قال ابن قتيبة :
سمعت بعضَ أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيدة إنما ابتدأ بوصف الديار والدِّمَنِ والآثار ؛ فبكى وشكا ، وخاطَبَ الربع ، واستوقف الرفيق ؛ ليجعلَ ذلك سبباً لذكْر أهله الظاعنين ، إذ كانت نازلةُ العمد في الحلول والطعن على خلاف ما عليه نازلة ، المَدَرِ ؛ لانتقالهم من ماء إلى ماء ، وانتجاعهم الكَلأ ، وتتبُّعهم مساقِطَ الغيث حيثُ كان ؛ ثم وصل ذلك بالنسيب ، فبكى شدَة الوجد ، وألم الصبابة والشوق ؛ ليُمِيلَ نحوه القلوب ، ويَصْرِف إليه الوجوه ، ويستدعي إصغاءَ الأسماع ، لأن النسيب قريبٌ من النفوس ، لائطبالقلوب ، لما جعل الله تعالى في تركيب العباد من محبَّةِ الغزل ، وإلف النساء ، فليس أحدٌ يخلو من أن يكونَ متعلّقاً منه بسبب ، وضارباً فيه بسهم ، حلال أو حرام . فإذا استوثق من الإصغاء إليه ، والاستماع له ، عَقَّب بإيجاب الحقوق ؛ فرحل في شعره ، وشكا النَصَبَ والسهر ، وسُرَى الليل وحر الهجير ، وإنضاء الراحلة والبعير ، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حقّ الرجاء وذِمام التأميل ، وقرّر عنده ما ناله من المكارِه في المسير ، بدأ في المديح فبعثه على المكافأة ، وفَضَّله على الأشباه ، وصغّر في قدره الجزيلَ ، وهزّه لفعل الجميل ؛ فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب ، وعدل بين هذه الأقسام ، فلم يجعل واحداً أغلب على الشعر ، ولم يطل فيُمِلّ السامعين ، ولم يقطع وفي النفوس ظمأ إلى المزيد .
|
ليست هناك تعليقات