كنت اعتقد مثلي مثل الكثيرين أن فتح المجال البصري أمام القطاع الخاص سيحدث نقلة نوعية في جوهر المنظومة الإعلامية وأهدافها النبيلة، و توقعت أن ننتقل من أحادية الإعلام الحكومي إلى تعددية فكرية و ثقافية متنوعة في القطاع الخاص،
ولكنني ومنذ أشهر اشعر بخيبة أمل كبيرة بالرغم من حداثة التجربة . نعم ، هذه الحداثة التي يرفعها بعض الاعلاميين كشماعة تعلق عليها الأخطاء والهفوات والسقطات التي أصبحت الخبز اليومي للعديد من القنوات وخاصة القنوات التي تتفنن في إطلاق شعارات مغايرة لمفهوم الإعلام كالقناة التي تطلق على نفسها –دون خجل أو حياء- “القناة الإخبارية الأولى في الجزائر” أو القناة التي ترفع شعار الصدق والمصداقية ولتكن أول من يعلم…..الخ،
هي شماعة يطلقها المدافعين على ما أسميه عبثية و فساد إعلامي،
فهي حجة خطاب ضعيف وهو في جوهر خطاب فاسد في العمق لأنه بكل بساطة انعكاس لفساد منظومة إعلامية “خاصة ” – مع احترامي وتقديري الكبير للقنوات الحكومية – خرجت من رحم منظومة بدأت في الأفول والضعف والتحجر، لذلك فخرج المولود مشوها ، مليء بالحقد و الكراهية للأحادية الفكرية التي عمل فيها ثم انقلب عليها لكنه بقي مشبعا بقيمها في بنيته الفكرية ، و انتقل من كراهية الأحادية والاحتكارية للقيم الوطنية والتاريخ ومفهوم الوطنية، إلى احتكارية جديدة ،واستلهمت من القنوات الحكومية – في مرحلة معينة- سياسة ضرب مصداقية أي طرف و التشكيك في ولائه ووطنيته، فهي كما هو الحال في القناة المذكورة اعلاه تمارس نوعا من البوليس الإعلامي تشبه إلى حد كبير يكاد يكون مطابقا نفس الممارسات التي استخدمتها اجهزة الاستخبارات في دول أوروبا الشرقية أو الاتحاد السوفيتي سابقا ،
اي الانحراف عن الرسالة الإعلامية بتوجيه الرأي العام نحو قضايا هامشية او التركيز على قضايا معينة بتضخيمها وإضفاء “الإثارة” عليها لتحنيط الوعي او على الارجح تخديره كما انها اصبحت تنظر الى نفسها و هذا ما يخيفني ،
على أنها صوت الامة والمجتمع والتاريخ وحصن الوطنية والنزاهة و المصداقية و انها لوحدها الحق في تشويه او تقديس أي طرف ، تتحدث و كانها تملك شرعية شعبية بسبب عدد المشاهدين وهي تعتقد على انه كلما ارتفاع عدد المشاهدين وفق دراسات تشوبها العديد من الهفوات كلما أصبحت تملك “شرعية” الناطق الرسمي للرأي العام والمدافع عن المجتمع وعلى ان خطابها خط أحمر لا يجب ان يتجاوزه احد، ونسي القائمين عليها ممن انتجتهم مدرسة العمل الإعلامي الأحادي الفكر،
ان شرعية الحديث باسم المجتمع تعود للمجتمع، عن طريق العمل السياسي و ليس الاعلامي ّ، فهي اقرب إلى القنوات التي ظهرت في “رواندا” و دعت إلى المذابح بحجة حماية الدولة والمجتمع من أقليات أفسدت التوازن الاجتماعي .
في نفس السياق ، أعادت هذه القنوات إنتاج “التسلطية” التي ورثتها جنينيا من المدرسة التي تكونت فيها تماما كمتلازمة ستوكهولم ، و لكنها غلفت نفسها بغلاف “الحق في الاختلاف” و “الديمقراطية الإعلامية ” و نسيت أنها كانت وستبقى نتاجا جنينا مشوها في الاصل . كما ستجد قناة تمجد الانتماء العرقي الى جهة ما ولكن بأسلوب لطيف لتغطية خطاب عنصري اقرب الى الفاشية ثم قناة كبرى اخرى تميل الى تمييع كل القضايا وتدافع عن “حرس قديم” سيطر على الإعلام بحجة “حماية الأمن القومي ” كما أن ذات القناة انقلبت فكريا بشكل مخيف ، من معاداة تيار معين الى الدفاع عنه وعن حقوقه وذلك ليس إلا نكاية في السياسة العامة التي تقودها الدولة .
نحن أمام مشهد إعلامي “عبثي” أصوله فاسدة لكنه يعتقد انه يملك “صوت الحق” بالرغم من أن بعض القنوات تفننت في السنوات الاخيرة في تشويه كل الرموز، ووضعت الجميع في سلة واحدة حتى يتسوي الفاسد مع النزيه و يصبح من الصعب على المواطن- المشاهد التمييز بينهما وبذلك فهي تؤدي خدمة عظيمة ” للفساد” بكل أشكاله فالإعلام الخاص (البعض منه) ينحدر الى ذلك النفق المظلم تدريجيا وعندما يفسد الاعلام الخاص فما علينا إلا أن نترحم على الاعلام الحكومي
ليست هناك تعليقات