تحول الإعلام في ألفيتنا من رسالة للتثقيف والتوعية والإخبار، إلى كتائب عسكرية هجومية، وألوية مدرعة لاحتلال العقول والعواطف وحتى الأوطان، إن هذه الألفية ليست سوى ألفية الإمبريالية الإعلامية، والاستعمار الفضائي التكنولوجي.
لذا فليس غريبا أن يرى الناسُ جنودَ الإعلام وضباطه يرتدون الدروع والكمامات والخوذات الحربية استعدادا لخوض معارك إعلامية!
فقد انتقلوا من طور مراقبة الأحداث، لوصفها ونقلها بأمانة إلى المشاهدين، وهذه هي رسالة الإعلام الحقيقية، إلى صانعي الأحداث ومفجّريها ومسيّريها ومديريها ومشعليها!
فهم في البداية يشرعون في احتلال الثكنات الإعلامية المشرفة على مرمى عدساتهم، ثم يبدؤون في قصفها بأسلحتهم التكنولوجية الحديثة، وفق الخطة المرسومة لهم من قبل أباطرتهم ورؤسائهم ومسيّريهم!
وليس غريبا – والحالة هذه- أن تتحول المؤسسات الإعلامية إلى أجهزة استخبارية حصينة لها مراصد وعيون مبثوثةٌ في كل مكان، والغاية دائما شريفة وهي:
!! (نقل الحقيقة)!! مهما كان ثمن ذلك!
فقد كان الإعلام في القرن الماضي ناقلا ومرشدا ومثقفا، ولكنه اليوم مُفجّرٌ للأزمات، ومطيحٌ بالحكومات والوزارات، وكاشفٌ للأسرار، لذا فقد سعتْ الحكومات إلى إلحاقه بالكتائب والألوية العسكرية الحربية، وأصبح الإعلام فرقة من فرق الجيش، كما حدث في الجيش الإسرائيلي، عندما أسس رئيس الأركان المتقاعد غابي أشكنازي في الجيش الإسرائيلي سرية الإنترنت، التي تتولى متابعة الشبكات الإعلامية المعادية، لا، لغرض بثّ الدعايات والشائعات فقط، بل لغرض مراقبة الشبكة وتفكيك شفراتها وتدميرها بالكامل، باعتبارها من أقوى الأسلحة المعادية!
وافتنَّت الاستخباراتُ الإعلامية في استحداث فيروسات إعلامية هوائية قادرة على تفكيك كل الشيفرات الرقمية، وقادرة على تخريب الأنظمة الإعلامية المعادية بالضربة الفايروسية القاضية، كما حدث في (فَيْرَسَة) المفاعلات النووية الإيرانية من قبل ثاني أكبر محطة استخبارية إعلامية في العالم، بعد محطة أيكلون الأمريكية، وهي محطة، أورانيم الإسرائيلية القريبة من حدود غزة، والقادرة على رصد وتفكيك وفيرسة شبكات ومحطات ووسائل اتصال عديدة، في دقيقة واحدة!
وللتدليل على سطوة الإعلام، وقدراته التدميرية، فإن مالكيه وأباطرته اعتمدوا مجموعة من الخطط هدفها احتكار الإعلام وعسكرة الإعلاميين، ومن هذه الخطط:
- اختيار المغامرين وأنصاف الإعلاميين، ممن يرتدون زيَّ الإعلام، بدون أن يُتقنوه، حتى يدفعهم شعورُهم بالنقص إلى التمسك بوظيفتهم الإعلامية وتنفيذ كل الأوامر الصادرة لهم من أباطرة الإعلام وإثبات الولاء لرؤسائهم ليحافظوا على وظائفهم ومكانتهم الاجتماعية !
- ومن الخطط أيضا إغداق الأموال الوفيرة على هؤلاء المغامرين المحسوبين على الإعلاميين ، وجعل رواتبهم كرواتب مديري البنوك والمصارف، وذلك لتعويدهم على حياة الرفاهية، مما يدفعهم للإدمان على نمط الحياة الباذخة، بحيث يتمكنون من الإخلاص لسياسة أباطرتهم.
- ومن الخطط التي اعتمدها ملوك الإعلام أيضا منح الحوافز المالية والمعنوية في شكل جوائز لكل إعلامي يتمكن من الحصول على معلومات سرية وخاصة، ولكل مصوّر يلتقط صورة غريبة، حتى ولو كانت الصورة بمحض الصدفة! وأصبح مقياس الإعلامي المبدع، ليس هو من يؤثر ثقافيا وتنويريا فيمن حوله، بل هو كل من (فضح) مستورا، أو نشر خبرا غريبا مثيرا تحت شعار إعلامي قانوني بريء وهو:
"كشف الحقائق للجمهور"!
وصار هَمُّ جيشِ الاستخبارات الإعلامي هو الحصول على الأخبار المثيرة، وفق النظرية الإعلامية المشهورة ، وهي:
الخبر المطلوب والمرغوبُ فيه في الإعلام ، ليس هو خبر:
(عضَّ كلبٌ رجلا)
بل إن الخبر المطلوب في إعلام اليوم هو:
(عضَّ رجلٌ كلبا)!!
- أيضا من الخطط التي اعتمدها كثيرٌ من أباطرة الإعلام في عالم اليوم، هو تكوين فريقٍ داعم من المطربين الإعلاميين من خارج الوسيلة الإعلامية، من المحللين والناقدين وفقهاء التحليل السياسي وقارئي كفّ الزعماء من المنجّمين المهرطقين، وعازفي الموسيقى وفق النوتة الموسيقية الإعلامية التي ترافق رئيس أركان الإعلام، ويتم تجنيد هذه الجوقة الإعلامية المظلية والبرية من بقايا المخبرين الإعلاميين، ومن مخلفات الحروب، ومن المحبطين والمرضى النفسيين، ممن أدمنوا الظهورَ على الشاشات الفضائية بربطات العنق والسترات الغالية، وتقوم بعض كتائب المدرعات الإعلامية بإغراء بعضهم بالمال وشرائهم بالندوات والمؤتمرات والرحلات السياحية الفاخرة، ومكافأتهم بعدد الحروف التي تخرج من أفواههم، فخمس دقائق من الحديث (الفارغ) في بعض القنوات الفضائية تساوي أجرة أكثر من شهر كامل لموظف مخضرم!
- ومن الخطط الأخرى التي اعتمدها أباطرة الإعلام، إتباع كل البرامج في القنوات والمحطات لسطوة الإعلان، بعد أن أصبحتْ الإعلاناتُ التجارية والتغريرية هي التي تقود وتسير كتائب الإعلام، تحت شعار جديد مُغرٍ:
(رعاية البرامج))!!
ورعاية البرامج تعبيرٌ مُضلِّل، يعني بالضبط أن كلمات الضيوف والصور والبث، مدفوعة الثمن من جيب شركات الدعاية والإعلان.
ها هو الإعلام يتحول إلى مصنعٍ لتخصيب الأخبار الخام، لغرض إنتاج قصص وأخبار متفجرة قادرة على تغيير مصير الشعوب، وقلب أنظمة الحكم البائدة!
إن أخطرَ تأثيرات وسائل إعلام لا يكمن في خلط الأوراق وإعادة صياغة كثيرٍ من الدول، وهذا قد يعتبره كثيرون إنجازا من إنجازات إعلام الألفية الثالثة، هدفه الإطاحة بالديكتاتوريات والسلطات القبلية التقليدية، بل إن أخطر تأثيراته يكمن في إزاحة كثيرٍ من وسائل الإعلام المخلصة والصادقة وإقصائها، والتي ما تزال تمارس دور التنوير والإعلام كرسالة ثقافية مقدسة، ولا تخضع خضوعا تاما لسطوة شركات الدعاية والإعلان!
|
ليست هناك تعليقات