكال التعبيرات الإنسانية من لغة و فن و موسيقى لتستوعبها عقولنا قطرة قطرة، و إلا فقد تكون الأفكار صعبة على الفهم و الإدراك إن هجمت على العقل دون سابق مقدمات، و لذلك صد العديد من الناس عبر التاريخ كل فكرة جديدة أبدعها صاحبها دون سابق عهد لهم بها.
لا غلو أن العقل الإنساني ما أبدع علم البيداغوجيا الا لفهمه لهذا المعنى حتى يتدرج أصحاب الحكمة في تمرير أفكارهم الى الآخرين في إسراء ثقافي عبر براق البيداغوجيا درجة فدرجة و فكرة ففكرة و مقاما فمقاما الى أن تندهق الأفكار اندهاقا سلسا من خلال قنوات التعبير الإنساني في أشكال جمالية مبهرة، تزيد المغترف عطشا الى المعرفة و نشوة و تحيرا.
و لا يختلف اثنان على أن كل مخالف لهاته السنة الكونية في التدرج البيداغوجي و الإسراء المعرفي سيصطدم اصطداما بحيطان العقل التي اعتبها المفكر و الفيلسوف أركون أشد صلابة من الحيطان الحجرية.
أبدع
الجاحظ رغم أسبقيته في الوجود عن فلاسفة اللغة حين رأى أن
"حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ لأن المعاني مبسوطة الى غير نهاية و أسماء المعنى معدودة محدودة" و هو في ذلك نجده مخالفا لفكرة شوبنهاور المتشائمة بعض الشيء و إن كانت لا تخلو من صواب حين عبر قائلا أن
"الأفكار تموت لحظة تجسيدها كلمات" حيث أصاب في إضفاء صفة الحياة على الأفكار لكنه تشاءم حين اعتبر الكلمات قبرا للمعنى في حين نجد أن الإبداع في تشكيل قوالب التعبير فيه إضفاء حياة أخرى على حياة الأفكار.
إن فكرة تموجات الأفكار و المعارف تدخل ضمن نطاق نقد العلم نفسه، و قد يبدو ذلك غريبا بعض الشيء، لكن بتجاوز حيطان العقل سيتبدى لنا كما وصفه المؤرخ جاك بارزون Jacques Barzun ، أن العلوم إنما هي إيمان تعصبي عبر التاريخ و حذر من استخدام المنهج العلمي لكبح اعتبارا المعنى باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الوجود البشري [1]
إن فكرة تموجات الأفكار تحيلنا أيضا على نظرية فوضوية المعرفة التي أتى بها فيلسوف العلم باول فيير آبند و التي مفادها أن تقنين المناهج المعرفية في قواعد عالمية ثابتة فكرة غير صائبة بل و خبيثة و مضرة بالعلم نفسه، كما يرى في الآن نفسه أن إمكانية تمييز العلم عن باقي الإديولوجيات الزائفة "في نظره طبعا" كالدين و السحر و الأساطير أمر غير ممكن، و لذلك تعتبر هاته المشكلات معضلة بالنسبة لمفهوم العلم [2]
لا عجب ان اختلط الأمر على من استضاء بضياء القمر و غاب عنه نور الشمس، و لا غرو ان استبان الإشكال و تبدى له الأمر في وضوح بفضل انبلاج نور شمس الوحي و عدم الاكتفاء بضياء قمر العقل [3]
إن الوجود الإنساني في نظرنا لا يقتصر على الوجود المادي الصرف كما لا يتصور فقط بالوجود الروحي البحث، حيث أن الوجود في التراث الفلسفي الإسلامي يصنف الوجود مراتب فهناك عالم الملك و عالم الملكوت ثم أخيرا عالم الجبروت.
حيث أشعر الشاعر الصوفي:
الملك الملكوت كذاك الجبروت و كلها نعوت الذات المسماه [4]
و هو في ذلك يوافق صاحب الإحياء حيث له في ذلك نص جميل يقول فيه:
"واعلم أن العوالم في طريقك هذا ثلاثة عالم الملك والشهادة أولها ولقد كان الكاغد والحبر والقلم واليد من هذا العالم وقد جاوزت تلك المنازل على سهولة والثاني عالم الملكوت وهو ورائى فإذا جاوزتنى انتهيت إلى منازله وفيه المهامة الفيح والجبال الشاهقة والبحار المغرقة ولا أدرى كيف تسلم فيها والثالث هو عالم الجبروت وهو بين عالم الملك وعالم الملكوت ولقد قطعت منها ثلاث منازل في أوائلها منزلة القدرة والإرادة والعلم وهو واسطة بين عالم الملك والشهادة والملكوت " [5]
في حين أن من ربط بين المعراج المعرفي الثقافي و المعراج الروحي سينجلى له كما نجتهد في ذلك أن العوالم سبعة كما حددها الرسول صلى الله عليه و سلم و سماها السموات السبع و وسمها بالأولى و الثانية ...الى السابعة تاركا الأمر للمتعطشين مفتوحا،
فكذلك الاسراء المعرفي يمر بسماوات معرفية سبع لا بد من تجاوزها لبلوغ بحر الإطلاق المعرفي و السباحة فيه عبر سفينة نوح العقل، المجهزة بشراع التوحيد، و مجذافي المحبة و الشوق: مجذاف محبة المولى و مجذاف الشوق الى لقائه، بكل هاته الوسائل تتنور بصيرة الباحث عن الحكمة فيسقى من ماء بحرها ماء زلالا ، لا يزيد المرتوي به الا عطشا للمزيد من الاندهاش و الحيرة و السكر.
الهوامش
1، موسوعة ويكي بيديا ، نقد العلم
2، نفسه
3، من قصيدة أيا مريد الله انعيد لك قولي اصغاه للعارف بالله أحمد بن مصطفى العلوي المستغانمي
5، الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين.ج 4 ص 250.
ليست هناك تعليقات