« هل يتخلى “الناتو” عن أردوغان لتغييره محور تركيا إلى إيران؟ » بقلم : محمد عبيد الله
يتفق أغلبية الخبراء المحليّين والدوليّين على أن علاقات تركيا مع أمريكا وأوروبا وصلت إلى منعطف تاريخي في ظل حكم الرئيس “رجب طيب أردوغان” منذ تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923، منوهين بأن الأمر قد يصل إلى حد خفض العلاقات، بما فيها العسكرية، إلى “مستويات دنيا”، إن لم يتم التوصل إلى حل عاجل للأزمات القائمة بين الأطراف.
لقد انطوت العلاقات التركية الأمريكية والأوروبية، على أهمية كبيرة دومًا، بغضّ النظر عن الأحزاب الحاكمة في البلاد وتوجهاتها السياسية، خاصة منذ انضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو” في 18 شباط/فبراير 1952 إبان حكم عدنان مندريس، وتحولِها إلى سدٍّ أمام خطر شيوعية “الاتحاد السوفيتي” وطموحاته التوسّعية في فترة الحرب الباردة، وبدءِ مغامرتها مع أوروبا في عام 1963 عقب عقد شراكة مع “المجموعة الاقتصادية الأوروبية” التي تغير اسمها فيما بعد إلى “الاتحاد الأوروبي”.
وكسبت علاقات تركيا مع الغرب زخمًا جديدًا على جميع الأصعدة في عهد “طرغوت أوزال”، الذي شغل منصبي رئيسي الوزراء والجمهورية، ولعبت سياسة “اللَّبْرَلَة” التي انتهجها دورًا كبيرًا في هذا الأمر، والتي فتحت أبواب مؤسسات الدولة على جماهيرَ عريضةٍ بعد أن كانت حكرًا على فئة معينة من النخب، والأقليات الأجنبية، بوجه أخص.
تخلي أردوغان عن “النهج الإسلامي” بحثا عن الشرعية الدولية
هذا “التقليد” لم يتغير في عهد أردوغان أيضاً، زعيم حزب العدالة والتنمية، على عكس المتوقع، بل يمكن القول إن علاقات تركيا مع أمريكا وأوروبا وصلت إلى أوجها في عهده، إلى جانب علاقاته الشخصية والحزبية منذ اللحظات الأولى من بدء مشواره السياسي. إذ ليس خافيًا على المتابع للشأن التركي أن علاقات أردوغان الشخصية والحزبية مع الإدارة الأمريكية والدول الأوروبية بدأت قبل وصوله إلى سدة الحكم في تركيا عام 2002. ولن نجافي الحقيقة إذا قلنا إنه تجاوز كل العقبات السياسية والقانونية أمام جلوسه على قمة هرم السلطة في بلاده بفضل إشاراته المتواصلة إلى أمريكا والدول الأوروبية كمرجعية لشخصه وحزبه وبرامجه السياسية، والزياراتِ المكوكية التي أجراها إلى العواصم الغربية لكسر “الحظر القانوني” على ممارسته السياسة بسبب قصيدة شعرية أنشدها في لقاء جماهيري زعمت المحكمة العليا أنها تؤجج مشاعر الكراهية والعداوة بين المواطنين.
يكاد المحللون يُجمعون على أن إعلان أردوغان تخليه عن “النهج الإسلامجي” لشيخه الراحل نجم الدين أربكان، زعيم حزب الرفاه المنحلّ من جانبٍ، واتخاذَه أمريكا وأوروبا ومعاييرَهما الديمقراطية مرجعية لشخصه وحزبه من جانبٍ آخر، ضَمِن له الحصول على دعم الجماهير العريضة “المحافظة”، وفئة النخب المثقفة “الديمقراطية” و”الليبرالية”، على حد سواء. وهذه الميزة أيضًا ساعدته في تلميع صورته في العالم العربي والإسلامي والغربي أجمع.
لقد عرّف أردوغان حزبه الجديد في وثيقة برنامجه العام بأنه “حزب جماهيري محافظ ديمقراطي”، وبذل جهودًا جبارة لإزالة مخاوف “العلمانيين” و”المؤسسة العسكرية” حول احتمال اتباعه نهجًا أو برنامجًا إسلاميًّا في الحكم، وحرص في بدايات حكمه على عدم استخدام خطابات وشعارات “إسلامية” في مسعىً منه لطمأنة هذه الفئة التي تعتبر نفسها مؤسِّسة “تركيا الحديثة”. ولا شكّ أن زياراته للولايات المتحدة قبل تأسيس حزبه في 17-21 أبريل/نيسان 1995، و17-22 نوفمبر/تشرين الثاني 1996، و20-23 ديسمبر/كانون الأول 1996، و26 مارس/آذار 1998، و16 يوليو/تموز 2000.. ومشاركته في يوم الاستقلال الأمريكي في 4 يوليو/تموز 2001، أي قبل شهر واحد من إعلانه تأسيس حزبه، تلبية لدعوة خاصة تلقاها من الإدارة الأمريكية.. وإجرائه لقاءات مع اللوبي اليهودي، وحصوله على “جائزة الشجاعة الفائقة” اليهودية.. واجتماعه مع مسؤولين أمريكيين عن الملف التركي، ومسؤول مكتب الاستخبارات الأمريكية عن الملف الكردي “هنري باركي”، وواضع مصطلح “الإسلام المعتدل” “جرونت فلار”، والسياسي اليهودي الأمريكي “ريتشارد نورمان بيرل” الذي يعد أحد أقطاب المحافظين الجد، وغيرهم كثر.. بالإضافة إلى الزيارات التي أجراها إلى العواصم الغربية.. وإدراج انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ضمن إستراتيجياته وأولوياته.. وبدءه في إجراء مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد عام 2005 عقب نجاح حكومته في تنفيذ 8 حزمة إصلاحات بين أعوام 2001 – 2004 من أجل الانسجام مع معايير الاتحاد.. كل هذه الخطوات كانت من أجل تغيير “الصورة السلبية” التي التصقت به بحكم انحداره من حزب الرفاه “الإسلامي”، وإقناعِ العلمانيين والجيش والعالم الغربي بأنه تغير وترك نهجه القديم ومستعدٌّ لتسلّم السلطة في تركيا.
ولعل تحدي أردوغان الاتحاد الأوروبي في إطار تعليقه على تماطله في مفاوضات الانضمام بقوله: “نحن نؤمن من صميم قلوبنا بمعايير كوبنهاجن الأوروبية، ولن يختلف الأمر في حالة رفض انضمامنا إلى الاتحاد الأوروبي أو قبوله، فإننا عندئذ سنطلق على تلك المعايير التي نؤمن بها وندافع عنها ’معايير أنقرة‘ ونمضي قدمًا في هذا الطريق من دون تراجع”، دليل كافٍ على مدى قبوله بالمعايير الغربية.
بهذه المنطلقات أسس أردوغان حزبه “العدالة والتنمية”، مع مجموعة من زملاءه المنفصلين من حزب أربكان الموسومين بـ”التجدديين”، ووصل إلى سدة الحكم في أول انتخابات، وحقق نجاحًا باهرًا في المجالين السياسي والاقتصادي، ولمّع نجم بلاده في المنطقة والعالم، بفضل نهجه سياسة خارجية متوازنة قائمة على “القوة الناعمة” بدلاً من “القوة الغاشمة” مكّنته من عقد علاقات مع دول المنطقة والعالم، بما فيها إسرائيل، وأسهم في ظهور مصطلح “النموذج التركي” الذي كان يشير في جوهره إلى الجمع بين “الإسلام” و”الديمقراطية” في آن واحد.
سحر الخطاب الشعبوي الإسلامجي
لكن منذ أواسط الفترة الثانية من حكم أردوغان (2009 – …)، طفت إلى السطح علامات تدل على ظهور تغيير في تصوره وتوجهه ونظرته إلى القضايا المحلية والإقليمية والعالمية، واشتعل معه نقاش حاد حول سعيه لتغيير “محور تركيا”، بالتوازي مع ظهور أحلام وطموحات “زعامة المنطقة”. ويعترف اليوم محللون غربيون، منهم الكاتب الصحفي “ستيفن كوك”، أن الغرب أيضًا لعب دورًا في استيقاظ هذه الأحلام والنزعات لدى أردوغان، بدغدغة مشاعره وعواطفه ومدحه المبالغ لنجاحاته، وتصويره قويا أكثر مما يبدو، وتقديم تركيا في ظل حكمه أكبر من حجمها الحقيقي، مما أشعره بأنه تمكّن من السلطة، وأصبح “فارس” الميدان الوحيد، خاصة بعد الرياح العاصفة التي هبّت لصالحه عقب المواجهة الساخنة مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز حول قطاع غزة، وانسحابِه من منتدى “دافوس” مردداً عبارة: (One Minute)، التي جعلت منه “بطلاً”، ليس في عيون الأتراك فقط وإنما في عيون جميع العرب والمسلمين أيضًا.
ففي هذه الفترة وما تلاها لاحظ أردوغان “سحر” الخطاب الشعبوي الإسلامجي، وبدأ يعتمد عليه بكثرة في تلميع صورته، ورصّ صفوف مؤيديه، في الداخل والخارج. فبعد حادثة دافوس بدأ يسيطر على خطاباته نكهة إسلامية راديكالية، وأفضل مثال على ذلك موقفه من انطلاق سفينة “مافي مرمرة” إلى قطاع غزة لكسر الحصار المفروض عليه، في محاولة منه لزيادة رصيده في العالم العربي والإسلامي. ومع بداهة عدم جدوى مثل هذه الطريقة الساذجة في حل قضية شائكة معقدة مثل القضية الفلسطينية، إلا أنه ساند هذه الخطوة من أجل استعراض قواه وتحقيق “انتصار” محتمل يكسب به ودّ ودعم الشارع العربي والإسلامي.
ومع التسليم بوجود نية أردوغان تنصيب نفسه “خليفة المسلمين”، إلا أن المحلل السياسي التركي المرموق “إحسان داغي” يقول: “إن سفينة مافي مرمرة كانت “طعمًا” لأردوغان لجرّه إلى المياه العكرة في الشرق الأوسط، ودفعه إلى الصراع مع إسرائيل، بهدف عرقلة صعود تركيا بقوتها الناعمة”، ويَعتبر الكاتب هذه الحادثة بداية نكسة تركيا في المنطقة. ويؤكد محللون أتراك، من أمثال “علي أونال” و”بولنت كينيش” و”أمره أوسلو”، وهم الخبراء في القضايا الإيرانية وشؤون الشرق الأوسط عامة، أن إيران، بواقع تنافسها التاريخي مع تركيا، وظّفت امتداداتها في الداخل التركي من تيار “الإسلام السياسي”، متمثلاً في وزير الداخلية وونائب رئيس الوزراء الأسبق “بشير أتالاي”، وفريقه المكوّن من “إرشاد هورموزلو”، مهندس العلاقات الخارجية؛ و”هاكان فيدان”، رئيس الاستخبارات و”كاتم أسرار أردوغان”، على حد تعبيره هو؛ و”إبراهيم كالين”، مستشار أردوغان والمتحدث باسمه؛ و”ياسين أقطاي”، كبير مستشاري أردوغان المسؤول عن شئون الشرق الأوسط، و”أفكان علاء”، وزير الداخلية الأسبق؛ و”رضا ضراب”، رجل الأعمال الإيراني الذي حصل على الجنسية التركية بفضل أردوغان، والذي يعتبر “بنكه السري”.. وظفت إيران هؤلاء في تحريض أردوغان ضد إسرائيل حتى يرى العالم الحجم الحقيقي لقوته. مهما كان الأمر، فإن أردوغان ندم أو اضطر إلى الندامة فيما بعد على هذه الخطوة دون أن يحقق شيئًا لنفسه أو تركيا أو فلسطين، بل أصبحت المشكلة أكبر وأعقد من السابق؛ كما أنه تخلى أو اضطر إلى التخلي عن مطالبة حقوق شهداء “مافي مرمرة” على يد إسرائيل. وأخيرًا قضت النيابة العامة في إسطنبول بعدم ملاحقة الجنود الإسرائيليين الذين قتلوا 10 أتراك في الهجوم على سفينة مافي مرمرة بموجب اتفاقية التطبيع بين الطرفين!
طموحات “زعامة المنطقة” تفقد أردوغان توازنه
توالت الأحداث المشابهة التي أفقدت أردوغان السيطرة على أعصابه وعواطفه، مما أدى إلى فقدان توازنه القديم، وذلك بسبب طموحاته غير المحدودة من جهة؛ والتوجيهات الخاطئة “المتعمدة” من قبل الامتدادات الإيرانية التي استطاعت أن تحرز مكانة مرموقة لها في كل حكومات أردوغان، وتحريضات فلول “تركيا القديمة الطورانية”، متمثلين في تنظيم “أرجنكون”، في محاولة منهم لاسترداد مواقعهم السابقة في الدولة، من جهة أخرى. فتزامنًا مع اندلاع ما يسمى أحداث “الربيع العربي” في كل من تونس ومصر وسوريا، حاول أردوغان ركوب رياح الانتفاضات الشعبية غير الهادفة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط عبر طائفة بعينها (جماعة الإخوان المسلمين)، بدلاً من الحوار مع كل العناصر الفاعلة القابلة للحوار في تلك الدول ضمن علاقات الجوار دون الانحياز إلى طرف بعينه، الأمر الذي اعتبرته هذه الدول “تدخلاً سافرًا” في شؤونها الداخلية، لينزع بذلك أردوغان فتيل أزمات لا نهاية لها قضت على العلاقات التركية العربية الهشة أصلاً.
وعلى الرغم من أن كثيرًا من الكتاب الصحفيين الديمقراطيين والليبراليين الذين يجسون نبض “الشرق الأوسط” ك”جنكيز تشاندار”، و”أونال طانيق”، و”أحمد ألطان” و”عبد الحميد بيليجي” و”كريم بالجي”، حذروا أردوغان من خوض أي مغامرة في سوريا ومصر، إلا أنه، بدافع من طموحاته وتحريضات دائرته الضيقة، لجأ إلى كل الوسائل المتوفرة من أجل إسقاط بشار الأسد في سوريا بعد أن باتت هذه المسألة “عقدة شخصية” لديه، وخرج عن “الإطار الشرعي” في تحقيق هذه الغاية، لدرجة أن عديدًا من الدول، بما فيها روسيا وأمريكا، اتهمته بالتعاون مع تنظيم داعش الإرهابي وأمثاله.
بعد الدخول إلى عالم الجرائم في سوريا، انكشف في نهاية عام 2013 الستار عن فضائح فساد ورشوة هائلة تورطت فيها حكومة أردوغان. فقد وظفت إيران أردوغان في كسر حصارها الاقتصادي من خلال امتدادتها في تركيا، أي رجال تنظيم “السلام والتوحيد” التابع لقاسم سليماني، قائد الحرس الثوري، الذي أجرى مؤخرًا عملية ضد الأكراد في كركوك مع رئيس الاستخبارات التركي هاكان فيدان، الذي اتهمه الأمن والقضاء التركي “القديم” بـ”العمالة لصالح إيران” أصلاً. لكن المشكلة هنا تتمثل في أن تركيا، مع أنها حليف لأمريكا، وعضو في كل من مجلس الأمن الدولي وحلف الناتو، إلا أنها اخترقت العقوبات الأمريكية والأممية على إيران من خلال تجارة الذهب معها، بواسطة “شكبة فساد وغسل أموال سوداء دولية” يرأسها الإيراني رضا ضراب المعتقل حاليًا في أمريكا.
ومع أن أردوغان سعى لتبرير تجارة الذهب مع إيران بدعوى أنها صبّت في صالح تركيا، غير أن الحقيقة هي أن هذه الأموال الإيرانية السوداء المغسولة في “الحمام التركي” ملأت جيوب “دائرة ضيقة” موالية له فقط. وبالتالي فإن وقوع وزراءه الأربعة ومسؤولين بيروقراطيين كبار “أسرى” في أيدي جواسيس إيران، من خلال “الرشاوى”، يشكّل بحد ذاته مسألة “أمن قومي”. كما أنها كانت تتناقض مع سياسة تركيا “القديمة” الرامية إلى الإطاحة بالأسد، ذلك لأن إيران أكبر حليف للأسد، ما يعني أن هذه الخطوة كانت دعمًا غير مباشر للأسد. فضلاً عن كل ذلك فإن أردوغان ورط بهذه الطريقة بلاده في جرائم دولية وأساء إلى سمعته، ويؤكد خبراء اقتصاديون أن الولايات المتحدة ستفرض عقوبات ثقيلة على البنوك التركية التي لعبت دورًا في اختراق العقوبات الأمريكية والأممية على إيران، مثل بنك “هالك” الذي اعتقلت السلطات الأمريكية رئيسه العام قبل عدة أشهر، كما كتبت صحيفة “خبر ترك” أمس الأحد، لكنها بشكل لافت للأنظار، سحبت خبرها المعني بعد مدة قليلة من نشره!
قمع في الداخل وعنترية في الخارج
بعد أن تلطخت سمعة أردوغان بـ”الفساد” والرشوة” داخليًّا، وبـ”الإرهاب” إقليميًّا ودوليًّا، منذ عام 2009، بدأ يغلب على نهجه “القمع” في سياساته الداخلية، خشية خروج الأمور من سيطرته، و”المناطحة” أو “العنترية” بعبارة أصحّ، في سياساته الخارجية، ويسعى لتحويل وجهة تركيا من “المعسكر الغربي” المنضبط إلى “المعسكر الشرقي” المنفلت، وعلى وجه التحديد منظمة “شنغهاي” للتعاون الاقتصادي بقيادة روسيا والصين. فبدءًا من عام 2013، أغلق أردوغان وسائل الإعلام المعارضة أو أخضعها لإرادته بفضل “سياسة العصا أو الجزر”، وأعاد تصميم كل أجهزة الأمن والقضاء والمحكمة الدستورية، بحجة تعرضه لـ”انقلاب مدني” من خلال استغلال “تحقيقات الفساد والرشوة”، وكذلك الجيش بدعوى تصديه لـ”انقلاب عسكري” ضد حكومته، وأجرى بهذه الذريعة عمليات ملاحقة ومطاردة واعتقال وفصل لم تقتصر على العسكريين فقط بل طالت مئات الآلاف من المواطنين أيضًا، وفي نهاية المطاف أسس “جيش خاصًّا” مكوّنًا من الموالين له على غرار الحرس الثوري الإيراني.
أعربت الدول الغربية، في مقدمتها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، عن قلقها من تغيّر محور تركيا منها إلى محاور أخرى، وانتقدت منظمات حقوق الإنسان العالمية المختلفة عبر تقاريرها الانتهاكات والتجاوزات الحقوقية وأعمال القمع في الداخل، والخروج عن إطار القانون الدولي في التعامل مع القضايا في الخارج، بحيث بدأت حكومة أردوغان تواجه كل يوم أزمة جديدة مع الدول الغربية. ونتيجة لهذا النهج، وافق البرلمان الأوروبي، منتصف هذا العام، على تجميد محادثات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بأغلبية ساحقة بلغت 477 صوتًا مقابل 64 وامتناع 97 صوتًا، واتخذ قرارًا بقطع مساعدات بقمية 3 مليارات دولار كانت تُقدَّم لتركيا، كما اتخذت ألمانيا قرارًا بسحب قواتها العسكرية في قاعدة إنجيرليك بمدينة أضنة.
وعلى الرغم من أن أردوغان علق آمالاً كبيرة على الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة “دونالد ترامب”، إلا أن التطورات اللاحقة جرت بما لا يشتهيه، إذ ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” أن أردوغان طالب ترامب بالإفراج عن الإيراني ضراب، وأن الرئيس الأمريكي تعاطف مع هذا الطلب في بادئ الأمر، غير أن اعتداء الحرس الشخصي لأردوغان على المتظاهرين خلال زيارته إلى الولايات المتحدة في مايو/أيار الماضي، ومن ثم فتح تحقيقات بحقهم، أغلق هذه الصفحة. وفي نهاية سلسلة الأزمات، اندلعت مؤخرًا أزمة التأشيرات بين الطرفين، زعم أردوغان في البداية أن هذه الخطوة اتخذها السفير الأمريكي في تركيا بوحده دون استشارة واشنطن، إلا أن الأخيرة نشرت بيانًا وكذبت هذا الزعم، مؤكدة أن القرار صدر باستشارة المؤسسات الأمريكية المعنية وليس قرار السفير الشخصي.
تقارب تركي مع إيران وروسيا علي حساب “الناتو”
من جانب آخر، بدأت الصحف الأمريكية تناقش إنهاء مسيرة تركيا في “حلف الناتو”، حيث قالت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية إن خبراء الناتو يبحثون مستقبل تركيا والأسلحة النووية بقاعدة إنجرليك، فيما أكد كاتب صحيفة “فورين بوليسي” ستيفن كوك، أن تركيا وأمريكا أصبحتا دولتين منافستين لبعضهما البعض في الشرق الأوسط أكثر من كونهما حليفين، وأن عصر ازدهار الشراكة الأمريكية – التركية قد ولّى، لافتًا إلى تقارب تركيا مع إيران وروسيا، وأن القيادات التركية، بما فيهم القيادات العسكرية، لم يعودوا يدعمون الغرب، وأنهم غير أهلٍ للثقة ويُشتبه في عدائهم للغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية. وذكر كوك في هذا الإطار الزيارة المتبادلة بين رئيسي أركان تركيا وإيران لأول مرة منذ الثورة الإيرانية في 1979، وأوضح أنه كان يُعتقد خلال تسعينات القرن الماضي أن تركيا سترشد دول آسيا الوسطى، وستقر الأمن والسلام في دول الشرق الأوسط، وستصبح دولة نموذجية في الربيع العربي، غير أنه لم يتحقق أي من هذه التوقعات، وعزا سبب هذا إلى المبالغة في تقدير قدرة أردوغان، والعجز عن قراءة سياسته الداخلية ونظرته للعالم، في إشارة منه إلى التحولات والتقلبات المستمرة لأردوغان.
“ضراب” قنبلة أردوغان الموقوتة
أردوغان يشعر اليوم بمدى الخطورة التي تمثلها قضية الإيراني رضا ضراب في أمريكا، خاصة بعد أن هدّده بضمّ اسم وصورِ زوجته “أمينة أردوغان” إلى ملفات القضية، مثلما هدده عندما اعتقله الأمن التركي في 2013 قائلاً: “إن لم أخرج من هذا السجن فسيدخل إلى هنا كل من له صلة معي”، التهديد الذي كفى لتحريك أردوغان لفعل اللازم وإخراجه من السجن بعد إجراء تعديلات جذرية في أجهزة القضاء والأمن. إلا أنه يبدو أن هذا الأسلوب لن يجدي في الولايات المتحدة المعروفة برسوخ قواعدها القانونية، رغم أن أردوغان يستخدم كل الوسائل المتاحة للضغط على إدارة ترامب، كاعتقاله قسًّا أمريكيًا وموظفًا عاملاً في القنصلية الأمريكية مؤخرًا، الأمر الذي قابلته واشنطن برد فعل عنيف أصاب أردوغان بالصدمة بحيث لم يصدقه في الوهلة الأولى واعتبره قرارًا شخصيًّا صادرًا من السفارة الأمريكية في تركيا، ومن ثم اصطدم بجدار الواقع بصدور بيان من واشنطن مؤكد للقرار.
ومن المحتمل أن شهر ديسمبر/كانون الأول المقبل سيكون حاسمًا لمسيرة أردوغان الحافلة بالذبذبات والتقلبات، حيث ستقضي المحكمة الأمريكية في قضية الإيراني رضا ضراب، الذي وصفه “روبرت إليس” من موقع “إنترناشونال بوليسي دايجست” بأنّه “قنبلة أردوغان الموقوتة”. ويرجح المراقبون، ومنهم نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري أردال أكسونجال الذي يتابع القضية في أمريكا، أن ضراب سيدلي باعترافات ستهزّ أركان قصر أردوغان الفاخر في أنقرة!
هذه هي القصة المؤلمة لـ”تركيا أردوغان” التي بدأت بأحلام الوصول إلى مصاف الدول الكبرى من حيث الحقوق والاقتصاد، وقطعت فيها أشواطًا عريضة، لكنها انتهت بتراجع تركيا إلى دركة دول العالم الثالث، بعد أن وضعتها إيران على سفينة “مافي مرمرة” وأرسلته إلى فلسطين أولاً، ثم رفعته على أمواج “الربيع العربي” ووجّهتها نحو سوريا ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، وأخيراً خنقت ”تركيا الصاعدة” في عقر دارها، وأنقذت جواسيسها مع الفاسدين، بعد غلق قضيتي الفساد والرشوة وتنظيم السلام والتوحيد التابع لقاسم سليماني، وطردت تركيا من المنطقة وأعادتها إلى “حجرتها القديمة الصغيرة” المعزولة عن العالم لتبقى المنطقة برمتها لها وحلفاءها!
وليس أدل على ذلك مما قالته صحيفة “اعتماد” الإيرانية: “لقد عادت تركيا إلى موقف إيران في كل من سوريا والعراق، وأهم تطور يدل على ذلك الزيارة المتبادلة بين رئيسي أركان البلدين”، وتعليق صحيفة “زنان” الإيرانية: “في خطوة غير مسبوقة، إيران تعقد اتفاقًا عسكريًّا مع أحد الدول الأعضاء في حلف الناتو”.
ليست هناك تعليقات