أخبار الموقع

اهــــــــلا و سهــــــــلا بــــــكم فــــــي موقع مجلة منبر الفكر ... هنا منبر ختَم شهادةَ البقاءِ ببصمةٍ تحاكي شَكلَ الوعودِ، وفكرةٍ طوّت الخيالَ واستقرتْ في القلوبِ حقيقةً وصدقاً " اتصل بنا "

« أنسنة الدين والمعطى الفطري للتديّن » ... بقلم: علي محمد اليوسف



  « أنسنة الدين والمعطى الفطري للتديّن »
    بقلم: علي محمد اليوسف
   25/1/2019
 السيرة الذاتية للمؤلف


« مجلة منبر الفكر »
علي محمد اليوسف    العراق 25/1/2019


 تعريف :

    اكون متعجّلا جدا,انه ليس هناك من حاجة لأنسنة الدين في حياتنا المعاصرة, فالدين مؤنسن بالفطرة الميلادية للانسان, الدين معطى ازلي ملازم الوجود الانساني,فطري ومكتسب معا, لو لم يجده الانسان في حياته على الأرض, لبدأ التفتيش عنه في مراحل عمرية متأخرة, وقام بأختراعه وممارسته, في وجوب وضرورة اشباع حاجته الانطولوجية في عبادة  المقدّس الخالق.

ما دوافع هذا الميل؟ وكيف؟

المعطى الفطري للتديّن

يتناسل الدين ( جينا لوجيا ) بالوراثة البيولوجية الطبيعية للانسان ككائن حي جيلا بعد جيل, هنا نتحفظ ان يكون الدين محكوم بجينات بيولوجية مورّثة له فطريا لم تثبت علميا كما هو الحال مع اللغة,

وكما الانسان يموت, يولد طفل, وهذا الفناء الذي يعقبه ميلاد على الدوام, يعطي الدين مطاولة تاريخية في عدم مفارقته الانسان كملازمة انطولوجية , أو توقّف ملازمته له بيولوجيا وراثيا عبر الاجيال والعصور . باعتبار الدين واقعة انسانوية , ومعطى (هبّة ) سماوية طبيعية من الخالق تلازم الانسان بالولادة.

وهي ايضا هبة يصنّعها الانسان ايضا في تخليقه التديني لعظمة المقدس المعبود, من غير امتلاكه قدرات الاستدلال عليه بغير وسيلة الايمان والتسليم الغيبي المطلق في تنحية الاستدلال العقلي جانبا.

رب معترض يذهب ان الدين ( مكتسب ) بالتلقين الاسري والتربوي والبيئي والمجتمعي , في البيت وفي العائلة والمدرسة والمحيط , وفي طقوس وخطابات وممارسات التديّن المختلفة . والانسان ( يهوّد وينصّر ويؤسلم ويمجّس ) من قبل ذويه واسرته .

وكل هذا لا يلغي أن الفرد يولد باستعداد بيولوجي غريزي الى حد ما, فطري مكتسب من الاسرة والمحيط غير موّرث في تقبّله الدين كحاجة روحية ضرورية , الى جانب قابلية الانسان وحاجته المكتسبة له , ولو ترك الانسان من دون تدخّل الاسرة في تدينّه , فانه سيجد نفسه في مراحل عمرية لا حقة متقدمة انه اصبح بحاجة الى قيم دينية يبحث عنها يستمد منها ترسيخ قيم الخير والمحبة في وجدانه. هذا على الاقل في المجتمعات الشرقية المولعة بالمقدّس ويؤكد هذا ايضا أهمية الأساطير في تلبية نوازع الانسان في التديّن,وحمولتها الكبيرة في تخليق المقدس وعبادته قبل معرفة الانسان للديانات الابراهيمية التوحيدية.

الدين يستمد انسانويته من الفطرة بيولوجيا والاستعداد التديني المكتسب الموّرث بالولادة , لذا الدين لا يشيخ ولا يهرم ولا يموت مع توالي العصور , ولا في تقدم عمر الانسان في تواجده المتلازم بيولوجيا وراثيا تاريخيا بالنسبة للانسان كنوع ارضي خالد, وليس كافراد يموتون فانون.

الدين في جينالوجيته الوراثية وفي ملازمته انطولوجيا الوجود الانساني , يكون بمثابة نوع من العود الابدي النيتشوي , الذي يعيد نفسه في دورة من الانبعاث والاستحداث المتجدد المعاد جيلا بعد جيل , وتبقى بدايته بلا نهاية , بداية تعيد نفسها على الدوام في توالي العصور . ولا يصل هذا العود الابدي الى نهاية او مرحلة من التطور المعرفي – الواعي للانسان ابستمولوجيا او مرحلة تاريخية تطورية يصلها يتوقف عندها ,

بحيث يستطيع الانسان التفكير في استغنائه عن الدين , او في اعتبار ان الدين يخضع للتحقيب الزمني في كونه ظاهرة فكرية بدئية - مراهقة , تنتهي من حياة الانسان والبشرية في مرحلة متأخرة من وعي الوجود الناضج. .ولو ان هناك دعوات فلسفية تشير الى انه كما استطاع اللاهوت الديني حسر مهيمن السحر, فأن التطور العلمي في دوره الغاء الدين من حياة الانسان المستقبلية ولا نعتقد مثل هذه الفرضية النظرية يكتب لها النجاح قبل عصور طويلة من عمر مستقبل البشرية مجهولة.

وبذا لا يصل الدين مرحلة نهاية فاعليته تاريخيا – انطولوجيا بالموروث الثقافي والاخلاقي والسلوكي الذي يبعثه ,كواقعة ملازمة للوجود الانساني في تعاقب الاجيال , في حقيقة أن الانسان كائن اجتماعي – ديني بالفطرة الطبيعية زائدا مؤثرات البيئة والمحيط المكتسبة ودورها الحيوي الكبير في تكريس نزعة التديّن.

بغض النظر عن الموقف الأيماني الديني , او الألحادي , فأن الدين يبقى كمعطى جينالوجي فطري بالوراثة ملازما الوجود الانساني , ومحصّنا ذاتيا من الاندثار التدريجي كوعي مفارق تاريخيا عند جيل من الاجيال من عمر البشرية .

ذاتية الدين , او بالاحرى ذاتية (الله في الانسان روحيا )أو كيفيته المحصّنة ضد التلاشي والاندثار تأخذ دوام ومشروعية بقائها من الموروث اللاهوتي المتداول المكتوب والشفاهي الذي وصلنا في نصوص الكتب السماوية وغير السماوية المقدسة, وفي اقامة الطقوس الدينية, وتوالي ظهور الانبياء والرسل , منذ عصر الخليقة والخطيئة الاولى والى يومنا هذا, وفي كافة وسائل التثقيف التعبوي الديني.

ويبقى الدين نزعة روحانية متلبسّة الانسان انطولوجيا , وتحمل عوامل ومقومات استمرارية بقائها بما تغتذيه من الهام ايماني غيبي سماوي ميتافيزيقي .

الدين في ملازمته الانسان كظاهرة أزلية لا معنى لها من غيرالانسان كوجود نهائي مخلوق, او كمنتج طبيعي من الطبيعة واليها يعود في استحداثه لنفسه مع توالي العصور , والانسان هو الكائن الوحيد الذي يعي حاجته للتديّن كما هي حاجته البقاء وحلمه بالخلود . وينفرد بذلك ويتميز عن جميع المخلوقات الحيّة, والظواهر الطبيعية والوجودية الاخرى المرافقة له.

والانسان ليس كائنا وجوديا اجتماعيا ابتداءا, لايكمله الا انه كائن متديّن بايولوجيا او مكتسبا. وبذا نصل الى حقيقة جوهرية ثابتة انه لا يكون الدين دينا الا في وجود الانسان وبه واحتضانه له, كما لايكتمل وجوده الانطولوجي الناقص من غير ان يكون الانسان دينيا روحيا. الانسان كوجود نفسي روحاني ايماني ثقافي اخلاقي, وهو مدخل سليم في فهم علاقة الانسان بفعل التديّن (انسنة الدين بالفطرة البايولوجية) كما يصبح لا وجود لدين طبيعي او مكتسب من غير وجود انساني.

الانسان كوجود ارضي كائن سابق على الدين, يكون الدين من أجله وليس الانسان وجودا من أجل الدين. نلاحظ تأكيد هذا نجده ان الدين اتخذ في زمن ابتعاث الانبياء تطورا مراحليا استمر بالتدرج حتى اختتام اكتماله في (التوحيد) في الديانات السماوية الثلاث , اليهودية, والمسيحية, واخيرا الاسلام.

الاديان جميعها لم تعرف التوحيد الديني الا في عصرمتأخر سلالة آمون راع في مصر, قبلها جميع الاديان الوثنية والسحرية والطوطمية والخرافية الى عصر اليونان كانت دياناتها وطقوسها في تعدد الالهة, ولم تكن تعرف التوحيد الالهي , وانتكست هذه الديانة التوحيدية في الغاء التوحيد بأله واحد في الحضارتين الاغريقية والنصف الاول من عمر الامبراطورية الرومانية قبل ايمان الثانية باليهودية و بالمسيحية والعودة الى التوحيد مجددا.

مركزية الانسان لا أولويته :

ما مر بنا في السطور السابقة يدخلنا قسرا في مناقشة اشكالية معقّدة في فهم وتفسير ثنائية علاقة (المعبود بالعبد ) في الظاهرة الدينية , فنحن نجد ( مركزية ) الانسان , وليس ( اولويته ) في ثنائية تراتيبية الانسان والمقدس الالهي الديني , وهذا الطرح لا يتقاطع مع بديهية التديّن, أن أنسنة الدين هو في أسبقية الخالق على المخلوق ليس في الكيفية المتغايرة بينهما وحسب**,

وانما الاسبقية بينهما في قياس الزمن التراتيبي لوجود الانسان الارضي في أسبقية حاجة الانسان للتديّن لا في أسبقية حاجة الدين لوجود الانسان التديني,

(ولو شاء ربك لخلق الناس امة واحدة) ..... بمعنى ان الانسان بلا دين الهي لا قيمة انسانية حقيقية له تدرك وجودها ودورها في الحياة قبل دخول البشرية عصور العلم والحضارة المعاصرة, ورب معترض يذهب الى ان عباقرة في العلوم الحديثة والمعاصرة خدموا الانسانية بالحياة اكثر واكبر قيمة مما قامت به الاديان مجتمعة وهي حقيقة لا تدحض بسهولة.ولا اجد هنا مجال مناقشتها. لكن ماأقصده في مقالنا هنا ان الدين في تسليمنا كونه الهيا ,وحيّيا – من الوحي – منزّلا,

ولم يخترعه الانسان في خياله وحاجته له في تمشية امور حياته, لايشترط اسبقية الوجود الانساني على الدين لكنه يشترط حاجة الانسان للتدين, قبل حاجة الدين لانسان يعتنقه ويعمل به, والدين كونه مخلوقا منزّلا سماويا وابتعاثيا الهيا مرسلا هو من اجل الانسان الارضي وليس لأن الانسان استطاع خلق واوجد معبوده و دينه بنفسه, وفي هذا اختلاف جوهري بين ان يكون الدين مصدره الهيا , او ان الانسان اخترع تدينه على الارض ونسبه الى الاله كحقيقة ذهنية اختلقها الانسان اصحاب نظرية الانفجار العظيم وتطور الحياة من الخلية الحية التي اوجدها تطور الحياة بالانتخاب الطبيعي. ,

رغم هذا الاختلاف فهو يكرّس حقيقة ان الوجود الانساني الارضي بحاجة الى التدّين اكثر من حاجة الدين لوجود الانسان , (قالوا اتخلق من يفسد بها)؟. . وهذا يصادر الفهم الاشكالي الخاطيء بأن مركزية الانسان الوجودي تعلو تراتيبيا على أولوية الدين والمقدس الخالق .

وفيه ايضا مغالطة كبيرة في تراجع أهمية الانسان في الواقعة الانطولوجية الدينية , دونما المساس بالمقدس الخالق. اي التسليم ان وجود الانسان سابق على حاجة تديّنه, بينما الصحيح ان الدين ضرورة وجودية سابقة على الوجود الانساني الارضي وحاجة الانسان له. (وما خلقت الانس والجن الا ليعبدون).

اي الدين مخلوق في الانسان كنوع قبل وجود الخليقة الانسانية ونزولها الى الارض حسب لاهوت الاديان الابراهيمية الثلاث.

السؤال هو:
  •  لماذا ذهبنا الى تأكيد مركزية الانسان لا اولويته في الايمان الديني ؟!

الجواب المباشر لأن القول بأولوية الانسان في ثنائية المقدس والعبد تنسف الايمان الديني في تموضعه كبديهة انطولوجية تؤكد أسبقية الخالق في تراتيبية الأله الاعلى المعبود , مع المخلوق الادنى العبد . لذا نؤكد على مركزية الانسان في الثنائية الايمانية التي لا تنازع المعبود المقدس في عصمته الالهية , وتفرده ووجوب عبادته .

أن في طرحنا مركزية الانسان لا اولويته لا نفاضل بين الاله والعبد , وهذه تتقاطع ايضا مع رأي انصار الايمان الديني بالفطرة الغيبية لا العقلية ,بل نريد ان نضع الانسان الديني المعاصر في صلب مسؤوليته الايمانية عندما ننسب له مركزيته في التدين وليس اولويته فيه. فالاولوية لمن اوجد الدين وليس بمن استقبله وعمل به او لم يعمل به.اولوية الله عند المؤمنين ان الدين منزّلا وحيا سماويا, وليس في اولية الطبيعة في تخليقها الدين الذاتي عند الانسان.

يكتسب الانسان مركزيته في الواقعة الدينية , من موقع تحمّله جميع أعباء ومسؤوليات والتزامات الايمان الديني بالمقدّس , أضف لذلك أن الانسان منفعل وفاعل في تحمله أعباء أيمانه الديني , رغم عدم امتلاكه قدرات ومنهجيات المنطق في اثبات وجود المعبود المقدس عقلانيا , اثبات يقين وليس ايمان غيبي كما يؤمن غالبية المتدينين , وبهذا تتضح ايجابية الانسان في معادلة الايمان الديني المحسومة.

لكن :
  • ما أهمية ان يكون الانسان (مركزيا) في ثنائية الايمان الديني ؟!

اهمية أن يكون الانسان مركزيا تتأتى في امتلاكه أدوات الفهم والتعامل مع الدين بمسؤولية, ووجوب تحصينه من جميع تأويلات النص الديني الوضعي المنحرف الذي غالبا ما يكون قد اكتسب بالقوة الغاشمة الايديولوجية السياسية قدسيته القطيعية والقطعية بالتسليم له , وكذلك في فهم النص الديني الفقهي المنحرف والفكري الاجتهادي, وعدم توظيفه وسيلة افساد التديّن في تغليب نوازع الشر والتطرف والغلواء والعنف .

مركزية الانسان في الظاهرة الدينية, تعني وضعه في المسؤولية الاولى والاخيرة في انتظام الايمان الديني عنده.وان لا يركن الامور لتدبير الخالق وحده في حل معضلاته الحياتية.بل في مسؤوليتة عما يؤمن به ويوصله مرافيء الراحة والاطمئنان وبناء الحياة.
يتنازع الدين تداخلا وظيفيا استبداليا, يتعالق ويتواشج فيه الدنيوي والمقدس, فهل يحتاج الانسان الدين لكسب الحياة الآخرة (الجنة) ؟ أم انه يحتاج الدين لتسكين قلقه الوجودي؟ أم كليهما معا؟

واضح ان الانسان اليوم يحتاج الدين, اوبالاحرى التديّن لتلبية اشباع حاجاته الايمانية في تهذيب أخلاقه وسلوكه وتأمين بعض حاجاته المجتمعية بنوع من التربية الدينية,ويحتاج التدّين في التخفيف من ضغوطات واعباء الحياة,في الالتجاء والخضوع والتسليم لأرادة وقدرات الهيه(يخلعها ويتصورها)*** تمتلك مقومات ومعجزات خارقة لا محدودة وغير منظورة, تفعل فعلها السحري بتزويده بما يحتاجه من توازن نفسي وقلق مسكون به يتلبسّه. التداخل بين التديّن من أجل الحياة ,يتداخل ذاتيا مع حاجة التدين من أجل ثواب الآخرة ,لتوكيد نزوع ربما غير أرادي  في ترابط (الدنيوي والمقدس) دينيا,في تلازم لا انفكاك عنه, وعفوية طقوسية متدينة, فالتربية الدينية في خدمتها الارضي, وبما تمنحه من رضى نفسي وارتياح متعال احيانا, تجعل الانسان مطمئنا انه ينال رضوان الخالق ويطمع في نيل ثواب الآخرة.

التدين الدنيوي وارضاء المقدس في نشدان ثواب الآخرة كلاهما يلعبان في الواقعة الدينية, وظيفة استبدالية تناوبية متكافلة في اغناء أحدهما الآخر, فكلما تعمّق الالتزام الدنيوي التديني, كان ذلك خدمة متداخلة في الطموح لتحقيق ثواب ماهو قدسي غير منظور, لمرحلة ما بعد الحياة.

أن أنسنة الدين عند المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي هو في أن يبقى الانسان كائنا دنيويا- ارضيا غير متعال ولا يشكل بؤرة مركزية في الديني,(ثنائية الخالق بالعبد), وانه بحاجة دائمية مستمرة, الى منقذ من الضلال,في التسليم بايمان غيبي لاشباع (الظمأ الانطولوجي) على حد تعبيره, ايمان امتلائي روحاني يعطي الدنيوي معاني مفعمة بالقيم المثلى والخير,تخرج الانسان من الضياع المادي الضاغط,والتوزّع الانطولوجي المشتت بالعدمية والعبثية وفي لا معنى الحياة,باللجوء الى الهي مقدّس, يسلمّه الانسان كامل الاذعان والطواعية في تمجيد صفاته الالهية اللانهائية غير المحدودة ويستريح من عبء الوجود القلق في الحياة.

الظاهرة الدينية والمنهج :

استشهد بمقاطع اعتمدتها من مقالة الاستاذ رضا حسن الغرابي,في تعقيب له مقارن, في دراسة الظاهرة الدينية من منظورين مختلفين, بين عبد الجبار الرفاعي, وفالح مهدي, نشرتها صحيفة المثقف الالكترونية بجزئين, 21/7/2017.

يذهب فوكو (ان العلوم الانسانية ليست علوما زائفة وحسب, بل هي ليست علوما على الاطلاق.), وهو لا يقصد الدين فقط وكذا جميع فلاسفة البنيوية يتقدمهم التوسير. ويشير رضا الغرابي على لسان (غادمير) الداعي لفك الارتباط بين الحقيقة والمنهج,وموقف تيرابند الرافض لفكرة وجود منهج علمي, رافعا شعارا مثيرا للجدل (كل شيء يمر).وان مايحكم الوجود الانساني والطبيعة صدف عفوية هي الاخرى محكومة مرة بالغائية والضرورة, وثانية صدفة متحررة من اي تنميط وجودي يحكمها, فهي توجد فوضويا وليس بالضرورة ان ينتج عنها شيء.

الملاحظ هنا اذا كانت الحقيقة العلمية او المعرفية عامة ينتهي معها  وفي دراستها المنهج, فمن تحصيل حاصل ان لا يكون هناك منهجا في دراسة,حقائق العلوم الانسانية في حال (تعينّها) واخضاعها للنقد والمراجعة,لعل اهمها الحقيقة الدينية.

وفي حمّى التراجع المنهجي لدى العديد من مفكري وفلاسفة الغرب في البنيوية والتفكيكية والعدمية, لا يلغي معنا واقع  السائد ان مناهج او طرق الاستدلال على الحقيقة, سواء اكانت حقيقة علمية او حقيقة معرفية, متعددة لعل في مقدمتها يأتي المنهج العقلاني التحليلي وريثة الوضعية المنطقية, والمنهج المنطقي في دراسة الحقائق الفلسفية والمعرفية, والمنهج العقلاني التجريبي في دراسة الحقائق العلمية.

حقيقة الايمان الديني في (القلب)

وكلا هذين المنحيين المنهجيين عاجزين بل بعيدين عن امكانية التحقق من الحقيقة الايمانية,التي يكون مصدر التحقق فيها هو(القلب) والروح والوجدان وليس العقل.  سواء جاء هذا التحقق الايماني, عن طريق تغييب التفكير العقلي او المنطقي في الاستدلال,اوفي تغييب المنهج العقلي التجريبي العلمي,الذي لا علاقة له بحقائق الايمان.

ويبقى معنا ان الاستدلال الايماني الغيبي,الذي مصدره القلب يكون في منحيين,الاول في اعتماد الاستدلال الايماني قلبيا,عن طريق الفطرة البيولوجية  الموروثة بالولادة,

ويسيرالايمان مع الفرد المؤمن في طريقه الملازم الى مراحل عمرية متقدمة وربما الى مرحلة الموت ,في الاستغناء التام أن يكون لمناهج العلوم والمعارف اي تدّخل يذكر في مراجعة او تبديل قناعة الفرد الايمانية,الموروثة بالولادة والمعمّقة بجميع مؤثرات الشحن تعليميا ومجتمعيا,وقبلها أسريا,التي يعززها الايفاء بمتطلبات المقدس دنيويا في اقامة الطقوس العبادية من صلاة وصوم....الخ من التزامات.

الاستدلال الايماني الغيبي الثاني قلبيا, اي عن طريق منهجية وثوقية القلب,هو في(التصّوف) ويكون هذا مرحلة متقدمة على الاولى, اي مجاوزة مرحلة طريق التسليم الايماني بالوراثة الولادية الغيبية ,الذي يلغي ايضا فاعلية العقل المنهجي المنظّم منطقيا في الاستدلال,وينطلق من الفطرة الايمانية,لكنه يتجاوزها,عن طريق التصّوف القلبي الاستبطاني الكشفي في مرحلة عمرية متقدمة.

كما ان محاولة الجمع بين الحقيقة الدينية العلمية والايمانية , محاولة عقيمة,فهي تتطلب الجمع بين منهجين متعارضين مختلفين,لأختلاف موضوعي الحقيقة المعرفية المطروحة, فالحقيقة في المنهج العقلاني,هي غيرها الحقيقة بالمنهج الايماني القلبي.والجمع بين الاستدلال بالمنهج العقلي,مع الاستدلال بالمنهج الايماني القلبي,يعني استحالة معرفية في اسبقية ترجيح أحدهما على الاخرى.يفرضها اختلاف موضوعّي التناول المعرفي,

فحقائق المعرفة والوجود التي يغلب على معظمها المدرك المتعّين العقلاني والمحسوس , المدعّم باثباتات منطقية وتجريبية , بعضها على وفق المنهج العقلاني التحليلي التجريبي , في حين أن حقائق الايمان بالمقدس والالهي تلغي الاستدلال الواقعي والمنطقي العقلي ,وتتماهى مع الغيبي في التفكير والاستدلال الايماني.

من هذه الاختلافات يمكننا الركون الى استنتاج واضح , ان حقائق الايمان هي معطى فطري بيولوجي انساني , مرتبط حصرا بالانسان كوجود , وهو ايمان مؤنسن بالفطرة الوراثية البيولوجية , وهو ايمان يكتسب صفة ( المكتسب ) في مراحل عمرية متقدمة من حياة الانسان الفرد . وهذه الحال تختلف تماما في تناولنا دراسة حقائق الوجود الاخرى ( المادية ) في حياة الانسان.

لذا نجد من الضروري العودة بالدين الى الانسنة بالفطرة البايولوجية الموروثة بايولوجيا بالولادة, وليس بالموّرثات الجينية الكروموسومية بيولوجيا التي لا وجود اثبات جينات التدين علميا فيها بالولادة, تحقيقا لمقولة ( الدين لله والوطن للجميع ) بمعنى علمنة المجتمع مع حفظ خصائص الدين كتربية اخلاقية , موصولة بمناحي الحياة وتنظيمها سياسيا واقتصاديا وثقافيا .

أي في استبعاد الدين والتدّين من التوظيف والتسليع السياسي , الذي يعمل على جعل الدين وعيا مكتسبا مستمدا من نصوص انتقائية في الموروث الفقهي الديني , وسنعالج هذه الاشكالية في سطور قادمة .

ان في توظيف الدين لأغراض سياسية تبعد المتديّن عن ثنائية علائقية
( الخالق بالمخلوق )  وتجعل من الدين والتدين وعيا مكتسبا , لا يمت بصلة في تحقيق هدف التديّن . ثم أن ( أنسنة الدين ) في تأكيد اهمية وأولوية ايمان الفرد المنحرف في وصايته على الدين والتدين, بالضد من ايمان المجموع السوي , تخلع على التدين تقزيما منحرفا شعاره ان ما ينقذ الفرد ليس بالضرورة ينقذ المجموع , ولا اهمية ولا خير يرتجى في اغلبية ضالة كافرة في معاداتها اقلية مصلحة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر على وفق اجتهادات اجتزائية تخدمها في حصر الدين في شّلة متطرفة لا غيرها هي الدين كله ولا دين خارجها.

الظاهرة الدينية وتسييس الاسلام :

أن في انتقال الدين من طقس الفهم الايماني الفطري العلائقي , هو أن الدين علاقة روحانية تعبدية خاصة بين الخالق والمخلوق , ونقل هذا الفهم الى مغالطات فقهية توظف في الفضاء السياسي الايديولوجي خدمة لمصالح دنيوية , ورؤية اجتهادية ضيّقة تعمل على تخريب العلاقة الانسانية والتعبدية والاخلاقية بين العبد وخالقه , جلب كوارث فادحة للدين والمتديّن.

تسييس الدين في  جعله ايدلوجيا سياسية منحرفة بوثوقية ويقينية زائفة , تعمل على تطويع الافكار الفقهية الدينية في تنميط أحادي الجانب في أعلائه المقدس دنيويا , كمرجعية  احتكام ديني قاطع  تلغي الاخر فكرا واخلاقا وسلوكا وتدينّا , متخذّة من الفقه الفكري الديني التقديس الدنيوي مرجعية  القطع بكل شيء بالحياة .

واعتبارالتديّن قيم ومفاهيم من وحي الاله ونصوص الدين المحرّفة تأويلا وتوظيفها في خدمة السياسة والحكم . هذا يلغي ويقاطع جميع القدرات والمعارف الانسانية الوضعية , مقارنة مع مصدر الاحتكام الى عصمة فقه المقدس الديني الدنيوي المستمد من قراءة خاطئة لتلك النصوص في اعادتها الى مرجعية بشرية معصومة. وفي تجاهل أن العصمة لا تكون لبشر,فما يأتي به بشر يخطّؤه بشر ايضا, لذا يكون من الخطأ الارتكان الى تفسير ما وضعه بشر في زمان ومكان غير ما نعيشهما اليوم.

وهذا يسحبنا الى تساؤل مصيري هام, :
  • هل ان الاسلام السياسي اليوم يمكن ان يكون دينا ودولة؟ تصلح وتعيش نموذجا يحتذى في كل زمان ومكان؟
كي نكون أمينين في مقاربتنا طروحات تسييس الديني الاسلامي,نجد انه تنبثق لدينا سلسلة طويلة من علامات الاستفهام التي تجّر الواحدة ما بعدها.

هل والى اي مدى يمكننا التسليم,ان الافكارالسياسية المتعالقة بالديني اسلاميا, والتنظيرات والطروحات النقدية الاسلامية المعاصرة, القائمة على تجاوزماورائيات الادراك الفكري المعرفي,بمكنتها ومقدورها تحقيق قيم حداثوية في حياة الانسان المسلم والمجتمعات الاسلامية؟ ومدى امكانية مساهمة الافكارالاسلامية السياسية تغيير وتبديل واقع عربي اسلامي مأزوم بكل مناحيه,قبل اعلان العجزوالافلاس واللجوء الى وسائل التطرف في قطع الرؤوس والذبح وحصد ارواح الابرياء بالمفخخات؟!

من جنبة اخرى فأن الفرق بين التديّن المعتدل,والتديّن السياسي المتطرف هو أن الاخير ألغى مبدأ (الحرية) الدينية في الاختيار كمعطى اولي في قيمة الانسان والحياة . واشاع ايضا, التديّن المسّيس كايديولوجيا مستمّدة من فقه الدين المنحرف, وبذا انما تنشد عبودية القطيع في الاذعان والخضوع المتخّلف ,للخطاب الديني الوضعي الذي اكتسب التقديس في رهبة السيف واعماله في رقاب الناس بكل اشتمالاته الخالية من كل ما يمت للدين من قيم اصيلة متداولة واخلاقية دينية.

وامام هكذا فهم اعتباطي قاصر للدين في اعدامه فرص الحياة,وسلوكيات لقاء الآخر والتعايش معه بقيم انسانية واخلاقية,تكريس حالة القطيعة المزمنة في اغترابية المسلم عن عصره.وتبرز امامنا بوضوح ضحالة الفكر المتطرف.

منذ اتخاذ الاسلام وجوده التاريخي دينا ودولة,واستمرت تجليّاته تلك,في انظمة حكم ودول عديدة عبر التاريخ,سادت ثم اندثرت,نجد اننا اليوم نعدم ويتعذر علينا في مراجعتنا لتلك التجارب,وخطاباتها وطروحاتها في امكانية استلهامنا نموذجا من تلك الحقب يمكننا احتذاؤه في اقامة دولة خلافة اسلامية,لها قدرة البقاء كدولة معاصرة مدنية حديثة.ما يعطينا حقيقة استحالة عصرنة الاسلام كنظام حكم في تطبيق مثل هذا الانحراف الايديولوجي الديني.
التراث والمعاصرة

نترك ذلك الطموح الطوباوي وننسحب لمناقشة جزئية,لها علاقة مباشرة في الخطاب الاسلامي المعاصر,هو اشكالية المعاصرة والتراث,اشكالية تضرب عمق الوجود العربي الاسلامي بالصميم,واشبعت دراسة وتحليلات وتنظيرات فلسفية احتوتها بطون الكتب والمؤلفات والمدونات وارشيفات المؤتمرات,دون جدوى تذكر يعتد الاخذ بها,تخرجنا من متاهة الشد والجذب كي نرسي على بر مطمئن حاسم, و بقيت اشكالية معلقة مؤجلة رغم عظم اهميتها,بوجوب الاهتداء لآلية تنفيذية تطبيقية حاسمة لنعيش العصر.

من هنا تبرز ضرورة ان نعمل على تحييد الدين في حياتنا, في تدعيم اهميته في الاعتدال والنأي به عن التسييس من جهة,ونعمل على جعل التدين فعالية مجتمعية جامعة تعيد الايمان الديني متعايشا مع الحياة غير متقاطع معها ومعرقل لقيم التقدم و الخير والسلام فيها.مجتمعية التدين ركيزتها الاساس(الفرد).عاش الاسلام عبر العصور والتاريخ,اسلام المجموع وشذوذ القلة, واليوم نجد على ايدي المتطرفين اصبحت مشروعية ان يهلك المجموع في بقاء القلة الشاذة باسم الفرقة المتطرفة وخرافة الدولة.

الخلاصة:

نستطيع القول باطمئنان ان جميع الدراسات والبحوث الفلسفية والفكريةعلى تعدد مشاربها,التي حاولت (عصرنة) الظاهرة الدينية منيت بالفشل الذريع,وباءت بالخسران, وان المجتمعات الشرقية عموما,والعربية الاسلامية تحديدا مولعة وبفعالية واضحة اشباع نزعتها المهووسة بالدين,

وممارسة طقوس العبادة بولع شديد تعويضا عن الفقروالتخلف والكوارث ومنغصّات العيش المتدني. بدءا بالمسلم والمسيحي,وليس انتهاءا بالبوذي والهندوسي والصابئي المندائي والايزيدي وهكذا,جميعها اديان او اقليات دينية, تغتذي العبادة الدينية واقامة طقوسها الخاصة,واعتبارها التمايز الديني اهم مقومات وجودها,سواء اتى ذلك بوسائل وافصاحات(ملائكية) ام أتت بوسائل تعبير وممارسات(شيطانية)مارقة تتلذذ بسفك الدماء والقتل المتوحش.

كما ان محاولات الحث على جعل الدين والتديّن مرتبة ثانوية بالاهمية في توكيد الذات,واعتبارها الظاهرة الايمانية,في بعض افصاحاتها التدميرية المتطرفة نزعة جاهلية متخلفة,فمثل هذه المساعي ذهبت وتذهب ادراج الرياح في دعوتها الاصلاحية,في استحالة عصرنة الديني.

ان المنطلق السليم يبدأ من ان المجتمعات الشرقية بخصوصياتها المتجذرة عبر الاجيال والتاريخ, تعتبر الدين ونزعة التدين لديها مقوّم معنوي في توكيد الذات والشخصية والهوية ولا مجال المساس بها حتى وان جاءت عقلية وسلوكا رحعيا متخلفا.

وان ما يخفف مأساة الانسان الشرقي بالحياة هو تعاطيه ترياق الدين,ومعبودا يقدّسه يعطيه نوع من التوازن الذي يفتقده في لا عدالة الحياة التي يعيشها وعمط وتغييب ابسط حقوق الانسان.

ولحل اشكالية التدين ان يكون عامل اعاقة لتقدم المجتمعات العربية الاسلامية, وردم هوة البون والتفاوت الشاسع في تخلفنا عن المجتمعات الغربية, يكون من الضروري فيه اطلاق حرية التدّين الى كامل مداها, تحت وصاية نوع من العلمنة,التي تفصل المجتمع بتركيبته المدنية وتعدد الاراء والسلوكيات المنظبطة تحت ولاء القانون,

(النموذج التركي في عصرنة كل منا حي الحياة ما عدا الدين) يمكن ان تكون نموذجا يحتذى. حداثة تجعل من الدين والمعتقد الديني فضاءا مفتوحا مشاعا للجميع,مع تاكيد عدم مشاركة الدين في الحياة السياسية,وان لا يكون عامل اعاقة في مدنية الحياة العلمية وتحضّرها,وان يكون التنوع الديني اثراء للتعايش المجتمعي.كما في النموذج الماليزي,والى حد ما النموذج الاندنوسي.

 الباحث الفلسفي   علي محمد اليوسف/الموصل
**مقارنة كيفية او ماهية الخالق مع المخلوق تحاول الصوفية اصحاب مذهب وحدة الوجود الغاءها لكي يصبح بالامكان المتاح للمتصوف الادعاء انه في حال الاشراق العرفاني يمكنه الاتحاد مع الذات الالهية والحلول معها التي هي اولا بلا كيفية, وانما كيفيتها(اي الذات الالهية) هي مجموع صفاتها المتجليّة في مخلوقاتها فقط وليس في ذاتيتها, والثاني اذا ذهبنا مع التصور الصوفي ان للخالق ماهية وكيفية يدرك ويعرف بها من قبل الانسان المتصوف, فهي كيفية قطعا تكون غير مادية وغير محسوسة ولا مدركة عقليا, ولا تلتقي وتتقاطع مع كيفية الانسان كمخلوق ارضي يمكن ادراكه وجودا حسيا وصفات مادية مدركة عقليا. وفي هذه المقارنة المتباينة عقليا وفلسفيا وجوهريا ينعدم معها امكانية الاتحاد بالذات الالهية كما تدعي الصوفية. (كاتب المقال)

**** هنا عندما نقول ان الانسان يخلق الصفات الحميدة خياليا ويخلعها على الخالق, وذلك لان صفات الخالق مأخوذة من كل صفات وطباع الخير المستمدة من الطبيعة والانسان نفسه والتي جسدها اللاهوت الديني باعتباره المصدر الوحيد لفهم صفات المخلوق الديني بما يرضي سيده وخالقه عنه.(كاتب المقال)




 اقرأ المزيد لـ علي محمد اليوسف


لإرسال مقالاتكم و مشاركاتكم
يرجى الضغط على كلمة  هنا


ليست هناك تعليقات