أخبار الموقع

اهــــــــلا و سهــــــــلا بــــــكم فــــــي موقع مجلة منبر الفكر ... هنا منبر ختَم شهادةَ البقاءِ ببصمةٍ تحاكي شَكلَ الوعودِ، وفكرةٍ طوّت الخيالَ واستقرتْ في القلوبِ حقيقةً وصدقاً " اتصل بنا "

« الإنسان والخيال » ... بقلم الباحث الفلسفي: علي محمد اليوسف



  « الإنسان والخيال »
    بقلم: علي محمد اليوسف
   18/1/2019
 السيرة الذاتية للمؤلف


« مجلة منبر الفكر »
علي محمد اليوسف    العراق 18/1/2019


الوعي ذات ادراكية انفعالية ناقدة في فهم الواقع وتحليل ظواهره ومعطياته وعلاقة الانسان بالطبيعة كمعطى اولي بدئي متداخل بالوجود الانساني (الذكي )على الارض.

أن خاصية الانسان البدائية البدئية في صناعته التاريخ وسيرورة تقدمه الحضاري بدءا من عصر الصيد والالتقاط تم بالمفارقة عن حياة الحيوان بحيازة الانسان الذكاء وفي القدرة على اعمال العقل والتفكيروالخيال.

وهذه الخاصية الانسانية استثناءا من دون الكائنات الحية الأخرى في الطبيعة , هي بدئية وازلية في وعي الانسان لوجوده ورغبته مجاوزة هذا الوجود دوما وباستمرار في توّسل العقل وتشغيل خاصّية الذكاء الى جانب الخيال الاستشرافي , في مراجعة مستمرة نقدية للوجود الانساني المتعالق مع الطبيعة في نشدان الافضل ,

وهذا ما لا يتوفر عليه الحيوان الذي يفتقد خاصيتي الذكاء والخيال , ولا يدرك ويعي وجوده .

وهذا الاختلاف والمفارقة بين حياة الانسان والحيوان مثّلت اكبر انعطافة انثروبولوجية - ابستمولوجية في تاريخ صنع الانسان لوجوده الآدمي وبناء حضارته البدئية .

وعن هذه الحقيقة يشير براتراند  رسل :
"وجد الانسان ان ثلاثة اشجار مع ثلاثة اسود مع ثلاثة جبال توحدها خاصية واحدة لا يحتازونها ويفتقدونها جميعا, ويتمايز بها الانسان  عنهم وغيرهم  من الكائنات في امتلاكه خاصية العقل والذكاء والخيال." 

الذكاء العقلي ادخل الانسان في مشّقات وصّعاب على امتداد العصور البشرية عندما وجد الانسان نفسه في صراع واحتدام مع الطبيعة بعلاقة رأسية متقاطعة معها دفاعا عن نفسه ونوعه من الانقراض , ومحاولته تسخير وتطويع معطيات الطبيعة وقوانينها العامة لصالحه ومقتضيات وجوده في تامين غذائه وبقائه.

بينما بقي الحيوان يجاري الطبيعة ويتكيّف معها غريزيا بعيدا عن التقاطع معها,والاحتدام بها, وعن ادراك وعي وجوده الحيواني كما فعل الانسان بوعيه لذاتيته الانسانية.

في هذه المفارقة بقي الانسان في حالة تطور دائمية من مرحلة الى اخرى , وبقي الحيوان كائنا متكيّفا مهادنا للطبيعة في حلقة دائرية مفرغة من الحياة التطورية ( يعيش ليأكل ).
أن  تلازم الوعي النقدي والخيال المنتج عند الانسان في أدراك وجوده وأستشراف مستقبله الافضل يشبه الى حد بعيد تماما تلازم الروح والجسد في الكائن الحي ,

فاذا أعتبرنا الوعي هو عملية العناية بالجسد كوجود انساني فيزيائي نفسي متطور دائما في علاقاته المتعددة بالطبيعة والميتافيزيقا والكوني , فان الخيال يصبح اهتمامه ومجال اشتغاله بجنبة الوجود الروحي وآفاقه عند الانسان وعلاقته بالمطلق وما وراء الطبيعة في التصورات الغيبية وتوظيف استشرافاته الروحية والمادية لخدمة حاجات الجسد والتوازن النفسي وفتح آفاق مستقبلية امام تقدمه باستمرار ,مكّملا – اي الخيال – وظيفة الوعي الادراكي العقلي في عنايته بالانسان كوجود مادي عياني ماثل متعين يمثل جزءا من الطبيعة منفصلا و متمايزا عنها . وجود تدركه الحواس ويسيطر عليه العقل تماما , يتجلى ذلك ان العقل ذو فاعلية نقدية لما تزّوده بها الحواس والوعي الادراكي في تحليل الوجود وحل مشكلاته وقضاياه .

الخيال المنتج السوي يلازم الوعي الادراكي للوجود ويتكامل ويتعاضد معه احيانا ويفترق عنه احيانا اخرى , باسلوب وطرائق مفارقة عديدة , فما يعجز الوعي تحقيقه يدركه الخيال بشكل يوتوبي تعويضي حلمي استشرافي, بما يحفز الادراك الوجودي في تحقيق الاحلام الخيالية او جزءا منها على ارض الواقع في تقدم مستمر وتغيير الحياة نحو الافضل .الخيال في كل الاحوال عند الانسان كخاصية يحتازها متفردا عن باقي الكائنات من حوله في الطبيعة, هوأنه تفكير حلمي خيالي منتج , وطموح يسبق ويتجاوز عن عمد وقصد

وغائية كل ما لا يستطيع الوعي الواقعي تحقيقه والاضطلاع بانجازه, في استشراف الخيال حاجات يتمناها و عوالم مستجدة يسحبها باستمرار من سديم الاحلام والرؤى الى امكانية تحققها ماديا في واقع الانسان وصيرورة حياته كوجود ونوع .

وفي تلازم وتداخل الوعي العقلي الناقد ,والخيال الحلمي المنتج يكون سعي الانسان بكليهما في أشباع حاجاته المادية وحاجاته الروحية ,وأحيانا حاجاته الابداعية والفنية بدءا من النقوش والرسومات الكهفية , وصولا الى ابداع الاداب والفنون الحديثة .

لذا  يكون هذا التعالق المنتج بين الوعي والخيال يمثل خاصّية وجودية انسانية اكثر من ضرورية في فهم الوجود وسيرورته التاريخية وصنع حضارة الانسان على الارض.

الخيال الحلمي المنتج في كل العصور البشرية والازمنة يسبق الوعي الادراكي للواقع والحياة المعاشة,وهومحكوم بوصاية ورقابة العقل على الانسان كوجود وماهّية وصفات .

 لكنه اي  الخيال في عصور سحيقة لعب دورا (جوهريا ) في الفتح الاستشرافي المستقبلي في استقدامه واستحضاره واستحداثه ما ينقص الوجود الانساني من معطيات مادية وروحية تغني ذلك الوجود المعيشي ,ليستحدث بعدها ضرورات اخرى بديلا عما كان انجزه ومتجاوزا له على الدوام وهكذا.

وكان سبب هذه الفتوحات التخييلية في تقدم حياة الانسان, ان الانسان يجهل قوانين الطبيعة التي اكتشفها في مراحل تاريخية متقدمة من عمر البشرية وكذلك انه لم يكن يعرف وسائل العلم في تحقيق رغائبه التخييلية. .

 ليأتي بعد ذلك دور الوعي العقلي النقدي الناظم والمنظم لمنظومة المعطيات الخيالية التي ابتدعها الخيال الجامح , في التهذيب والتشذيب وتحقيق الممكن منها وتخليصها من سديم الفوضى الطوباوية الخيالية غير المنضبطة عقلانيا. بمعنى ليس كل ماكان يحلم به الانسان يتحقق بسهولة الاماني والرغائب, بل في تطور ملازمة الخيال ومكانيات الانسان في تغيير حياته نحو الأفضل دوما.

يمكننا تقسيم الخيال المرافق لوعي الوجود الانساني الادراكي وعقلانيته بثلاث انواع من الخيال مثّلت مراحل متدرجة ومتداخلة مع بعضها ايضا :

الخيال الاسطوري والخرافي الذي قدّم للمسار البشري المتصاعد خدمة جليلة عظيمة في انتاجه الخرافة والسحر والطوطم وطقوس الرقص الدينية , والاسطورة والميثالوجيا ,وفي مراحل لاحقة انتج لنا الاديان ما قبل السماوية , وانتج لنا ايضا الكهنة والعبيد ودور العبادة وإقامة الطقوس الدينية التعبدية .

في مرحلة لاحقة انبثقت من رحم الخيال الاسطوري وفي تداخل معه وتجاوز له ايضا , انتج لنا الخيال الإنساني اللغة, و الآلهة والملاحم والاساطير , وفي تطور لاحق انتج لنا الأديان الوثنية وطقوسها التعبدية  والايديولوجيات والابداع في الاداب والفنون والفلسفة والغناء والموسيقى والرقص والتاريخ والعلوم الانسانية . ونطلق على هذا النوع من الخيال المنتج( الخيال الابداعي).

بعد مرحلتي الخيال الاسطوري والخيال الابداعي ومن رحمهما أنبثق عندنا الخيال العلمي تجاوبا مع مقتضيات التطور المديني والتقدم الحضاري للانسان . الخيال العلمي وفي مراحل متقدمة أنتج لنا علوم الطب والفيزياء والفلك والكيمياء والتكنلوجيا المتطورة والفهم الوجودي المعاصر للحياة .

هذا المخيال العلمي المنتج وضع حاضر ومستقبل البشرية مرهونا في حّيز الاحتمالات التنفيذية المتحقق والمؤّجل منها في استمرار عمل المخيال المخصب المنتج في التنبؤ الاستشرافي لبعض ما يهم مستقبل الوجود الانساني الارضي وعلاقته بالطبيعة والكوني ومستجدات العلوم ومتطورات التكنلوجيا بصورة مطّردة متعالية في نشدان الافضل دائما مرحلة تليها اخرى .

من الملاحظ جيدا أن هذه الانواع من الخيالات المنتجة الانسانية المتداخلة رغم القطوعات التي تفصل بينها ك( بنيات / بنى ) متكونة من منظومات فكرية عديدة مستقلة أحداها عن الاخرى , بنفس وقت تداخلها مع بعضها على امتداد التحقيب الزمني التاريخي لكل واحدة .فهي لا زالت مجتمعة تلعب دورا اساسيا في تفسير وفهم الوجود الانساني ماديا وروحيا , وفتحت مجالات التنبؤ الاستشرافي المخصب والابداع المنتج بما يغني ثراء الوجود الانساني اسطوريا وابداعيا وعلميا .

مما مربنا نستنتج ان فهم الخيال المنتج غير التهويمي اللاشعوري – وسنأتي على تفصيل هذا لاحقا – انه دائم النظر الاستشرافي في سحب غير الممكن الوجود وغير المتحقق في حياة الانسان من ثنايا الغيب والمستقبل المجهول الى امكانية التوظيف والتحقق في الواقع المادي للانسان عندما يعجز الوعي والارادة تحقيق تلك المتطلبات او يجد انها استهلكت ولم تعد تحقق أحلامه في ضرورة تجاوزها .

الخيال حركة دائبة في تحفيزأدراك الوجود على مجاوزة الواقع المادي المتعين . فما يتحقق في فترة زمنية تخبو صلاحيتها وجاذبيتها المبتكرة بمرور الوقت ,لتصبح حاجة استحداث أخرى أفضل منها بديلة عنها   اكثرضرورة واهمية في تقدم الحياة.

النقطة التي لا ارغب دون الاشارة لتوكيدها والتي سبق ان ذكرتها سريعا, أن الخيال الابداعي المنتج لعب في مراحل بدائية من عمر البشرية دورا على جانب كبير من الاهمية وان كنا نعامل هذه المراحل التي انتجت لنا الطقوس الدينية والميثالوجيا والسحر والشعوذة والخرافة والاساطير , وفي مرحلة لاحقة متقدمة انتجت لنا الاديان الوثنية , وفي مرحلة متقدمة جدا انتجت لنا منجزات الخيال العلمي والتطور التكنلوجي والعلوم في كافة المجالات , والفهم الكوني للوجود.

تمت ويتم الان معاملتها على انها على أهمية بساطتها البادية عليها بمقاييس عصرنا , انها مثلت انجازا معجزا لذكاء الانسان وقدرته التخييلية على ابتكاره حاجات ورموز لغوية وآثار حضارية وغيرها هي اليوم موضع تثمين رائع في علوم الاناسة والفلسفة والتاريخ وغيرها.

  ان هذه المعطيات التي ادرجناها في اهمية الخيال المنتج أصبح من المتاح امامنا اليوم تعويض ما لم يدركه الخيال في مراحل سحيقة ,متاحا امامنا في ما ينتجه لنا الخيال الابداعي من معارف وآداب وفلسفة وفنون ,وكذلك الخيال العلمي في تقدم الحياة الإنسانية في كل ضروب العلم والمعرفة والحضارة .

كما ان عودة الفلسفة المعاصرة وحفريات المعرفة والاركيولوجيا ومدارس البنيوية والتفكيك الى مخلفّات الخيال الابداعي الاسطوري ودراسة تلك المراحل التاريخية القديمة اصبحت اليوم معتمدة في التنقيبات , في فتح آفاق معرفية وفلسفية وعلمية جديدة على جنبة كبيرة من الاهمية لم تكن علوم المعرفة على دراية بها سابقا.

الخيال واللغة : 

قبل دخول هذا الباب أود التنبيه الى مسألة معقّدة تهم مفهوم الخيال وعلاقته باللغة . فنحن نتوفر على اكثر من نوع من التعبير , وشكل ومحتوى يرتبط لغويا بشكل وآخر بالخيال الانساني ,كما اجد من المهم التنويه الى ان علوم اللغة أصبحت محورا مركزيا في الفلسفة المعاصرة وهذا يؤذن بفزع في معنى الكتابة والادب والفنون.

- عندنا اولا لغة التواصل الاجتماعي كلهجات وكلام تواصلي وتفاهم شفاهي , وكذلك لغة المخاطبة في الفصحى قراءة وكتابة في المتعارف عليه . وهنا تكون لغة الخيال اللغوي صادرة شعوريا عن وصاية ورقابة العقل على تنظيمها واعطاء تراتبية الشكل المنّظم للغة من حيث هي جنس معرفي متقدم, , وتماسك وتناغم المعنى اللغوي المراد توصيله تجريديا.

- لغة اللاشعورالابداعي التي تعتمد التداعيات الحلمية, كما في النتاجات الادبية والفنية أبرزها مدارس الفن التجريدي التشكيلي وفي الشعر ايضا كما في السريالية والدادائية والبرناسية والتكعيبية .

- لغة اللاشعور المرتبط بتعاطي المخدرات في محاولة  تخصيب  الخيال الابداعي لانتاج الفعاليات الادبية والفنية المستمدة من عوالم متخيلة غير مسبوقة .

- لغة اللاشعور المرتبط بهلاوس المرضى العصابيين والانفصاميين ومرضى التوّحد وهذاءات وغطرفة المجانين . وهنا تكون اللغة بمفهومها التواصلي, معطّلة التواصل مع الآخر , في غياب وتغييب التفكير الشعوري المتجانس عقليا في توجيه وتنظيم هذا النوع من التعبير اللغوي .

- لغة الشعور في الوجدانات الصامتة المعّبر عنها بحركات الجسد في الرقص والغناء والبالية واليوغا, والديانة البوذية ,وطقوس العبادات الدينية الوثنية ومسرحيات الشخص الواحد الصامتة وبعض الألعاب الحركية الايحائية .

- لغة اللاشعور عند الصوفية وسنأتي على تفصيلها لاحقا .

اذا جاز لنا اعتبار حركات الجسد في الرقص والغناء واليوغا,وفي الاديان الوثنية, لغة تواصل وجداني عاطفي مع الآخر في لغة صامتة لامنطوقة ولا مقروءة ولا مكتوبة, فهي لغة تواصلية صورية ،وعالم اللغات لوفيدج فتنجشتين  يعتبرهذا النوع من لغة الصمت المعبّر عنها بمرموزات حركية صادرة عن الجسد ، تكون اقدر على التواصل , وما نعجز التعبير عنه بالكلمات يكون التعبير عنه بالصمت كلغة .

وتعبيرات لغة الصمت المرتبطة بتشكيلات ايحائية او جمالية مصاحبة لفعالية الرقص او المسرح الانفرادي لشخص واحد او عدة اشخاص تقوم على صورية لغة التعبير الصامت،ورقص البالية ، وحركات اليوغا ،وعن ارتباط اللغة بحياة الانسان وملازمة وجوده كأرث ملازم ومكمل له يرى فنتشجتين انه ( لامعنى لأي لفظة لغوية الا في مجرى الحياة .) ويتابع بأن كل ما يقال يجب ان يقال بوضوح والا علينا ان نلوذ(بالصمت كمستودع نودع فيه ما نجهله).

هنا علينا توضيح التباس متوقع ونحن نعرض(الصمت) لغة توصيل في الفعاليات الراقصة والمسرحية وفي بعض الاديان القديمة,أن لغة الصمت التي عناها عالم اللغات,هي في عجز اللغة (المنطوقة والمكتوبة والمسموعة) ان تكون لغة افكار تعبيرية توصيلية,

وهذا الصمت يختلف عن(توظيف) الصمت في ايصال الفعاليات الوجدانية العاطفية التي تكون فيها الحركات التمثيلية والاشارات الايحائية(لغة) معّبرة معّدة وموضوعة سلفا في اهمية وقدرة حركة الجسد توصيل الفهم والمعنى المطلوب في تعطيل لغة التخاطب التقليدية المسموعة (صوتيا) واستبدالها بلغة الحركات الايحائية المطلوبة في تحفيز الذهن الاستقبالي على اليقظة والاستيعاب.

الصمت هنا في لغة الجسد الايحائية والحركات لا يمثل عجز اللغة المعتادة عن التوصيل,بل هو تعطيل مقصود ومتعمد لوظيفة اللغة من اجل بلوغ هدف التوصيل ايحائيا حركيا. ان الصمت في الفعاليات التمثيلية والمسرحية الصامتة, الذي يستبطن  عدم البوح بالمعنى , وتعطيل وظيفة اللغة سماعيا أنما يتم بأرادة مسبقة,وليس الصمت مكبوتا نتيجة عجز لغوي تعبيري قاصر عن بلوغ هدف التوصيل.كما هو الحال مع وظيفة اللغة الصوتية تقليديا.

  • اذن ما موقع الوعي والخيال من اللغة وكيف يتوسّلانها في الافصاح الوجداني والتعبيري !؟ 

هذا يقودنا الى تفريق أن الوعي الذهني يتعامل بأكثر من لغة ، يتعامل بها الخيال فهو يتعامل مع اللغة ادراكيا في اعتبار اللغة الشفاهية هي مرموزات ايحائية وتجريدية تحقق التواصل البشري واجتماعيتهم المطلوبة في تمشية امورهم ومتطلبات حياتهم .

 ويدخل ضمن هذه اللغة الحوار الشفاهي واللهجات المحلية ولغة تواصل الابداع الادبي والثقافي والفني والمعرفي والفلسفي ، وهذه اللغة التي يعّول عليها ادبيا وثقافيا واجتماعيا هي لغة منظمة ومتّسقة في تحقق وظيفة التلقي والاستقبال.

كذلك نجد لغة الادراك المعرفي العلمي في علوم الطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والهندسة والحاسوب ، هي مرموزات أشارية تتوسلها العلوم كمعادلات رياضية ذات خصوصية بنيوية مستقلة تماما . وهذا النوع  اللغوي من التعبير محكوم بوعي ادراكي عقلاني صارم لايقبل بغير الاستقلالية التامة وخضوع  اللغة لرقابة المنطق وصرامة الشعور بامتياز .

أجد من المفيد أن جيل ديلوز نقلا عن منصف الوهايبي صنّف الخطاب اللغوي الى ثلاثة انماط تعبيرية:

  • الخطاب الفلسفي معقودا على التوّسل بالمفهوم, 
  • فيما الخطاب الفني معقود على التوّسل بالادراك,
  • والخطاب الديني معقود على التوّسل بالانفعال والوجدان. 

وهذا الاخير يتداخل في تلقي الشعر وبعض الفنون القولية الاخرى.

الخيال والتصوف :

أهم انواع التعبير اللغوي التي يمتزج فيها الادراك العقلي مع اللاشعور المتسامي نحو المثال والحلول في الذات الالهية ، هي لغة الخيال التصوفي ، فالمتصوف او العرفاني ينطلق بحسب رأيي من منطلق أن أردأ انواع العاطفة والوجدان هو ما تستطيع اللغة التعبير عنه واستيعابه..والعواطف والوجدانات العميقة الّثرّة المتسامية تعجز اللغة التعبير عنها.

من هذا المنطلق يعتبر تعطيل فاعلية اللغة التواصلية مع الآخر قاصرة تماما في حال مرور المتصوف بتجربة الكشف الاستبطاني وحالة  التسامي الذي يّشل الحواس والادراك الواعي للعقل ،

اللغة التصوفية تأتي على شكل مرموزات وشطحات لغوية فكرية تخييلية منجذبة نحو التعالي على/ فوق الواقع الحسي والتعالي على العقل أيضا في محاولة خرق قوانين الطبيعة في الزمان والمكان.

لغة المتصوف غائبة تماما عن مجريات الحياة والمحيط والوجود الانساني الاجتماعي للآخر بجميع اشتمالاته المادية ، ما عدا الشحن الوجداني العاطفي اللاشعوري المرتبط بأمعان ورغبة التدرج في معارج الكشف نحو المثال المتسامي ونشدان الوصول الى مراتب متقدمة من الخالق والذات الالهية.

لغة التصوّف ترتبط بحالة اللاشعور في تغييب الوعي والحس المادي للواقع والمحيط ليلتقي بهذاءات المجانين الى حد ما مع فارق انه في بعض الحالات التصوفية كما هي عند ابن عربي والحلاج والنفري وابن الفارض وغيرهم، فهي تحمل مدلولات تواصلية فلسفية مع الآخر يتداخل الوعي الشعوري والادراكي بتسجيلها* .

في حين تكون مثل هذه الفعالية التواصلية بقدرات اللغة والتعبير معدومة تماما في هلوسة وهذيان المجنون ، وهذا ينطبق ايضا على الكثير من التجارب التصوفية غير الناضجة .
كلا التعبيرين اللغويين لغة التصوف وهذاءات المجانيين يتقاسمان صفة(لغة الخيال اللاشعوري غير المنتج ) في تغييب الوجود الواقعي العقلاني,وأعدام فرص التواصل بالآخر.

لغة التصوف تلغي الفاعلية الواقعية العقلانية في جانبين:
- تلغي فاعلية الوجدان المنتج – ماعدا استثناءات تجارب تصوفية ناضجة غير مبالغ بها ولا مفتعلة مجال اشتغالها التعبيري الشطحات التصوفية اللغوية على شكل ومضات حكمية واقوال ملغزّة وأبرزها في مجال قول الشعر الملغّز ايضا – وأعدام رقابة العقل على اللغة المنطوقة تصّوفيا,

يتجلى ذلك في عدم قدرة المتصوف ضبط تداعيات اللغة التعبيرية المنطوقة عنده, بمنطق لغوي نسقي منظّم يستطيع التواصل مع الآخر بعيدا عن شطحات التفكير وتداعيات اللاشعور في توصيل التجربة الذاتية من خلال امكانية المتلقي فك مرموزات اللغة الاشارية , بما يخدم تجربة المتصوف والمتلقي معا.

الجانب الثاني من الألغاء في لغة المتصّوف يتمثل في تخريب الاخصاب التخييلي المنتج,
في عجز التعبيراللغوي التصوفي , وفي اللقاء مع هذاءات المجنون وفي عجزهما المشترك أن يكون تعبيرهما اللغوي لغة تواصل يعّتد الأخذ بها ,فقط باستثناءات تجارب تصوفية متقدمة يمكن ان يكون التواصل التصوفي مع المجتمع متحققا فيها اشرنا لها سابقا.

يجمع المتصوفة في جميع الأديان ومختلف الأزمنة والعصور على ان التجربة الصوفية الحقيقية لا يمكن التعبير عنها لغويا, الا بعد الانتهاء من التجربة والعودة الى عالم الواقع وبرودة العقل وهدوء العاطفة.
                    



 اقرأ المزيد لـ علي محمد اليوسف


لإرسال مقالاتكم و مشاركاتكم
يرجى الضغط على كلمة  هنا


ليست هناك تعليقات