اليد الخفية "للأخ الأكبر" وصناعة الأبطال ... بقلم : محمد سيف الدين
الأبطال في عصرنا، كيف يصنعون؟ من يقف خلف الصورة البرّاقة للقادة الكبار؟ كيف تألق أوباما؟ وبأي فطنة أعاد بوتين روسيا إلى عظمتها؟ كيف غزا أردوغان العالم العربي؟ وكيف يصعد نجم محمد بن سلمان؟
هذه القضايا التي تتمخض بها التجارب الإنسانية، الحروب والنار المارّة على سماء التاريخ، و"قادة" الأمم ورموزها، ليست إلا صور طيّعة، بغالبيتها، لعقل "الأخ الأكبر" الجالس في الخفاء، يصنع سلطة الفكرة قبل ترسيخ جذورها. يصنعها بالدعاية. تلك التي يعرف كيف يجعلها تتآلف مع العقل الجمعي، حتى يظن الأخير أنها، بفعل دهائها، الحريص الأول على حياته.
فخلف لهيب المعارك العسكرية والسياسية التي تخاض اليوم في غير منطقة من العالم، تخاض معركة أخرى بوجه آخر لا يقل أهميةً عن حوار البارود والطاولات، بل إنه يفوقه أهميةً في كتير من الأحيان.
معارك الدعاية السياسية والحرب النفسية -الموحدتا الهدف في إقناع الرأي العام- ليست بجديدةٍ خصوصاً في أيام الصراعات الكبرى. قدمها قدم صراع المجموعات البشرية على الماء والخضرة وعلى الأرض وثمارها. ولكن هذه المعركة بلغت اليوم مستوىً شاهق العلو مع تطور وسائل الدعاية وأساليبها، ومع تشعب علاقات الدول، وتطور أنواع اللاعبين الدوليين وتكاثر مصالحهم.
لم يعد الإعلام اليوم أداة لإيصال الخبر وحسب، بل تحول إلى أحد أهم أدوات المعارك المشتعلة وربما أخطرها. الحرب الإعلامية التي تخاض على قلم وصوت لا تكف يومياً عن رسم أبطال الشاشات والصحف والمواقع، وكلٌ يرسم البطل بحسب المنوال الذي يريد أن يغنيه. الترويج لأفكار وأيديولوجيات عبر بث الدعايات المتقابلة أحدث تخمةً في عدد الأبطال العالميين. الأيقونات تكثر. في أميركا يعتبر تمكن باراك أوباما من تصوير فترتيه الرئاسيتين على أنهما استثنائيتان، كيف فعل ذلك؟ بالدعاية. في روسيا، وحتى في أوروبا الغربية، ينظر إلى فلاديمير بوتين على أنه رمز للقوة، رجل خارق يستطيع فعل الكثير، فكيف صنعت هذه الصورة؟ بالدعاية وغيرها. في تركيا، يصارع أردوغان كل أصدقائه السابقين، ويحاول الترويج لصورة السلطان رجب طيب الأول، كيف؟ بالدعاية. حتى في المملكة العربية السعودية، تكبر صورة محمد بن سلمان باضطراد مريب، وإذا تجاوزنا الجواب على لماذا، فإن الجواب على "كيف؟" هو "بالدعاية".
إذن، الأبطال لا يولدون أبطالاً، إنما تتم صناعتهم، ببطولاتهم وأحداثها المتراكمة، وبالتأكيد ليس بالدعاية وحدها يحيا الأبطال في وجدان شعوبهم، فهم يرسمون سياسات، ويحدثون إنجازات، ولديهم جيوش من المستشارين والعاملين معهم لصنع النجاحات، ولكن الدعاية هي العنصر الأكثر تأثيراً اليوم. "التاريخ دعاية" بمعنى ما، يقول فيليب تايلور.
لقد تطورت في العقود الأخيرة الوسائل التي تستخدمها الدعاية من أجل ترويج فكر معين أو شخصية معينة، أو من أجل شن الحرب النفسية على الأعداء.
وفي كتابه "قصف العقول" الصادر مطلع الألفية الجديدة، يرى تايلور أن "الدعاية بوصفها أحد العلوم الإعلامية الحديثة نسبياً نجحت – على أيدي (الأكاديميين والممارسين) – في تطوير مجموعة خاصة بها من الأصول أو القواعد التي تستهدف "الإقناع"، على أساس القول بأن الدعاية هي في النهاية: فن الإقناع". ويمكن تلخيص تلك القواعد –أو الأصول- في ثلاثة هي: كسب مظهر الصدق، (لكسب ثقة الجمهور المتلقي المراد إقناعه)، ثم البساطة والتكرار (للوصول إلى أذهان ومشاعر الناس بسرعة، والنفاذ إلى ذاكرتهم التي "لن" تتذكر إلا ما استوعبته بسهولة وبكثرة)، ثم: استخدام الرموز وضرب الأمثلة (فالذاكرة البشرية يسهل أن تختزن وأن تستدعي الصور ذات الدلالات المرتبطة بمخزون الذاكرة الموروث أو المكتسب).
وبالتالي فإن الدعاية الحديثة تركز على تكثيف الرموز سهلة الفهم، وبثها ضمن نمط يحتوي على التكرار والإثارة مجتمعين، تجنباً للملل السريع الشائع جداً عند المتلقي في هذا العصر، ثم إن مظهر الصدق لا يعود بحاجةٍ إلى الكثير من الجهد حتى يتحقق، فتصبغ الشخصية المراد ترويجها بصباغ البطولة الذي تثبّته الأعمال التي تقوم بها هذه الشخصية.
إذن، وبحسب تايلور، هناك فروق دقيقة بين "مظهر الصدق" و"الصدق" ذاته، أو بين البساطة والدهاء، والرموز المثيرة لغرائز العدوان والرموز التي تستدعي نبيل المعاني أو رفيع القيم.
وعليه، فإن رموز "الحرية والرخاء والمساواة" كانت مناسبة للعصر الذي عاشه مونتسكيو، فكتب منظرّا لهذه القيم، هو والثوار الأوائل في الثورة الفرنسية، وجاءت حكومات الثورة من الإدارة إلى الأمن العام إلى الامبراطورية البونابارتية لتبتعد في ممارساتها عن هذه الرموز. وقد ظل نابليون بونابرت كديكتاتور عسكري يستخدم شعارات الثورة الفرنسية ذاتها، محولاً الحروب الدفاعية إلى حروبٍ هجومية.
ومنذ ذلك الوقت حافظت الدعاية على وظيفتها كأداة للإقناع السياسي/ الأيديولوجي/ النفسي، وبقيت تعمل في إطار "ظروف" تاريخية/ إجتماعية وسياسية وثقافية محددة ، لأنها لا يمكن أن تكون هدفاً في حد ذاتها، للهجوم.
ولا نتناول هنا موضوع الدعاية من زاويتي التأييد أو الرفض فمضمون الرسالة في هذا المجال لا يعنينا، بل من منطلق وظيفتها كأداة يمكن استخدامها من قبل صاحب الحق في قضية ما، وغريمه في الوقت نفسه.
ومع الوقت تحولت الدعاية من مجرد دعاية للحرب التي تشنها أمة ضد أمة أخرى، إلى دعاية لنظام سياسي أو لأكثر من نظام، أو لقائد عسكري أو سياسي. وانشغال المدنيين من كل الطبقات بالسياسة.
ولكن مع انفلاش التقنيات الحديثة للاتصال الجماهيري، اكتسبت الدعاية (ووسائل الإعلام بشكلٍ عام) أثراً أكثر خطورة، فانقلبت في بعض الأماكن إلى سلاح دمارٍ شامل للحجر، كما للبشر وعقولهم، وقلبت غرائزهم وانتماءاتهم الفرعية على حساب هوياتهم الأكثر اتساعاً. وفي ذلك ما يعود لمضمون الرسالة، ولا يضير الوسيلة والأداة.
وقد كتب قاسم عزالدين مطلع العام الجاري شارحاً أن "وظيفة المرآة في نقل المحتوى وفي الحوار بالتطلعات هي التي انقلبت إلى سلاح دمارٍ في تحوّل الوظيفة إلى مجرد وسيلة اتصال "ميديا" (كلمة لاتينية جمع ميديوم بمعنى وسيلة الاتصال وبيئتها). فالقذارة التي تبثّها "الميديا" حضّاً على استهلاك "المعلومات" تحمل في طيّاتها قيَم منظومة الخراب المعولم شرقاً وغرباً، المنتجة لثقافة الدمار والذبح والاحتراب. وما يبدو عارياً في الشتائم الوقحة والحوربَة بالدم ليس سوء أداء ناتئ عن طبيعة الميديا» كما يُشاع تذمراً لتبليد الحسّ النقدي، إنما هو نتيجة التحوّل عن الوظيفة الإعلامية المنتمية بمضمونها إلى الحقل الثقافي، في اتجاه طغيان أدوات الاتصال وتقانتها بمحسّنات الصوت والصورة والوجه الحسن. انتماءً إلى الحقل التجاري".
ونقل عن هيربرت ماكلوهان 1911-1980 من كتابه غالكسي غوتنبورغ، منشورات جامعة تورنتو، 1962» ان طريق الانقلاب على وظيفة الخدمة الإعلامية في ذهابه إلى أن تقانة وسائل الاتصال الحديثة هي إعادة تنظيم كاملة لحياة المجتمعات والأفراد حول محور المعلوماتية». فهو يبشّر منذ الستينيات بما يسمى ثورة المعلومات» في ثقافة الاستهلاك السريع لحشو المتلقي بسموم مبهرجَة تتخذ بدانة المعرفة شكلاً فيمن شحمه ورم. لكن هذه العلاقة الآلية من المرسِل إلى المتلقّي هي مرتع انفجار تجارة الغرائز والعصبيات في علاقة بهائمية للتواصل عبر قرون الاستشعار، بينما التواصل الآدمي هو علاقة ثنائية تفاعلية تقوم على المحتوى الإعلامي في نقل المعرفة لإنتاج الآراء والأفكار. إنما الميديا» مصنّعة بإتقان في تأسيسها لصناعة التلاعب بالعقول وتنميق الكذب القابل للتصديق.
ويقول عزالدين إن "الميديا" ليست سلطة إنما هي واجهة تضرب بسيف السلطة للتلاعب بعقول زبائن متلقّين أدمنتهم منظومة الخراب الاجتماعي والسياسي والثقافي. على استهلاك جرعات التخدير. "فوسائل الاتصالات الحديثة هي بنت السياسة"، كما يقول فرنسيس بال.
من هنا، أفادت العقول العاملة في خدمة "الأبطال المصنعين" ومصالح دولهم من اكتساب هذه الوسائل مثل تلك الوظائف الجديدة، فأطلقت حملاتها ضد العقول، تلميعاً وزخرفةً لصور قادة القوى الكبرى والإقليمية، فأضحى من المسلم به لدى عامة الناس أن أوباما رجل متواضع يحب السلام، بالرغم من دور بلاده في سفك الدماء شمالاً وجنوباً وشرقاً أوسط، وربما غرباً. وتحول أردوغان إلى نصير للقضية الفلسطينية. واكتسب بوتين لقب "أبو علي" الذي يحمل في الثقافية الشامية مخزوناً كبيراً من القوة والرجولة، وعممت صوره التي تظهر كرجلٍ يجيد فعل أي شيء. كما لمع نجم محمد بن سلمان كحامل لمشروع الإصلاح، وكقائد شاب واعد للمملكة العربية السعودية.
وبالعودة إلى رموز الدعاية السياسية، لا يمكن تجاوز نموذجها الأبرز خلال القرن العشرين، وصاحب الدور المثير للجدل خلال الحرب العالمية الثانية، جوزيف غوبلز، مبتكر الدعاية النازية، ومشغل آلتها. إن نظرة سريعة على الأسلوب الخطابي، والشعارات المرفوعة، وإطلالات هتلر الجماهيرية، وإجراءاتها التنظيمية، والصور التي بثت لها، كلها تفاصيل ترسم مجتمعةً يداً خفيةً مع ريشة ترسم أيضاً بدورها صورة للأمة الجرمانية كصاحبة حق في التطور والوحدة. وكدليلٍ على فاعلية هذه الدعاية، في شقيها، الأول المتعلق بالدعاية السياسة على الشعب الألماني وجنوده المقاتلين، والثاني المتعلق بالحرب النفسية على أعداء ألمانيا في تلك الفترة. لقد أثمرت هذه الداعية في الداخل أفواجاً من الجنود يموتون من دون طعام ولا ملاذ، ويقاتلون في الخنادق حتى آخر طلقة، وبعد آخر قطعة من شوكولاتة من مؤنهم، واستمروا بالقتال حتى بعد نهاية آخر أمل بالنصر، أو حتى بمهربٍ يجنبهم الموت. لقد صنعت دعاية غوبلز منهم جنوداً من لحم ودم، ولكن بعزيمة الفولاذ، وبعيداً عن النظرية السياسية والمشروع الجيوبوليتيكي الذي خدموه، فإنه لو قدّر لهم الانتصار لصيغت حولهم أساطير وحكايات، وسهر الشعراء ليالي طوال في وصف شجاعتهم. ولكن التاريخ لا يكتبه المهزوم، بل إنه بعج الهزيمة، تستمر الدعاية المضادة لتضخم انتصار المنتصر، وتكسبه أبعاداً لم يعرفها خلال المعركة، ولتضيف إلى الخاسر موبقات أكبر من التي فعلها. ولو أن النازيين انتصروا في الحرب العالمية الثانية، لكانت الدعاية السياسية ضخمت أبطالهم، وحولت أبطال أعدائهم -كالجنرال جوكوف مثلاً- إلى مجرمين وحشيين. ولكن لأن السوفيات والتحالف انتصروا، فإن بطولة جوكوف، والعريف كنتاريا ورفاقه الذين رفعوا علم الاتحاد السوفياتي على مبنى الرايخستاغ، تحولت إلى وشم للشجاعة يطبع تحت جلد الشعوب المنتصرة.
لقد جعلت الدعاية من مطامع هتلر وسعيه إلى تحقيق المشروع الجيوبوليتيكي الخاص به قضية شعب قاتل بشراسة حتى الموت. وإلا "من الذي يستطيع الآن أن يقبل انفعالية الدعاية النازية وسخونتها بشأن المطالبة بحقوق الأمة الألمانية في الوحدة والرخاء؟ على أساس أن ذلك الانفعال ينطلق من صدق البراءة ومن إحساس المظلوم بالقهر؟"، كما يسأل تايلور.
وعلى أية حال، فإن الوسائل الدعائية ووسائل التعبئة النفسية هي نفسها التي استخدمها النازيون والشيوعيون والليبراليون والدول الديموقراطية، كل لهدفه الخاص. مع أن النازيين كانوا معتدين والسوفيات مثلاً اعتدي عليهم، وهكذا بالنسبة للبقية، فالدعاية عامل محايد لا يميز بين المعتدي والمعتدى عليه، إلا بحسب دهائه وبراعته في استخدامها.
لقد أسس غوبلز لمدرسةٍ جديدة في الدعاية السياسية، وعاش دعايته حتى لحظاته الأخيرة، فلم يكتف بإقناع الألمان بأن هتلر هو المنقذ لهم ولبلادهم، بل إنه بعد موت هذا الأخير، طلب من زوجته تحضير السم لأطفاله حتى لا يتعرضوا للإهانة من قبل السوفيات. لقد برمج غوبلز بدعايته الذكية عقول الألمان، بمن فيهم هو نفسه وزوجته، فانتحرا بعدما قتلا أطفالهم الستة.
صاحب شعار "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس" استخدم الكذب الممنهج فأسس محطة بارزة ومدرسة في فن الدعاية السياسية، يستعيدها اليوم كل الذين يمتهنون الدعاية. ولعل الإعلام اليوم يشبه غوبلز أكثر من أي منظّر إعلامي آخر.
بوتين الرجل القوي
في روسيا، اعتاد الشعب على حكم الرجل القوي. لم يعرفوا، أو لا يريدون أن يعرفوا حكاماً ضعفاء. حتى أنهم لم يصبروا على الأورالي المشاكس بوريس يلتسين. لقد رأوا فيه ضعفاً لا يستسيغه العقل الروسي. وبعد مرحلة الضياع الذي عاشته الدولة في تسعينيات القرن العشرين، بحثت روسيا عن بطلها الذي كانت تتعطش إلى قدومه، فأتى تحت إسم فلاديمير بوتين. ولكن البعض يقول إن بوتين صنع على صورة الأبطال ولم يكن كذلك.
يستند مناهضو بوتين إلى أن ابن لينينغراد تسلق هرم جهاز المخابرات السوفياتي “KGB” حتى وصل في التسعينيات إلى الدائرة القريبة من يلتسين. وأن اليد الخفية للاستخبارات هي التي كانت تحمله على غيمة فوق زحمة الطامحين لحكم البلاد الشاسعة، وأنها هي التي وصلت به إلى أعلى الوظائف الإدارية في الكرملين. ويقولون إن تاتيانا دياشينكاوزوجها –أو من يوصفون بـ"العائلة"- هما اللذين أوصلا بوتين إلى قلب يلتسين، ثم إلى موقعه كرئيس بالتكليف، وأنه أبعدها من موقعها الاستشاري في الكرملين مباشرة بعد تكليفه بمهام الرئاسة، وقبل انتخابه لفترته الأولى ثم انطلق بحرب الشيشان التي صنعت منه رجل الانتصارات. قبله صنعت الانتصارات من بطرس الأكبر، قيصراً لا يضاهى أثره في تاريخ البلاد. وبينهما حفرت كاترينا الكبرى اسمها في صخر الشمال القاسي، بانتصارها على الأتراك وتسيّدها البحر الأسود. مساحة البلاد الشاسعة تحتاج إلى يد قوية جداً لتحكمها، ولا تكفي الدعاية لصناعة هذه اليد، لا بد من وجودها حقيقةً.
ولا يختلف اثنان اليوم بعد 16 عاماً من حكم "البوتينية" لروسيا الاتحادية على أن هذا النهج أعاد للدولة بريقها، وجزءاً من موقعها العالمي السابق، ونفوذها الإقليمي الذي عهدته دائماً. ولكن هذه الانجازات وضعت أيضاً في قالبٍ مناسب من الدعاية، كانت اليد الخفية ترسم صورة الرجل القوي التي يحبها الروس، فوجدت في رجل “KGB” وبطل الجودو ضالتها.
لقد صُور بوتين على أنه الرجل الذي يجيد كل شيء، فكان الكاميرا تلاحقه لتلتقط له صورة يلاعب فيها الدببة، وأخرى يصطاد فيها النمور، وثالثة يجوب فيها السماء مع طيور اللقلاق مستخدماً أجنحة صناعية. يغوص مع الدلافين، ويركض في الغابة عاري الصدر، يمتطي الأحصنة، يفعل كل شيء تقريباً. كما أن إحدى الكاميرات رصدته وهو يملأ خزان سيارته الروسية "لادا" بنفسه، وتبعته أخرى إلى ملعب الهوكي حيث كان ينازل أصحاب البنية الضخمة.
كما يرافق على دراجته رواد الطرقات، قساة الهيئة، عتاة الشوارع الباردة. ثم تراه في حلبة أخرى يقود سيارة "فورمولا1"، إنه ببساطة بطل كل الرياضات.
وهو أيضاً كما يروج له عازف بيانو رقيق، يهتم بالأسرة، ويدعو إلى حفل شاي روسي طفلةً مصابة بمرض السرطان، وتدمع عيناه حين انتخبه الروس لولايته الثالثة، وهو أيضاً ببساطة يد قوية وعقل وقلب كبير. هكذا هي الصورة التي رسمتها الدعاية الروسية لبوتين، ولكنها تحتوي على الكثير من الحقيقة. فهو صاحب التأثير الذي لا ينازعه فيه أحد.
لقد عممت الدعاية الروسية بإفراطٍ حادثةً مليئة بالمعاني تظهر مدى نفوذ بوتين في روسيا. عندما كان ميدفيديف رئيساً وبوتين رئيساً للوزراء، إلتقى الأول الرئيس الأميركي باراك أوباما، فطلب الأخير منه أن يمهله أشهراً قليلة حتى الانتخابات الأميركية ليكون أكثر مرونة، لقد أجاب ميدفيديف: حسناً، سوف أنقل هذه المعلومات إلى فلاديمير.
أوباما يتسلم جائزة نوبل للسلام
دموع الانتصار ليست حكراً على الدعاية الروسية وحدها، يبدو أنها ماركة عالمية، فأوباما استخدمها ببراعة أيضاً، لقد بكى الرئيس الأميركي خلال حملة ترشحه لولاية الثانية، وبكى ثانيةً أثناء تقدميه الشكر للعاملين في حملته، ثم عاد وبكى خلال خطابه حول ضبط الأسلحة الفردية عقب حادثة إطلاق نار في مدرسة راح ضحيتها أطفال.
لقد بدا منح أوباما جائزة نوبل للسلام بعد أقل من عامٍ واحد من انتخابه رئيساً كعملٍ دعائيٍ، ثم تابعت الدعاية الأميركية تصويره على أنه الرجل الودود القريب من الطبقات الشعبية، وأنه في الوقت نفسه قادر على ملاحقة أعجاء أميركا حتى آخر العالم، كما فعل مع أسامة بن لادن. الدعاية التي ضخمت بن لادن، ضخمت قتله فيما بعد.
وكما بوتين، لا شك أن أوباما تمكن من تحقيق إنجازات لامعة وفائقة الأهمية لبلاده، ولكن الدعاية تزيد من ذلك اللمعان. لقد تم تصويره على أنه "سوبر أوباما"، رجل أميركا الخارق.
لقد تمكن الرجل من إنهاء عداوات بين بلاده وكوبا، وبينها وبين إيران، وزار هيروشيما مؤخراً، ووضع إكليلاً من الورود على النصب التذكاري لحوالى مئتي ألف روح قتلتهم بلاده بالقنابل الذرية قبل 70 عاماً.
ولا تنسى الدعاية الأميركية أن تظهر أوباما الرياضي، هو لاعب كرة سلة قديم، ويلعب كرة القدم الأميركية، ويجيد لعبة الغولف. حتى أن هندامه الشخصي كثيراً ما يكون رياضياً، يتناسب وـزياء الأحياء الأميركية القليلة التكلف.
التواضع يقفز أيضاً من شاشات التلفزة التي تمرر للمشاهد صورة الرئيس يأكل شطائر الهمبرغر برفقة نظيره الروسي في أحد مطاعم الوجبات السريعة. هو مثلهم يفضل الوجبات السريعة، والسيارات الأميركية الضخمة، والثياب الفضفاضة. وهم مثله، مجتمع مفتون بالضخامة، حتى صورة الرئيس يريدونها ضخمة، فتحققها الدعاية لهم.
إذن، صورة أوباما المصنوعة بتحالف الدعاية مع الحقيقة تقول إنه مليء بالنشاط، حي جداً، ذكي الخطاب، يتلاعب بالألفاظ وبالنبرات. فيسير صوته مطابقاً لمعنى الكلام ليؤدي دوره في الإقناع. الإقناع الذي هو هدف الدعاية. إنه باختصار، الرجل القادر على الالتفاف على أية مشكلة تواجهها البلاد، وهو إن لم يتمكن من هزيمة خصومه، فسيخلق لهم مشكلات كفيلة بإعادتهم إلى طاولة المفاوضات.
تحاول الدعاية التركية استعادة أمجاد السلطنة العثمانية، فمنذ أن سيطر رجب طيب أردوغان على مفاصل الدولة و"المظاهر العثمانية" تعود إلى الواجهة. ومع مرور الوقت، يقترب تيار أردوغان الإسلامي من مشروع الخلافة العثماني أكثر فأكثر، مبتعداً عن الاتاتوركية التي حكمت البلاد منذ سقوط الخلافة تلك.
وتستخدم الدعاية التركية مروحةً متنوعة من الوسائل، فقد اجتاحت السينما التركية الشاشات، خصوصاً في الدول العربية القريبة منها. لقد تضمن المواد التلفزيونية والسينمائية المنتجة في تركيا توجيها واضحاً للمشاهد. رسائلها مباشرة وقوية، وقالبها براق، متخمة بالبهرج والزخرفات. تعاد فيها صياغة التاريخ ليصير السلاطين دعاة خير، وليصبح أردوغان السلطان الجديد.
كما تجهد السينما التركية في تطويع شعوب المنطقة منذ عقدين من خلال ضخ المواد الثقافية التي تناسب أهواءهم. فقصص الحب والمعاناة وثنائيات الخير والشر والفقر والغنى وغيرها، كلها حاضرة لتسلب ألباب المشاهدين، في قالبٍ روائي يزينه الوجه الحسن. وفي إشارةٍ إلى أهمية هذه الوسائل في الدعاية التركية، قام أردوغان بتكريم 91 فناناً ورياضياً خلال حفل إفطار، وحرص على أخذ الصور معهم فرداً فرداً.
وحين كانت المنطقة منتشيةً بالانتصار على إسرائيل، وبخروج الأميركيين من العراق، تضمنت حلقات مسلسل "وادي الذئاب" مشاهد يقوم فيها أبطال المسلسل بتهريب الأسلحة من ميناء جيهان إلى المقاومة في لبنان. وفي المسلسل نفسه، وفي جزء آخر، حارب البطل الأميركيين في العراق. وفي المسلسل نفسه، ولكن بعد اندلاع الأزمة السورية، باتت حلقات المسلسل ملازمة لسياق السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا.
وعندما كان الشارع العربي غاضباً ومفجوعاً بالجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، قام أردوغان بخطوته الدعائية التي عممتها وسائل دعايته، فانسحب من مؤتمر دافوس بعدما دافع عن الفلسطينيين في وجه الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز.
وبالتوازي مع محاولات الرئيس التركي لتحويل النظام السياسي إلى رئاسي، وبالتالي جميع المزيد من الصلاحيات لموقعه، تؤدي الدعاية دورها في تصويره سلطان زمانه. فقد خرج في إحدى إطلالاته من بين صفين من الجنود، يرتدون أزياءً تمثل الحقبات المختلفة للسلطنة العثمانية. الصورة بحد ذاتها تعبر عن مكنون الدعاية، وعن هدف اليد الخفية التي ترسم صورة أردوغان.
أردوغان يبكي أيضاً، تبدو وسيلة فاعلة في جذب التأييد، فهو بكى تأثراً برسالة أب لفتاة استشهدت. كما أنه ينقذ اليائسين من الانتحار، من ينسى كم من الكاميرات حضرت بسرعة إلى جسر اسطنبول حيث كان يهم شاب بالانتحار، وكيف تمكن الرئيس –الذي مر من هناك مصادفةً- من إقناعه بالعدول عن فكرته.
ومن ينسى وقوف طائر الحمام على كتف فيديل كاسترو يوماً، والأساطير التي حيكت حوله، على أنه شخصية مباركة. رجب طيب أيضاً تقف طيور الحمام على رأسه، وهو أيضاً مبارك، أو على الأقل هذا ما تريد الدعاية التركية تعميمه.
غير أن الدعاية التركية تمارس أيضاً حرباً نفسية على الخصوم، وتمارس دعاية مضادة في مواجهة الإعلام المحلي والخارجي. وتمنعه من توضيح ما يجري في البلاد. في تركيا اليوم، الدعاية غير مسموح فيها، إلا للسلطان رجب طيب.
فالأغنية التي صنعتها الدعاية تقول:
إنه الصوت القوي للشعب المظلوم
إنه الصوت الحر للعالم الصامت
الذي يظهر بحقيقته
الذي يأخذ قوته من الشعب.. رجب طيب أردوغان
بن سلمان ومشروع 2030
الانتقال من أبناء عبد العزيز إلى الأحفاد، بل من ابنٍ محدد إلى حفيدٍ محدد، يحتاج إلى مبرر، لماذا محمد بن سلمان وليس غيره؟ كيف يتميز عن أبناء أعمامه؟ ببساطة يجب أن تخلق الدعاية هذا التميز. وبالعودة إلى المقطع الأول، تستخدم الدعاية الرموز التي يسهل فهمها، وتكررها باستمرار حتى تحفظ: إصلاح داخلي وانتصار عسكري. بكلماتٍ أخرى انتصار على اليمنيين، ومشروع إصلاحي يبرق، والدعاية كفيلة بإحداث الرعد اللازم، والمطر يكون بتمام سيطرته على الحكم قبل وفاة والده: إنه الإصلاح والمستقبل الشاب، ومشروعه: السعودية 2030.
وبعد ذلك، بدأت الآلة الإعلامية السعودية تردد رمزي "الإصلاح والانتصار"، وبموجةٍ ملاصقة لهما اسم بن سلمان. فتحولت دماء اليمنيين المسفوكة إلى سلم صعد به بن سلمان فوق منافسيه على الحكم. فيما لا يمكن محاكمة مشروع "السعودية 2030" قبل مرور سنوات كثيرة قادمة.
ويتردد اسم بن سلمان كثيراً في كواليس قضايا الشرق الأوسط التي للسعودية دور فيها، وتصوره الدعاية السعودية كصاحب النفوذ الأكبر في النظام الملكي الحاكم هناك.
وعلى الرغم من وضوح معالم الدعاية السياسية السعودية، أو الدعاية الموضوعة في خدمة وراثة بن سلمان لحكم المملكة، فإن هذه الدعاية لا يمكن مقارنتها حتى الآن بفاعلية نظيراتها في أميركا وروسيا وتركيا. فهناك، يوجد إنجازات يمكن تضخيمها. المادة الأولية للدعاية موجودة. كل ما على العقل الدعائي فعله هو تضخيم الحدث، وترميزه، نشره وتكراره. ولكن في الحالة السعودية، فلا يمكن الحديث حقيقةً عن "إنجازات دولة".
ولكن يمكن للدعاية أن تخدم بن سلمان في الداخل، وفي المحيط العربي على أساس أن المملكة اليوم هي حامية المسلمين. نعم، فالتاريخ دعاية، وهكذا تقصف العقول.
هذه القضايا التي تتمخض بها التجارب الإنسانية، الحروب والنار المارّة على سماء التاريخ، و"قادة" الأمم ورموزها، ليست إلا صور طيّعة، بغالبيتها، لعقل "الأخ الأكبر" الجالس في الخفاء، يصنع سلطة الفكرة قبل ترسيخ جذورها. يصنعها بالدعاية. تلك التي يعرف كيف يجعلها تتآلف مع العقل الجمعي، حتى يظن الأخير أنها، بفعل دهائها، الحريص الأول على حياته.
فخلف لهيب المعارك العسكرية والسياسية التي تخاض اليوم في غير منطقة من العالم، تخاض معركة أخرى بوجه آخر لا يقل أهميةً عن حوار البارود والطاولات، بل إنه يفوقه أهميةً في كتير من الأحيان.
معارك الدعاية السياسية والحرب النفسية -الموحدتا الهدف في إقناع الرأي العام- ليست بجديدةٍ خصوصاً في أيام الصراعات الكبرى. قدمها قدم صراع المجموعات البشرية على الماء والخضرة وعلى الأرض وثمارها. ولكن هذه المعركة بلغت اليوم مستوىً شاهق العلو مع تطور وسائل الدعاية وأساليبها، ومع تشعب علاقات الدول، وتطور أنواع اللاعبين الدوليين وتكاثر مصالحهم.
لم يعد الإعلام اليوم أداة لإيصال الخبر وحسب، بل تحول إلى أحد أهم أدوات المعارك المشتعلة وربما أخطرها. الحرب الإعلامية التي تخاض على قلم وصوت لا تكف يومياً عن رسم أبطال الشاشات والصحف والمواقع، وكلٌ يرسم البطل بحسب المنوال الذي يريد أن يغنيه. الترويج لأفكار وأيديولوجيات عبر بث الدعايات المتقابلة أحدث تخمةً في عدد الأبطال العالميين. الأيقونات تكثر. في أميركا يعتبر تمكن باراك أوباما من تصوير فترتيه الرئاسيتين على أنهما استثنائيتان، كيف فعل ذلك؟ بالدعاية. في روسيا، وحتى في أوروبا الغربية، ينظر إلى فلاديمير بوتين على أنه رمز للقوة، رجل خارق يستطيع فعل الكثير، فكيف صنعت هذه الصورة؟ بالدعاية وغيرها. في تركيا، يصارع أردوغان كل أصدقائه السابقين، ويحاول الترويج لصورة السلطان رجب طيب الأول، كيف؟ بالدعاية. حتى في المملكة العربية السعودية، تكبر صورة محمد بن سلمان باضطراد مريب، وإذا تجاوزنا الجواب على لماذا، فإن الجواب على "كيف؟" هو "بالدعاية".
إذن، الأبطال لا يولدون أبطالاً، إنما تتم صناعتهم، ببطولاتهم وأحداثها المتراكمة، وبالتأكيد ليس بالدعاية وحدها يحيا الأبطال في وجدان شعوبهم، فهم يرسمون سياسات، ويحدثون إنجازات، ولديهم جيوش من المستشارين والعاملين معهم لصنع النجاحات، ولكن الدعاية هي العنصر الأكثر تأثيراً اليوم. "التاريخ دعاية" بمعنى ما، يقول فيليب تايلور.
تطور الدعاية السياسية
لقد تطورت في العقود الأخيرة الوسائل التي تستخدمها الدعاية من أجل ترويج فكر معين أو شخصية معينة، أو من أجل شن الحرب النفسية على الأعداء.
وفي كتابه "قصف العقول" الصادر مطلع الألفية الجديدة، يرى تايلور أن "الدعاية بوصفها أحد العلوم الإعلامية الحديثة نسبياً نجحت – على أيدي (الأكاديميين والممارسين) – في تطوير مجموعة خاصة بها من الأصول أو القواعد التي تستهدف "الإقناع"، على أساس القول بأن الدعاية هي في النهاية: فن الإقناع". ويمكن تلخيص تلك القواعد –أو الأصول- في ثلاثة هي: كسب مظهر الصدق، (لكسب ثقة الجمهور المتلقي المراد إقناعه)، ثم البساطة والتكرار (للوصول إلى أذهان ومشاعر الناس بسرعة، والنفاذ إلى ذاكرتهم التي "لن" تتذكر إلا ما استوعبته بسهولة وبكثرة)، ثم: استخدام الرموز وضرب الأمثلة (فالذاكرة البشرية يسهل أن تختزن وأن تستدعي الصور ذات الدلالات المرتبطة بمخزون الذاكرة الموروث أو المكتسب).
وبالتالي فإن الدعاية الحديثة تركز على تكثيف الرموز سهلة الفهم، وبثها ضمن نمط يحتوي على التكرار والإثارة مجتمعين، تجنباً للملل السريع الشائع جداً عند المتلقي في هذا العصر، ثم إن مظهر الصدق لا يعود بحاجةٍ إلى الكثير من الجهد حتى يتحقق، فتصبغ الشخصية المراد ترويجها بصباغ البطولة الذي تثبّته الأعمال التي تقوم بها هذه الشخصية.
إذن، وبحسب تايلور، هناك فروق دقيقة بين "مظهر الصدق" و"الصدق" ذاته، أو بين البساطة والدهاء، والرموز المثيرة لغرائز العدوان والرموز التي تستدعي نبيل المعاني أو رفيع القيم.
وعليه، فإن رموز "الحرية والرخاء والمساواة" كانت مناسبة للعصر الذي عاشه مونتسكيو، فكتب منظرّا لهذه القيم، هو والثوار الأوائل في الثورة الفرنسية، وجاءت حكومات الثورة من الإدارة إلى الأمن العام إلى الامبراطورية البونابارتية لتبتعد في ممارساتها عن هذه الرموز. وقد ظل نابليون بونابرت كديكتاتور عسكري يستخدم شعارات الثورة الفرنسية ذاتها، محولاً الحروب الدفاعية إلى حروبٍ هجومية.
ومنذ ذلك الوقت حافظت الدعاية على وظيفتها كأداة للإقناع السياسي/ الأيديولوجي/ النفسي، وبقيت تعمل في إطار "ظروف" تاريخية/ إجتماعية وسياسية وثقافية محددة ، لأنها لا يمكن أن تكون هدفاً في حد ذاتها، للهجوم.
ولا نتناول هنا موضوع الدعاية من زاويتي التأييد أو الرفض فمضمون الرسالة في هذا المجال لا يعنينا، بل من منطلق وظيفتها كأداة يمكن استخدامها من قبل صاحب الحق في قضية ما، وغريمه في الوقت نفسه.
وظيفة الدعاية المعاصرة
ومع الوقت تحولت الدعاية من مجرد دعاية للحرب التي تشنها أمة ضد أمة أخرى، إلى دعاية لنظام سياسي أو لأكثر من نظام، أو لقائد عسكري أو سياسي. وانشغال المدنيين من كل الطبقات بالسياسة.
ولكن مع انفلاش التقنيات الحديثة للاتصال الجماهيري، اكتسبت الدعاية (ووسائل الإعلام بشكلٍ عام) أثراً أكثر خطورة، فانقلبت في بعض الأماكن إلى سلاح دمارٍ شامل للحجر، كما للبشر وعقولهم، وقلبت غرائزهم وانتماءاتهم الفرعية على حساب هوياتهم الأكثر اتساعاً. وفي ذلك ما يعود لمضمون الرسالة، ولا يضير الوسيلة والأداة.
وقد كتب قاسم عزالدين مطلع العام الجاري شارحاً أن "وظيفة المرآة في نقل المحتوى وفي الحوار بالتطلعات هي التي انقلبت إلى سلاح دمارٍ في تحوّل الوظيفة إلى مجرد وسيلة اتصال "ميديا" (كلمة لاتينية جمع ميديوم بمعنى وسيلة الاتصال وبيئتها). فالقذارة التي تبثّها "الميديا" حضّاً على استهلاك "المعلومات" تحمل في طيّاتها قيَم منظومة الخراب المعولم شرقاً وغرباً، المنتجة لثقافة الدمار والذبح والاحتراب. وما يبدو عارياً في الشتائم الوقحة والحوربَة بالدم ليس سوء أداء ناتئ عن طبيعة الميديا» كما يُشاع تذمراً لتبليد الحسّ النقدي، إنما هو نتيجة التحوّل عن الوظيفة الإعلامية المنتمية بمضمونها إلى الحقل الثقافي، في اتجاه طغيان أدوات الاتصال وتقانتها بمحسّنات الصوت والصورة والوجه الحسن. انتماءً إلى الحقل التجاري".
ونقل عن هيربرت ماكلوهان 1911-1980 من كتابه غالكسي غوتنبورغ، منشورات جامعة تورنتو، 1962» ان طريق الانقلاب على وظيفة الخدمة الإعلامية في ذهابه إلى أن تقانة وسائل الاتصال الحديثة هي إعادة تنظيم كاملة لحياة المجتمعات والأفراد حول محور المعلوماتية». فهو يبشّر منذ الستينيات بما يسمى ثورة المعلومات» في ثقافة الاستهلاك السريع لحشو المتلقي بسموم مبهرجَة تتخذ بدانة المعرفة شكلاً فيمن شحمه ورم. لكن هذه العلاقة الآلية من المرسِل إلى المتلقّي هي مرتع انفجار تجارة الغرائز والعصبيات في علاقة بهائمية للتواصل عبر قرون الاستشعار، بينما التواصل الآدمي هو علاقة ثنائية تفاعلية تقوم على المحتوى الإعلامي في نقل المعرفة لإنتاج الآراء والأفكار. إنما الميديا» مصنّعة بإتقان في تأسيسها لصناعة التلاعب بالعقول وتنميق الكذب القابل للتصديق.
ويقول عزالدين إن "الميديا" ليست سلطة إنما هي واجهة تضرب بسيف السلطة للتلاعب بعقول زبائن متلقّين أدمنتهم منظومة الخراب الاجتماعي والسياسي والثقافي. على استهلاك جرعات التخدير. "فوسائل الاتصالات الحديثة هي بنت السياسة"، كما يقول فرنسيس بال.
من هنا، أفادت العقول العاملة في خدمة "الأبطال المصنعين" ومصالح دولهم من اكتساب هذه الوسائل مثل تلك الوظائف الجديدة، فأطلقت حملاتها ضد العقول، تلميعاً وزخرفةً لصور قادة القوى الكبرى والإقليمية، فأضحى من المسلم به لدى عامة الناس أن أوباما رجل متواضع يحب السلام، بالرغم من دور بلاده في سفك الدماء شمالاً وجنوباً وشرقاً أوسط، وربما غرباً. وتحول أردوغان إلى نصير للقضية الفلسطينية. واكتسب بوتين لقب "أبو علي" الذي يحمل في الثقافية الشامية مخزوناً كبيراً من القوة والرجولة، وعممت صوره التي تظهر كرجلٍ يجيد فعل أي شيء. كما لمع نجم محمد بن سلمان كحامل لمشروع الإصلاح، وكقائد شاب واعد للمملكة العربية السعودية.
غوبلز والدعاية النازية: ألمانيا فوق الجميع
وبالعودة إلى رموز الدعاية السياسية، لا يمكن تجاوز نموذجها الأبرز خلال القرن العشرين، وصاحب الدور المثير للجدل خلال الحرب العالمية الثانية، جوزيف غوبلز، مبتكر الدعاية النازية، ومشغل آلتها. إن نظرة سريعة على الأسلوب الخطابي، والشعارات المرفوعة، وإطلالات هتلر الجماهيرية، وإجراءاتها التنظيمية، والصور التي بثت لها، كلها تفاصيل ترسم مجتمعةً يداً خفيةً مع ريشة ترسم أيضاً بدورها صورة للأمة الجرمانية كصاحبة حق في التطور والوحدة. وكدليلٍ على فاعلية هذه الدعاية، في شقيها، الأول المتعلق بالدعاية السياسة على الشعب الألماني وجنوده المقاتلين، والثاني المتعلق بالحرب النفسية على أعداء ألمانيا في تلك الفترة. لقد أثمرت هذه الداعية في الداخل أفواجاً من الجنود يموتون من دون طعام ولا ملاذ، ويقاتلون في الخنادق حتى آخر طلقة، وبعد آخر قطعة من شوكولاتة من مؤنهم، واستمروا بالقتال حتى بعد نهاية آخر أمل بالنصر، أو حتى بمهربٍ يجنبهم الموت. لقد صنعت دعاية غوبلز منهم جنوداً من لحم ودم، ولكن بعزيمة الفولاذ، وبعيداً عن النظرية السياسية والمشروع الجيوبوليتيكي الذي خدموه، فإنه لو قدّر لهم الانتصار لصيغت حولهم أساطير وحكايات، وسهر الشعراء ليالي طوال في وصف شجاعتهم. ولكن التاريخ لا يكتبه المهزوم، بل إنه بعج الهزيمة، تستمر الدعاية المضادة لتضخم انتصار المنتصر، وتكسبه أبعاداً لم يعرفها خلال المعركة، ولتضيف إلى الخاسر موبقات أكبر من التي فعلها. ولو أن النازيين انتصروا في الحرب العالمية الثانية، لكانت الدعاية السياسية ضخمت أبطالهم، وحولت أبطال أعدائهم -كالجنرال جوكوف مثلاً- إلى مجرمين وحشيين. ولكن لأن السوفيات والتحالف انتصروا، فإن بطولة جوكوف، والعريف كنتاريا ورفاقه الذين رفعوا علم الاتحاد السوفياتي على مبنى الرايخستاغ، تحولت إلى وشم للشجاعة يطبع تحت جلد الشعوب المنتصرة.
لقد جعلت الدعاية من مطامع هتلر وسعيه إلى تحقيق المشروع الجيوبوليتيكي الخاص به قضية شعب قاتل بشراسة حتى الموت. وإلا "من الذي يستطيع الآن أن يقبل انفعالية الدعاية النازية وسخونتها بشأن المطالبة بحقوق الأمة الألمانية في الوحدة والرخاء؟ على أساس أن ذلك الانفعال ينطلق من صدق البراءة ومن إحساس المظلوم بالقهر؟"، كما يسأل تايلور.
وعلى أية حال، فإن الوسائل الدعائية ووسائل التعبئة النفسية هي نفسها التي استخدمها النازيون والشيوعيون والليبراليون والدول الديموقراطية، كل لهدفه الخاص. مع أن النازيين كانوا معتدين والسوفيات مثلاً اعتدي عليهم، وهكذا بالنسبة للبقية، فالدعاية عامل محايد لا يميز بين المعتدي والمعتدى عليه، إلا بحسب دهائه وبراعته في استخدامها.
لقد أسس غوبلز لمدرسةٍ جديدة في الدعاية السياسية، وعاش دعايته حتى لحظاته الأخيرة، فلم يكتف بإقناع الألمان بأن هتلر هو المنقذ لهم ولبلادهم، بل إنه بعد موت هذا الأخير، طلب من زوجته تحضير السم لأطفاله حتى لا يتعرضوا للإهانة من قبل السوفيات. لقد برمج غوبلز بدعايته الذكية عقول الألمان، بمن فيهم هو نفسه وزوجته، فانتحرا بعدما قتلا أطفالهم الستة.
صاحب شعار "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس" استخدم الكذب الممنهج فأسس محطة بارزة ومدرسة في فن الدعاية السياسية، يستعيدها اليوم كل الذين يمتهنون الدعاية. ولعل الإعلام اليوم يشبه غوبلز أكثر من أي منظّر إعلامي آخر.
الدعاية الروسية: بوتين الرجل القوي
بوتين الرجل القوي
في روسيا، اعتاد الشعب على حكم الرجل القوي. لم يعرفوا، أو لا يريدون أن يعرفوا حكاماً ضعفاء. حتى أنهم لم يصبروا على الأورالي المشاكس بوريس يلتسين. لقد رأوا فيه ضعفاً لا يستسيغه العقل الروسي. وبعد مرحلة الضياع الذي عاشته الدولة في تسعينيات القرن العشرين، بحثت روسيا عن بطلها الذي كانت تتعطش إلى قدومه، فأتى تحت إسم فلاديمير بوتين. ولكن البعض يقول إن بوتين صنع على صورة الأبطال ولم يكن كذلك.
يستند مناهضو بوتين إلى أن ابن لينينغراد تسلق هرم جهاز المخابرات السوفياتي “KGB” حتى وصل في التسعينيات إلى الدائرة القريبة من يلتسين. وأن اليد الخفية للاستخبارات هي التي كانت تحمله على غيمة فوق زحمة الطامحين لحكم البلاد الشاسعة، وأنها هي التي وصلت به إلى أعلى الوظائف الإدارية في الكرملين. ويقولون إن تاتيانا دياشينكاوزوجها –أو من يوصفون بـ"العائلة"- هما اللذين أوصلا بوتين إلى قلب يلتسين، ثم إلى موقعه كرئيس بالتكليف، وأنه أبعدها من موقعها الاستشاري في الكرملين مباشرة بعد تكليفه بمهام الرئاسة، وقبل انتخابه لفترته الأولى ثم انطلق بحرب الشيشان التي صنعت منه رجل الانتصارات. قبله صنعت الانتصارات من بطرس الأكبر، قيصراً لا يضاهى أثره في تاريخ البلاد. وبينهما حفرت كاترينا الكبرى اسمها في صخر الشمال القاسي، بانتصارها على الأتراك وتسيّدها البحر الأسود. مساحة البلاد الشاسعة تحتاج إلى يد قوية جداً لتحكمها، ولا تكفي الدعاية لصناعة هذه اليد، لا بد من وجودها حقيقةً.
ولا يختلف اثنان اليوم بعد 16 عاماً من حكم "البوتينية" لروسيا الاتحادية على أن هذا النهج أعاد للدولة بريقها، وجزءاً من موقعها العالمي السابق، ونفوذها الإقليمي الذي عهدته دائماً. ولكن هذه الانجازات وضعت أيضاً في قالبٍ مناسب من الدعاية، كانت اليد الخفية ترسم صورة الرجل القوي التي يحبها الروس، فوجدت في رجل “KGB” وبطل الجودو ضالتها.
لقد صُور بوتين على أنه الرجل الذي يجيد كل شيء، فكان الكاميرا تلاحقه لتلتقط له صورة يلاعب فيها الدببة، وأخرى يصطاد فيها النمور، وثالثة يجوب فيها السماء مع طيور اللقلاق مستخدماً أجنحة صناعية. يغوص مع الدلافين، ويركض في الغابة عاري الصدر، يمتطي الأحصنة، يفعل كل شيء تقريباً. كما أن إحدى الكاميرات رصدته وهو يملأ خزان سيارته الروسية "لادا" بنفسه، وتبعته أخرى إلى ملعب الهوكي حيث كان ينازل أصحاب البنية الضخمة.
كما يرافق على دراجته رواد الطرقات، قساة الهيئة، عتاة الشوارع الباردة. ثم تراه في حلبة أخرى يقود سيارة "فورمولا1"، إنه ببساطة بطل كل الرياضات.
وهو أيضاً كما يروج له عازف بيانو رقيق، يهتم بالأسرة، ويدعو إلى حفل شاي روسي طفلةً مصابة بمرض السرطان، وتدمع عيناه حين انتخبه الروس لولايته الثالثة، وهو أيضاً ببساطة يد قوية وعقل وقلب كبير. هكذا هي الصورة التي رسمتها الدعاية الروسية لبوتين، ولكنها تحتوي على الكثير من الحقيقة. فهو صاحب التأثير الذي لا ينازعه فيه أحد.
لقد عممت الدعاية الروسية بإفراطٍ حادثةً مليئة بالمعاني تظهر مدى نفوذ بوتين في روسيا. عندما كان ميدفيديف رئيساً وبوتين رئيساً للوزراء، إلتقى الأول الرئيس الأميركي باراك أوباما، فطلب الأخير منه أن يمهله أشهراً قليلة حتى الانتخابات الأميركية ليكون أكثر مرونة، لقد أجاب ميدفيديف: حسناً، سوف أنقل هذه المعلومات إلى فلاديمير.
الدعاية الأميركية: أوباما.. رجل سلام خارق
أوباما يتسلم جائزة نوبل للسلام
دموع الانتصار ليست حكراً على الدعاية الروسية وحدها، يبدو أنها ماركة عالمية، فأوباما استخدمها ببراعة أيضاً، لقد بكى الرئيس الأميركي خلال حملة ترشحه لولاية الثانية، وبكى ثانيةً أثناء تقدميه الشكر للعاملين في حملته، ثم عاد وبكى خلال خطابه حول ضبط الأسلحة الفردية عقب حادثة إطلاق نار في مدرسة راح ضحيتها أطفال.
لقد بدا منح أوباما جائزة نوبل للسلام بعد أقل من عامٍ واحد من انتخابه رئيساً كعملٍ دعائيٍ، ثم تابعت الدعاية الأميركية تصويره على أنه الرجل الودود القريب من الطبقات الشعبية، وأنه في الوقت نفسه قادر على ملاحقة أعجاء أميركا حتى آخر العالم، كما فعل مع أسامة بن لادن. الدعاية التي ضخمت بن لادن، ضخمت قتله فيما بعد.
وكما بوتين، لا شك أن أوباما تمكن من تحقيق إنجازات لامعة وفائقة الأهمية لبلاده، ولكن الدعاية تزيد من ذلك اللمعان. لقد تم تصويره على أنه "سوبر أوباما"، رجل أميركا الخارق.
لقد تمكن الرجل من إنهاء عداوات بين بلاده وكوبا، وبينها وبين إيران، وزار هيروشيما مؤخراً، ووضع إكليلاً من الورود على النصب التذكاري لحوالى مئتي ألف روح قتلتهم بلاده بالقنابل الذرية قبل 70 عاماً.
ولا تنسى الدعاية الأميركية أن تظهر أوباما الرياضي، هو لاعب كرة سلة قديم، ويلعب كرة القدم الأميركية، ويجيد لعبة الغولف. حتى أن هندامه الشخصي كثيراً ما يكون رياضياً، يتناسب وـزياء الأحياء الأميركية القليلة التكلف.
التواضع يقفز أيضاً من شاشات التلفزة التي تمرر للمشاهد صورة الرئيس يأكل شطائر الهمبرغر برفقة نظيره الروسي في أحد مطاعم الوجبات السريعة. هو مثلهم يفضل الوجبات السريعة، والسيارات الأميركية الضخمة، والثياب الفضفاضة. وهم مثله، مجتمع مفتون بالضخامة، حتى صورة الرئيس يريدونها ضخمة، فتحققها الدعاية لهم.
إذن، صورة أوباما المصنوعة بتحالف الدعاية مع الحقيقة تقول إنه مليء بالنشاط، حي جداً، ذكي الخطاب، يتلاعب بالألفاظ وبالنبرات. فيسير صوته مطابقاً لمعنى الكلام ليؤدي دوره في الإقناع. الإقناع الذي هو هدف الدعاية. إنه باختصار، الرجل القادر على الالتفاف على أية مشكلة تواجهها البلاد، وهو إن لم يتمكن من هزيمة خصومه، فسيخلق لهم مشكلات كفيلة بإعادتهم إلى طاولة المفاوضات.
الدعاية التركية: السلطان رجب طيب الأول
تحاول الدعاية التركية استعادة أمجاد السلطنة العثمانية، فمنذ أن سيطر رجب طيب أردوغان على مفاصل الدولة و"المظاهر العثمانية" تعود إلى الواجهة. ومع مرور الوقت، يقترب تيار أردوغان الإسلامي من مشروع الخلافة العثماني أكثر فأكثر، مبتعداً عن الاتاتوركية التي حكمت البلاد منذ سقوط الخلافة تلك.
وتستخدم الدعاية التركية مروحةً متنوعة من الوسائل، فقد اجتاحت السينما التركية الشاشات، خصوصاً في الدول العربية القريبة منها. لقد تضمن المواد التلفزيونية والسينمائية المنتجة في تركيا توجيها واضحاً للمشاهد. رسائلها مباشرة وقوية، وقالبها براق، متخمة بالبهرج والزخرفات. تعاد فيها صياغة التاريخ ليصير السلاطين دعاة خير، وليصبح أردوغان السلطان الجديد.
كما تجهد السينما التركية في تطويع شعوب المنطقة منذ عقدين من خلال ضخ المواد الثقافية التي تناسب أهواءهم. فقصص الحب والمعاناة وثنائيات الخير والشر والفقر والغنى وغيرها، كلها حاضرة لتسلب ألباب المشاهدين، في قالبٍ روائي يزينه الوجه الحسن. وفي إشارةٍ إلى أهمية هذه الوسائل في الدعاية التركية، قام أردوغان بتكريم 91 فناناً ورياضياً خلال حفل إفطار، وحرص على أخذ الصور معهم فرداً فرداً.
وحين كانت المنطقة منتشيةً بالانتصار على إسرائيل، وبخروج الأميركيين من العراق، تضمنت حلقات مسلسل "وادي الذئاب" مشاهد يقوم فيها أبطال المسلسل بتهريب الأسلحة من ميناء جيهان إلى المقاومة في لبنان. وفي المسلسل نفسه، وفي جزء آخر، حارب البطل الأميركيين في العراق. وفي المسلسل نفسه، ولكن بعد اندلاع الأزمة السورية، باتت حلقات المسلسل ملازمة لسياق السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا.
وعندما كان الشارع العربي غاضباً ومفجوعاً بالجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، قام أردوغان بخطوته الدعائية التي عممتها وسائل دعايته، فانسحب من مؤتمر دافوس بعدما دافع عن الفلسطينيين في وجه الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز.
وبالتوازي مع محاولات الرئيس التركي لتحويل النظام السياسي إلى رئاسي، وبالتالي جميع المزيد من الصلاحيات لموقعه، تؤدي الدعاية دورها في تصويره سلطان زمانه. فقد خرج في إحدى إطلالاته من بين صفين من الجنود، يرتدون أزياءً تمثل الحقبات المختلفة للسلطنة العثمانية. الصورة بحد ذاتها تعبر عن مكنون الدعاية، وعن هدف اليد الخفية التي ترسم صورة أردوغان.
أردوغان يبكي أيضاً، تبدو وسيلة فاعلة في جذب التأييد، فهو بكى تأثراً برسالة أب لفتاة استشهدت. كما أنه ينقذ اليائسين من الانتحار، من ينسى كم من الكاميرات حضرت بسرعة إلى جسر اسطنبول حيث كان يهم شاب بالانتحار، وكيف تمكن الرئيس –الذي مر من هناك مصادفةً- من إقناعه بالعدول عن فكرته.
ومن ينسى وقوف طائر الحمام على كتف فيديل كاسترو يوماً، والأساطير التي حيكت حوله، على أنه شخصية مباركة. رجب طيب أيضاً تقف طيور الحمام على رأسه، وهو أيضاً مبارك، أو على الأقل هذا ما تريد الدعاية التركية تعميمه.
غير أن الدعاية التركية تمارس أيضاً حرباً نفسية على الخصوم، وتمارس دعاية مضادة في مواجهة الإعلام المحلي والخارجي. وتمنعه من توضيح ما يجري في البلاد. في تركيا اليوم، الدعاية غير مسموح فيها، إلا للسلطان رجب طيب.
فالأغنية التي صنعتها الدعاية تقول:
إنه الصوت القوي للشعب المظلوم
إنه الصوت الحر للعالم الصامت
الذي يظهر بحقيقته
الذي يأخذ قوته من الشعب.. رجب طيب أردوغان
الدعاية السعودية: محمد بن سلمان 2030
بن سلمان ومشروع 2030
الانتقال من أبناء عبد العزيز إلى الأحفاد، بل من ابنٍ محدد إلى حفيدٍ محدد، يحتاج إلى مبرر، لماذا محمد بن سلمان وليس غيره؟ كيف يتميز عن أبناء أعمامه؟ ببساطة يجب أن تخلق الدعاية هذا التميز. وبالعودة إلى المقطع الأول، تستخدم الدعاية الرموز التي يسهل فهمها، وتكررها باستمرار حتى تحفظ: إصلاح داخلي وانتصار عسكري. بكلماتٍ أخرى انتصار على اليمنيين، ومشروع إصلاحي يبرق، والدعاية كفيلة بإحداث الرعد اللازم، والمطر يكون بتمام سيطرته على الحكم قبل وفاة والده: إنه الإصلاح والمستقبل الشاب، ومشروعه: السعودية 2030.
وبعد ذلك، بدأت الآلة الإعلامية السعودية تردد رمزي "الإصلاح والانتصار"، وبموجةٍ ملاصقة لهما اسم بن سلمان. فتحولت دماء اليمنيين المسفوكة إلى سلم صعد به بن سلمان فوق منافسيه على الحكم. فيما لا يمكن محاكمة مشروع "السعودية 2030" قبل مرور سنوات كثيرة قادمة.
ويتردد اسم بن سلمان كثيراً في كواليس قضايا الشرق الأوسط التي للسعودية دور فيها، وتصوره الدعاية السعودية كصاحب النفوذ الأكبر في النظام الملكي الحاكم هناك.
وعلى الرغم من وضوح معالم الدعاية السياسية السعودية، أو الدعاية الموضوعة في خدمة وراثة بن سلمان لحكم المملكة، فإن هذه الدعاية لا يمكن مقارنتها حتى الآن بفاعلية نظيراتها في أميركا وروسيا وتركيا. فهناك، يوجد إنجازات يمكن تضخيمها. المادة الأولية للدعاية موجودة. كل ما على العقل الدعائي فعله هو تضخيم الحدث، وترميزه، نشره وتكراره. ولكن في الحالة السعودية، فلا يمكن الحديث حقيقةً عن "إنجازات دولة".
ولكن يمكن للدعاية أن تخدم بن سلمان في الداخل، وفي المحيط العربي على أساس أن المملكة اليوم هي حامية المسلمين. نعم، فالتاريخ دعاية، وهكذا تقصف العقول.
ليست هناك تعليقات