الحياة عبارة عن عناصر تتفاعل مع بعضها تبدأ من اللاوعي الذي يعج بالطاقات والخيال والذاكرة العميقة وموجات دلتا..
والعقل الذي يعي الأشياء والأماكن المحيطة به من خلال الحواس الخمس، ثم الطاقة الكونية التي ينتمي إليها الإنسان بكل مكوناته.. يعيش الإنسان في عالم يتصف ببعدين أساسيين هما: الزمان والمكان، ففيهما يحيا الإنسان وينمو الجنس البشري ويتطور.
والمكان تاريخيا أقدم من الإنسان، والإنسان بوجوده وكينونته في المكان يعيد تشكيله وتحويله إلى أشكال مختلفة حسب احتياجاته الحياتية، ووفق ثقافته.
ورغم أن المكان والزمان عنصران متلازمان لا يفترقان، فإن المكان ثابت على عكس الزمان المتحرك، وهو في ثبوته واحتوائه للأشياء الحسية المستقرة فيه يدرك بالحواس إدراكا مباشرا . ذلك أن المكان صورة أولية ترجع إلى قوة الحساسية الظاهرة التي تشمل حواسنا الخمس، على عكس الزمان الذي يدركه الإنسان إدراكا غير مباشر من خلال فعله فيه، هذا المفهوم قد تجلى بأبهى صورة في قصة الإرادة الصلبة، والطاقة الإيجابية التي ما لبثت تبث روحها في حضارتنا المعاصرة المتقهقرة قصة مدينة البتراء الوردية، أو ما أطلق عليها الدكتور
عبد العزيز اللبدي الرقيم في روايته
“ذهب الرقيم”.
وهي رواية تاريخية وظفت المُتَخَيَّلْ في استجلاء معالم قصة كان للمكان سطوته على أحداثها المدهشة، ولعل من ضروريات البحث أن يعربد الخيال في التفاصيل لافتقار المكان إلى النقوش التي تبين أسرار هذه المدينة الساحرة لتجد أن سياق البحث لن يتجاوز حدود المعالم المكانية وتفاصيلها التي تقول كل شيء من خلال مبانيها العامة، وخطوط التجارة التي التقت على عتباتها لتكون هذه الدرة اللامعة في يباب وادي موسى.. إنها قصة تلك الطرق الأفعوانية التي طوقتها بالأطماع حتى انقض عليها الروماني تروجان آخر المطاف..
ورواية
” ذهب الرقيم” تسجل تفاصيل الأحداث مع مراعاة الدقة الممكنة أثناء الجنوح إلى الخيال في بعض المواقف لإضفاء الحيوية على الأحداث في إطار التشويق.. وخلق شخصيات رئيسة على هامش الأحداث التاريخية لتخيل ردود الأفعال إزاء ما يجري، وبلغة سردية تأخذنا في السياق العام إلى محطات تاريخية موصوفة بأمانة، فيما تتفاعل في نتائجها التاريخية أحداث متخيلة توضح المسارات الافتراضية لأحداث خالطت واقعها الأساطير.
ففي هذه الرواية تتجلى البطولة التاريخية في المكان.. البتراء وكما كانت تسمى بالرقيم.. لكثرة النقوش التي ازدانت بها طرقاتها وجدران معابدها.. المدينة المنحوتة في الصخر.. والتي تشع بروح إيجابية ما لبثت تختزن طاقة الإرادة الصلبة فيها..
ومن أسماء أبطال هذه الرواية يمكن تتبع دلالاتها التاريخية منذ ثمود في اليمن وتفرعات هذه القبيلة العربية الأصيلة في الجزيرة العربية.. ومن منطلق الحاجة لتأمين العيش الكريم للقبائل العربية.. تسير القوافل التجارية والجيوش الجرارة، تقودها الأطماع والطموحات عبر طريق البخور من مملكة معين في اليمن ومروراً بمدينة الأسود اللحينية المنحوتة في الجبال، التي ينتسب إليها بطل الرواية
مصلح الليحياني
حيث تجلت في ذاكرته تفاصيل البعد العربي للرقيم.. وصولاً إلى الرقيم لتتشعب هذه الطريق في الصحراء باتجاه بصرى الشام شرقاً، أو دمشق شمالاً؛ لتلتقي بطريق الحرير، ومن ثم ستذهب القوافل باتجاه بابل فشرق آسيا.. وتعود بعد مشقة محملة بالحرير.. عائدة من نفس الطريق إلى الرقيم.. وبعد طيب إقامة في هذا المركز التجاري الأعظم في ذلك الزمان، متنعمة بالرفاهية التي تقدمها البتراء لتنطلق إل مسعاها في الأرض وفي ذاكرتها شيئاً من مدينة السحر والجمال البتراء.
وتتجهز قوافل أخرى بالقار المستخرج من البحر الميت وتنطلق باتجاه سيناء لتزويد الفراعنة بالمواد التحنيطية.. وربما تلجأ تلك القوافل إلى ميناء غزة للتصدير عبره إلى أوروبا.. ثم الطريق الأهم بالنسبة للرقيم.. تلك التي عبر من خلالها بطل الرواية كرمل ليصل عبر البحر الأحمر نحو باب المندب ثم النزول إلى سواحل افريقيا الشرقية حيث زنجبار وسومطرة.. وبالتالي مقايضة ما لديهم من بضاعة بالذهب الذي عادوا به إلى الرقيم..
كل هذه الدروب حينما التقت في تلك المنطقة المحصنة بالصخور قريباً من عين موسى.. حيث اجتمع الماء بالثروة فانبعثت الإرادة الصلبة لنحت مدينة الأحلام المحصنة بالجبال.. إنها إرادة قوم اكتسبوا العناد من قساوة الصحراء وفلسفتها..
حيث قدم
مصلح الليحياني من منطقة الحجر التي اشتهر أهلها بالنحت ليأتي إلى الرقيم بتلك الدلالة كأنها تقول بأن فن النحت جاء من هناك.. وقد تحولت الحجر فيما بعد إلى مقبرة منحوتة لعظماء الرقيم بدلالة نقوشها.. وتفاصيل الحياة فيها.
إذن مدينة الرقيم الحصينة كان لا بد من حمايتها من اعتداءات البدو فأقيم جدار طويل يحول بين طرق التجارة المؤدية إلى البتراء عبر الصحراء بقلاعه وأبراجه.. وقد تخيل الكاتب كيف تشرف شخصية وهمية تدعى عساف على بناء هذا السور الحصين، وعساف هو نسيب
مصلح الليحاني، والذي قتل دفاعاً عن المدينة آخر الرواية،.
التفاصيل المكانية في الرواية تثبت أن البتراء كان مدينة عالمية من خلال تمازج الطرز المعمارية في ابنيتها لأنها ملتقى التجار في استراحاتهم ما يستلزم توفر الخدمات المادية والروحية الأمر الذي أثر في تعدد الأنماط المعمارية وزخارفها.. والرموز المقدسة التي نقشت بها المعابد.. بدءاً من الخزنة حتى المقابر عند المدخل الغربي للمدينة…
ويمكن تقسيم مباني المدينة من حيث الوظيفة، إلى:
أولاً:؛المعابد: آلهة ذو الشراه.. اللات.. العزة..( علاقة اللات بأفروديت أو عناة) (علاقة اللات بإيل) لذلك الجنس كان لديهم مقدساً بحيث تقوم القادشيات قبل الزواج بقضاء شهر كامل تمارس فيه الدعارة المقدسة لدعم المعبد مادياً..
ثانياً:المقابر المنحوتة على الصخور التي تمازجت فيها العناصر اليونانية عند البوابة.. والنبطية عند الأفاريز.. والفرعونية عند التيجان.. والآشورية عن الدرج المقلوب في الأعلى.
ثالثاً:أماكن اللهو كالمواخير والمدرجات ومضامير السباق.
رابعاً: الأسواق والمحلات التجارية، آثارها موجودة تحت ركام الزلال الذي دمر المدينة في القرن الثالث بعد الميلاد.
خامساً: المكتبة العامة( الخزنة) فلم انديانا جونز:( الحملات الصليبية) إضافة للدير وقصر البنت الذي بني بالحجارة.
سادساً: خزانات المياه تحت المعبد الرئيسي.. الساحة الرئيسة.. تتوزع القنوات كالشريان من خزان إلى آخر حتى تصل المياه كل أطراف المدينة.. والتي تأتي من عين موسى عبر السيق..وكانوا خبراء في علم الهيدروليك.. ميول المواسير الفخارية 4%
سابعاً: السيق بطول 8 كم ومحاط بشق صخري يربو على 100 م
ثامناً:أهمية الوقت بالنسبة لهم جعلهم يبنون ثلاثة نماذج من الساعات:
- - المزولة الشمسية الفصلية وهي عبارة عن عمودين.. دُرِج حول الأول لمراقبة الوقت عبر فصلي الربيع والصيف والآخر لمرافبة الوقت عبر فصلي الخريف والشتاء.
- - الساعة الشمسية، عبارة عن شكل مستطيل مدرج نصب في إحدى زواياة هرم صغير.. يمر ظل الرأس عبر التدريج فيترجم الوقت بدقة.
- - الساعة المائية.. عبارة عن حوض ماء توجد في قاعة قناة ضيقة.. يسيل منها الماء إلى سطل فارغ معياري بمعدل ساعة ليفرغ في حوض آخر.
- كان الماء هو عصب الحياة فيها.. وفي عهد الإمبراطور الروماني بومبي تم احتلال المنطقة.. وفي عهد تراجان سقطت المدينة حينما استدل على مصدر المياه في عين موسى.. وقطع هذا الشريان ليسقط هذا الحصن المنيع..
ويمكن أن نستخلص مما سبق:
بأن وجود الإنسان في المكان أدى إلى تعضيد العلاقة بينهما، تلك العلاقة التي أخذت في التنامي »حتى أصبح المكان واحدا من القضايا التي يخترقها الإنسان بالبحث بغية التعمق في هذا المحسوس وتمام إدراكه. مما ترتب عليه وجود دراسات كثيرة عنيت بدراسة المكان في مختلف المجالات، بل وجد علم خاص بدراسة المكان وهو
علم الطوبولوجيا (Topology) الذي قام بدراسةأخص خصائص المكان من حيث هو مكان، أي العلاقات المكانية المختلفة كعلاقة الجزء بالكل، وعلاقات الاندماج والانفصال والاتصال، التي تعطينا الشكل الثابت للمكان، الذي لا يتغير بتغير المسافات والمساحات والأحجام.
وللروائي سبل شتى في تشييد الفضاء أو المكان الروائي، منها: الوصف، استخدام الصورة الفنية، توظيف الرموز، ولكل منها دوره الفعال في النص الروائي.
ويلزم التنويه إلى أن وصف الروائي للمكان قد يقتصر على بؤرة بعينها أو يكون شاملا بحيث يعرض مشهدا أو مشاهد مكانية كاملة.
إن الصورة الفنية تتعدى – بوصفنا متلقين – حدود الرؤية للمكان بعناصره الفيزيائية، إلى المشاركة الوجدانية، وهو ما يؤكد لنا أن “الصورة الفنية لا تثير في ذهن المتلقي صوراً بصرية فحسب؛ بل تثير صوراً لها صلة بكل الإحساسات الممكنة التي يتكون منها نسيج الإدراك الإنساني ذاته. وهنا تكمن عبقرية اللغة الروائية حيث تتمكن من إعطاء أبعاد حسية لما لا وجود له إلا بالوعي، ولكن في حالة البتراء فالمكان سيد الموقف والذاكرة والبناء الروائي والمتخيل .
في نظري أن الروائي قس
” ذهب الرقيم” وفق في رسم معالم المدينة وبدقة قل نظيرها.. وكنت أتمنى أن ينقلنا هذا الأمر إلى روح المكان من خلال شخصية نحات يذوب عشقاً في الصخر إلى درجة التماهي لينقلنا عبر مشاعره إلى سر الخلود.
بكر السباتين
ليست هناك تعليقات