نظرية الجسم عند ابن تيمية ... بقلم :عبد الصمد الراغي
نظرية الجسم عند ابن تيمية
حتى نفهم معنى التجسيم عند ابن تيمية لا بد من معرفة معنى الجسم لغة واصطلاحاً، وما يلزم بعد ذلك من نسبة الجسم الى الله واعتبار القائلين بذلك مجسمة.
الجسم : هو كل جوهر مادي قابل للأبعاد الثلاثة وهي : الطول، والعرض، والعمق. ويتميز بالثقل والامتداد، ويقابل الروح [1]
ومن أدلة المنزهين، بل العمدة في ذلك قول الله جل وعلا :" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "، فمع وجود أدلة كثير تفيد التنزيه وتقتضيه، الا أن الآية المذكورة من الآيات المحكمات التي يسلم المؤتلف والمختلف على اعتبارها من الآيات المحكمات، والنفي المجمل هنا يفيد أن الله تعالى ليس كمثله شيء في ذاته أو أفعاله أو صفاته، وهذه الآية فيها من البلاغة ما فيها، وقد وقف علماء اللغة والتفسير عندها طويلاً، ولهم فيها أقوال كثيرة، فقد ذكر بعضهم أن ال"كاف" زائدة، والزيادة في الاعراب لا في كلام الله، وأشير الى أن الزيادة في الحرف لا في الاسم .
قال ابن منظور:"قوله عز وجل: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " تقديره والله أعلم. ليس مثله شيء، ولا بد من اعتقاد زيادة الكاف ليصح المعنى، لأنك إن لم تعتقد ذلك أثبتَّ له عز وجل مثلاً وزعمتَ أنه ليس كالذي هو مثله شيء فيفسد من وجهين:
أحدهما: ما فيه من إثبات المثل لمن لا مثل له عز وعلا علواً كبيراً.
و الآخر: أن الشيء إذا أثبت له مثلاً فهو مثله لأن الشيء إذا ماثله شيء فهو أيضاً مماثل لما ماثله، و لو كان ذلك كذلك – على فساد اعتقاد معتقده – لما جاز أن يقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لأنه تعالى مثل مثله…فهذا كله يؤكد عندك أن الكاف لابد أن تكون زائدة "[2]، ولا يضر الاختلاف في ذلك بين العلماء لأنه لا يتعلق بالتنزيه الذي اشتملت عليه الآية؛ إذ يقول محمد عبد الله دراز :" القرآن الكريم يستثمر دائماً برفق أقل ما يمكن من اللفظ في توليد أكثر ما يمكن من المعاني..فليس فيه كلمة إلا وهي مفتاح لفائدة جليلة وليس فيه حرف إلا جاء لمعنى…ودع قول الذي
يستخف كلمة التأكيد فيرمي بها في كل موطئ يظن فيها الزيادة. لا يبالي أن تكون الزيادة فيها معنى المزيد عليه فتصلح لتأكيده أو لا تكون، ولا يبالي أن يكون بالموضع حاجة إلى هذا التأكيد أو لاحاجة له به…فإن تأكيد المماثلة في الآية ليس مقصوداً البتة. وتأكيد النفي بحرف يدل على التشبيه هو من الإحالة بمكان. ولو رجعت إلى نفسك قليلاً لرأيت هذا الحرف في موقعه محتفظاً بقوة دلالته قائماً بقسط جليل من المعنى المقصود في جملته، وأنه لو سقط منها لسقطت معه دعامةُ المعنى أو لتهدم ركن من أركانه" [3].
إن تشعب أقوال الفقهاء وعلماء اللغة ومذاهبهم في القول بزيادة الكاف او نفي الزيادة عنها أو عن "مثل" ، لا يتطرق بحال من الأحوال الى نفي التجسيم الذي اشارت اليه الآية الكريمة، بل تعتبر هذه الآية باباً مغلقاً لا يستطيع المجسمة اقتحامه، ولا الوقوف أمامه.
لا شك أن المثلية في الأشياء لا تكون الا بالذوات، أما الأعراض فهي ليست من لوازم الذات؛ إذ نقول عن شيء بأنه أبيض وكبير مثلاً، الا أن ماهيته لا تتغير بزوال تلك الصفات، فقد يفقد الانسان صفة البياض مثلاً بسبب تعرضه للشمس فترة طويله، ولكنه يبقى انساناً مع زوال صفة البياض، وكذلك قد يكون كبير الجسم فيمرض ويفقد صفة ال" كبير" ولكنه يبقى إنساناً، وقد لا يكون ابيضاً من البداية، فالأسود إنسان، والصغير مقابل الكبير أيضاً انسان، فكان الاعتبار للذات وليس للصفات ابتداءً، ولا ينفي ذلك أن بعض الذوات لها صفات ملازمة لها، وسيأتي تفصيل ذلك في مكانه.
بذلك يكون النفي الذي اشتملت عليه الآية الكريمة" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " هو في أساسه نفي لمماثلة الذات ابتداءً، فلو كانت هناك ذات تشبه ذات الله لما كان لنفي المماثلة معنى، وبما أن القول بالجسمية أو الجسم في حق الله تعالى يفضي الى أن يكون هناك ممائلة بين شيء وبين الله من جهة ما؛ فإن الجسمية ممتنعة في حق الله تعالى.
وابن تيمية يقول في هذا المقام :" وفي الجملة فالكلام في التمثيل والتشيبيه ونفيه عن الله مقام والكلام في التجسيم ونفيه عن الله مقام آخر. فإن الأول -يعني التمثيل والتشبيه- دل على نفيه الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة…وأيضا فنفي ذلك معروف بالدلائل العقلية التي لا تقبل النقيض..وأما الكلام في الجسم و الجوهر ونفيهما واثباتهما فبدعة ليس لها أصل في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك نفياً وإثباتاً " [4].
إن التفريق الذي قال به ابن تيمية بين التمثيل والتشبيه وبين التجسيم لا أساس له، فالكتاب والسنة نفت التشبيه، ومن لوازم هذا النفي نفي التجسيم؛إذ لا معنى لنفي المثل اذا اتحد المشَّبهُ والمشبه به في الجسم.
أما الزعم بأنه لم يقل أحد بنفي الجسم من الإئمة فيرده قول شيخ الحنابلة أبو الفضل التميمي في كتابه " اعتقاد الإمام المبجل ابن حنبل" : "… وأنكر على من يقول بالجسم. وقال إن الأسماء مأخوذة بالشريعة واللغة. وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على كل ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف والله تعالى خارج عن ذلك كله فلم يجز أن يسمى جسماً لخروجه عن معنى الجسمية. ولم يجئ في الشريعة فبطل ذلك "[5].
وهذا الكلام المجمل المنقول عن الأمام أحمد لا يختلف عن التفصيل الذي أورده علماء الذرة في فهم الجسم، والذي قال به المتكلمون من علماء االمسلمين من أن الأجسام متجانسة في تركيبها؛ إذ يقول العلم عن ذلك: " بذلت الانسانية طوال عصور عديدة جهوداً مضنية للكشف عن اللبنة الأولية التي تشكل مختلف أنواع المادة التي يتألف منها الكون ولا تزال هذه الجهود تشكل الشغل الشاغل الأساس لعلماء الفيزياء المعاصرين. ونستطيع القول بشكل عام أن جميع المواد تتكون من ذرات لها نفس الماهية فالجسيمات التي تؤلف ذرة مادة معينة هي نفس الجسيمات التي تؤلف ذرات المواد الأخرى، كل ما في الأمر أن هذه الجسيمات تتحد بنسب مختلفة فتكون ذرات المواد الأساسية، ومن اتحاد هذه الذرات بأشكال مختلفة تتكون المواد الأكثر تعقيداً "العناصر"[6].
فالكون كله يتشكل من نفس العناصر:" وبتحليل الطيف الشمسي أمكن معرفة العناصر التي تتكون منها الشمس فوجد أنها تتكون من نفس العناصر التي تتكون منها الأرض" [7].
اعتراض ابن تيمية يمكن اجماله في وإن كان أشار اليه في مواقع كثير أخرى، فهو لا يخرج عما قاله هنا:
" إذا قالوا الموصوفات تتماثل والأجسام تتماثل وأرادوا أن يستدلوا بقوله تعالى: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " على نفي مسمى هذه الأمور التي سموها بهذه الأسماء في اصطلاحهم الحادث كان هذا افتراءً على لغة القرآن فإن هذا ليس هو المثل في لغة العرب ولا غيرها. قال تعالى: " وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ {47/38} " فنفى مماثلة هؤلاء مع اتفاقهم في الانسانية فكيف يقال إن لغة العرب توجب أن كل مشار إليه مثلٌ لكل ما يشار إليه. وقال تعالى: " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ {89/6} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ {89/7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ {89/8} " فأخبر أنه لم يخلق مثلها في البلاد، فكيف يقال إن كل جسم فهو مثل لكل جسم في لغة العرب حتى يحمل على ذلك قوله " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " وقال أيضا:" ..ومنشأ الغلط من الاشتباه والاشتراك في لفظ الجسم ولفظ المثل، فيقال الجسم في لغة العرب هو البدن وهو عندكم ما يمكن الإشارة إليه فالهواء والماء والنار ونحو ذلك ليس جسماً في لغة العرب و هو في اصطلاحكم جسم، وإذا كان الجسم في لغة العرب أخص منه في عرفكم، و قد علم بصريح العقل أن الذهب ليس مثل الفضة ولا الخبز مثل التراب ولا الدم كالذهب فما يسمى في لغة العرب جسماً وجسداً ونحو ذلك هو مما يعلم أنه ليس متماثلاً بصريح العقل والحس، فكيف بما هو أعم من ذلك؟ مثل كونه يشار إليه أو كونه يقبل الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق.. ثم يقولون مع هذا إن كل ما وصف بهذه المعاني العامة فإنه يجب أن يكون متماثلاً مستوياً في الحد والقدر، فهذا القول من أبعد الأقوال عن المعقول الذي يعرفه الناس بحسهم وعقلهم.
ثم بتقدير أن يكون كذلك، فلا يتمارى عاقلان أن لفظ المثل في لغة العرب وسائر الأمم ليس المراد به هذا. وأنه إذا قيل إن كذا مثل كذا أو ليس مثله أو ليس له مثل فإنه ليس المفهوم من المثل كون هذا بحيث يشار إليه أو كون كل منهما له قدر أو له طول وعرض وعمق لا بالمعنى اللغوي ولا بما هو أقرب إليه فضلاً عن اصطلاحهم.
ونحن نعلم بالضرورة من لغة العرب أنهم لا يقولون الجبل مثل النار ولا الهواء مثل الماء.. مع اشتراكهما في كثير من الصفات الزائدة على مطلق المقدار، بل قد نفي في القرآن كون الشيء مثلَ غيره مع كون كل منهما جسماً" [8].
وهذا في الحقيقة كلام باهت، فإن العرب تطلق المثل في الصفة إذا ذكرتها فنقول التفاح أحمر كالدم، أي ان المثلية فقط فيما اطلق من الصفة المشتركة بين المثلين، أما إذا قلنا زيد مثل عمرو فإن المقصود هو المثلية في الماهية وهي أخص الخصوصيات كالإنسانية، وإلا فلا يشترط عند قولنا زيد كعمر أن الصفات الجسمانية كالطول والعرض واليدين والقدمين ...الخ متمائلة، ومع ذلك قلنا زيد مثل عمرو، وهذا مفهوم في لغة العرب، فقول الله جل جلاله :" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " نفي لكل تمائل أو تشابه مع الأشياء، وجوهرها الجسمية، فتكون الآية نافية عن الله "الجسم" لانه من أخص خصائص الأشياء.
أما استشهاده بقول الله تعالى:" وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ {47/38} " ليدلل على أن التشابه في الصفة لا علاقة له بالجسم، فهو تلبيس لا يليق بابن تيمية؛ إذ يأتي التمثيل مطلقاً ويقصد به ما بينّاه في الفقرة السابقة، وياتي مقيداً بصفة ولو لم تذكر، الا أن السياق يدل عليها، قال تعالى:" مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"{62/5}، فالتشابه بين الحمار وبينهم ليس تشابهاً مطلقاً وإنما مقيد بعدم الاستفادة من الكتاب، وهم في ذلك مثل الحمار الذي يحمل مكتبة على ظهره سواء.
أما استشهاده بقوله تعالى:" الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ" للتأكيد على أن المثلية لا تكون في الماهية والجسمية، فلا يصلح دليلاً؛ لأن سياق الآية يدل على أنها جاءت للتمثيل المقيد بصفة وهي القوة والبأس، قال تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ {89/6} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ {89/7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ {89/8} " ، وبذلك يكون النفي المطلق في المماثلة، الذي اشتمل عليه قوله تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " على اطلاقه ما لم تأت قرينة تصرفه الى المماثلة بالصفة، ولا توجد قرينة شرعية أو عقلية أو عرفية تدل على ذلك، بل القرينة الشرعية المؤيدة هي قوله تعالى:" وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ "، ولو كان جسماً لأصبح من الأشياء ما هو كفوا له، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا0
ومن أدلة التنزيه قول الله تعالى:" رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا {19/65}"، إذ السمي في لغة لعرب هو المثيل، فكان المعنى هل تعلم له مثيلاً، جاء في تفسير البيضاوي :
" هل تعلم له سميا" مثلاً يستحق أن يسمى إلهاً أو أحداً سمي الله فإن المشركين وإن سموا الصنم إلهاً لم يسموه الله قط ، وذلك لظهور أحديته تعالى ، وتعالى ذاته عن المماثلة بحيث لم يقبل اللبس والمكابرة ، وهو تقرير للأمر أي إذا صح أن لا أحد مثله ولا يستحق العبادة غيره لم يكن بد من التسليم لأمره والاشتغال بعبادته والاصطبار على مشاقها"[9].
وجاء في التفسير الوسيط عند تفسير نفس الآية:" والاستفهام فى قوله : " هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً " للإنكار والنفى . والسمى بمعنى المسامى والمضاهى والنظير والشبيه، أي : هل تعلم له نظيرا أو شبيهاً يستحق معه المشاركة فى العبادة أو الطاعة؟ كلا ، إنك لا تعلم ذلك ، لأنه - سبحانه - هو وحده المستحق للعبادة والطاعة ، إذ هو الخالق لكل شىء والعليم بكل شىء ، والقادر على كل شىء ، وما سواه إنما هو مخلوق له ، وساجد له طوعاً أو كرهاً ، ولا شبهة فى صفة من صفاته ، فهو - سبحانه – " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير ".
وجاء في روح المعاني:"هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً" أي مثلا كما جاء في رواية جماعة عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة : وأصله الشريك في الاسم ، وإطلاقه على ذلك لأن الشركة في الاسم تقتضي المماثلة .
كذلك فإن سورة الإخلاص " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {112/1} اللَّهُ الصَّمَدُ {112/2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {112/3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ {112/4}" تشتمل على نفي الجسمية عن الله جل جلاله، بل فيها من الدلالات والإشارات ما لا ينكره الا معاند، ففي قوله تعالى :" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " ما يدل على أن الواحد المقصود هنا ليس واحداً عددياً بل واحد أحدي، فالواحد العددي لا يمتنع اضافة آخر اليه ليصبح اثنان، والإثنان أكبر من الواحد، أما الواحد الأحدي فهو منزه عن التعدد او الانقسام، لذلك جاءت الآيات التي يراد منها الاشارة الى احدية الله بوصفه "أحد" .
أما ابن تيمية فهو لا يرى الموجودات، الا جسماً او قائماً بجسم حيث يقول :
" العقلاء من أهل الإثبات والنفي اتفقوا على أن الوهم والخيال لا يتصور موجودا إلا متحيزا أو قائما وهو الجسم وصفاته ثم المثبتة قالوا وهذا حق معلوم أيضا بالأدلة العقلية والشرعية بل بالضرورة وقالت النفاة إنه قد يعلم بنوع من دقيق النظر أن هذا باطل فالفريقان اتفقوا على أن الوهم والخيال يقبل قول المثبتة الذين ذكرت أنهم يصفونه بالأجزاء والأبعاض وتسميهم المجسمة فهو يقبل مذهبهم لا نقيضه في الذات " [10]
معنى ذلك أن ابن تيمية لا يتصور عقله القاصر موجوداً الا أن يكون جسماً، واثبات الجسمية معناه اثبات لوازمها، من الحد والجهة والحركة ...الى آخر صفات الاجسام، وما دام الله موجوداً فهو جسم له لوازم الجسمية.
ولذلك مثلاً يثبت الفوقية الحقيقية التي لا تطلق الا على الجسم فيقول:
" والباري سبحانه وتعالى فوق العالم فوقية حقيقية ليست فوقية الرتبة كما أن التقدم على الشيء قد يقال إنه بمجرد الرتبة كما يكون بالمكان مثل تقدم العالم على الجاهل وتقدم الإمام على المأموم فتقدم الله على العالم ليس بمجرد ذلك بل هو قبله حقيقة فكذلك العلو على العالم قد يقال إنه يكون بمجرد الرتبة كما يقال العالم فوق الجاهل وعلو الله على العالم ليس بمجرد ذلك بل هو عالٍ عليه علوا حقيقيا وهو العلو المعروف والتقدم المعروف" [11].
وهذا المنطق السقيم عند ابن تيمية مردّه الى الخلل في طريقة التفكير ، فهو يعتبر أن دور العقل هو قياس الغائب(الله) على الشاهد (المحسوس) فهو يقول:
" ومن المعلوم أن العلم له طرق ومدارك وقوى باطنة وظاهرة في الإنسان فإنه يحس الأشياء ويشهدها ثم يتخيلها ويتوهمها ويضبطها بعقله ويقيس ما غاب على ما شهد " [12]، فالعقل عنده هو ضبط للخيالات والتوهمات، ويجعل معرفة الله في دائرة هذه الخيالات والتوهمات، ومع اعترافه أن ذلك كله قد يوصل الى العلم وقد يوصل الى الظن، الا أنه يصر على منهجه الأعوج فيقول:
" والذي يناله الإنسان بهذه الأسباب قد يكون علما وقد يكون ظنا لا يعلمه وما يقوله ويعتقده ويحسه ويتخيله قد يكون حقا وقد يكون باطلا فالله سبحانه وتعالى لم يفرق بين إدراك وإدراك ولا بين سبب وسبب ولا بين القوى الباطنة والظاهرة فجعل بعض ذلك مقبولا وبعضه مردودا بل جعل المردود هو قول غير الحق والقول بلا علم مطلقا، فلو كان بعض أجناس الإدراك وطرقه باطلا مطلقا في حق الله تعالى أو كان حكمه غير مقبول كان رد ذلك مطلقا واجبا والمنع من قبوله مطلقا متعينا إن لم يعلم بجهة أخرى"[13]. وهذا كلام خطير جداً فهو فوق اعتبار منهجه مما قد يوصل الى الباطل الا أنه يعتبره سائغاً لأن الشرع لم ينهَ عنه، ولو كان غير جائز لنهى الله عنه ومنعه.
ومن هنا يعلم السبب الذي دعا ابن تيمية لتبني فكر المجسمة، فهو لا يستطيع أن يعرف الله الا من خلال الأجسام المحسوسة، فقاس الغائب على الشاهد، وبطلان ذلك معلوم عند أهل الحق، فالتشبيه يأتي احيانا بالمعاني، ولا يأتي في الأمور التفصيلية، وهذا معلوم في المحسوسات والمخلوقات، فكيف اذا كان الأمر متعلقاً بالله تعالى الذي وصف نفسه بأنه " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "، فكيف يقاس ويتوهم معرفة من لا شيء مثله على الاشياء المحسوسة التي لها مثل، فنجعل الغائب كالشاهد.
ولكنه يدافع عن هذا المنهج في تحصيل المعرفة، فيزعم أن حكم الوهم والخيال هو الأصل الغالب على الآدميين، وأن هذا الأصل لو لم يكن مقبولاً وجائزا لجاء الشرع بمنعه، والسوال الذي يتجه الى ابن تيمية ومن يقول بقوله: متى أباح الشرع ذلك حتى تجعل هذا حجة ومنهجاً في التفكير ؟ ، فقد ورد في نفس الصفحة من تلبيس الجهمية ما نصه:
" يؤكد ذلك أن حكم الوهم والخيال غالب على الآدميين في الأمور الإلهية بل وغيرها فلو كان ذلك كله باطلا لكان نفي ذلك من أعظم الواجبات في الشريعة ولكان أدنى الأحوال أن يقول الشارع من جنس ما يقوله بعض النفاة ما تخيلته فالله بخلافه لا سيما مع كثرة ما ذكره لهم من الصفات".
فهل معظم الناس يتخيلون الله ويبنون معرفتهم بالله على اساس الخيال والوهم، أم أن الأمة واهل العلم يستندون الى النظر والتدبر في كتاب الله فيترفعوا عن الوهم والخيال في حق الله، سيما وهم يقرأون قوله تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ".
ثم يستمر في التجذيف باتجاه اثبات الجسمية ويعتبر ان ذلك مما يترجح في الشريعة وإن لم يقل به صراحة في تلبيس الجهمية ، فقد قال ما نصه:
" فإن قيل فما تقول في صفة الجسمية، هل هي من الصفات التي صرح الشرع بنفيها عن الخالق أو هي من الصفات المسكوت عنها فنقول إنه من البين من أمر الشرع أنها من الصفات المسكوت عنها وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها وذلك أن الشرع قد صرح بالوجه واليدين في غير ما آية من الكتاب العزيز وهذه الآيات قد توهم أن الجسمية هي له من الصفات التي فضل فيها الخالق المخلوق كما فضله في صفة القدرة والإرادة وغير ذاك من الصفات التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق إلا أنها في الخالق أتم وجودا ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقدوا في الخالق أنه جسم لا يشبه سائر الأجسام وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن تبعهم والواجب عندي في هذه الصفة أن يجري فيها على منهاج الشرع فلا يصرح فيها بنفي ولا إثبات ويجاب من سأل عن ذلك من الجمهور بقوله تعالى :" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {42/11}"[14].
هذا الكلام وإن نقله عن ابن رشد الا أنه يدل صراحة على الايمان بالجسمية، بل هو ما يدعو اليه ابن تيمية وهو ما يؤمن به، فما دام الشرع جاء بصيغ تدل على اثباتها اكثر مما تدل على نفيها؛ فاثباتها هو التزام بما مالت النصوص الى اثباته، وهو يرى أن كثيراً من أهل الاسلام يعتقدون أن الله جسم ولكنه ليس كالأجسام، وهذا هروب من الاعتراف صراحة بالتجسيم، وإلا فما معنى أن يكون جسماً صراحة ثم يُشَوشُ ذلك السامع بأنه لا يشبه سائر الأجسام. وأما رأيه الذي ختم به فلا يغير ولا يبدل مما اراد اظهاره وهو الايمان بأن الله جسم.
ويكفي النقل التالي والتعليق عليه ليتضح منهج ابن تيمية في التجسيم وتهافت هذا المنهج عقلاً ونقلاً، يقول ابن تيمية في تلبيس الجهمية :
" أما في النفي فنفيتم عن الله تعالى أشياء لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا إمام من أئمة المسلمين بل والعقل لا يقضي بذلك عند التحقيق وقلتم إن العقل نفاها فخالفتم الشريعة بالبدعة والمناقضة المعنوية وخالفتم العقول الصريحة وقلتم ليس هو بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا يشار إليه بحس ولا يتميز منه شئ عن شئ وعبرتم عن ذلك بأنه تعالى ليس بمنقسم ولا مركب وأنه لا حد له ولا غاية تريدون بذلك انه يمتنع عليه أن يكون له حد وقدر أو يكون له قدر لا يتناهى و أمثال ذلك ومعلوم أن الوصف بالنفي كالوصف بالإثبات فكيف ساغ لكم هذا النفي بلا كتاب ولا سنة مع اتفاق السلف على ذم من ابتدع ذلك وتسميتهم إياهم جهمية وذمهم لأهل هذا الكلام" . [15]
واضح من هذا النقل ان ابن تيمية يعيب على من نفى عن الله اشياء لم ينطق بها الكتاب والسنة ولا إمام من أئمة المسلمين ولا يقضي بها العقل، فالأدلة النقلية والعقلية لم تنطق بهذا النفي،وهذا في الحقيقة تلبيس؛ إذ يجب التمييز بين ما نطقت به النصوص وما تقتضيه العقول، فقد لا يرد نص في الكتاب والسنة ولكن العقل ينطق به قاطعاً، ولذلك نستنكر عليه في مجال النصوص النقلية من الكتاب والسنة فنقول: وهل نطقت هذه الأدلة بأن الله تعالى يأكل ويتغوط، ومع ذلك لا ينكر مسلم أن هذه الصفات منفية عن الله لأنها من مقتضيات ولوازم الحكم على الله ووصفه بما وصف نفسه" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "، فما دامت المخلوقات تأكل وتتغوط فلا يصح وفق العقل السليم ووفق " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " أن يتصف بصفات الاشياء لأن النفي المجمل في قوله تعالى " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " يقتضي ذلك، وهذا كله إذا فهمه عقل سليم، أما الفكر السقيم فيناطح الصخر ويقول هذا النفي لم يأت به كتاب ولا سنة ولا قال به اعلام العلماء، وهذا جهل من ابن تيمية وانتقاص من شأن من خالفه من علماء الأئمة الاعلام، وهم الغالبية العظمى من علماء الأمة الذين ينفون هذه الصفات عن الله مستندين الى النفي المجمل والتفصيلي في كتاب الله وسنة نبيه من قبيل قوله تعالى" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " وقوله" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {112/1} اللَّهُ الصَّمَدُ {112/2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {112/3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ {112/4}" وقوله" هل تعلم له سمياً " وغير ذلك كثير بدلالة الاشارة او الاقتضاء.
بل العجيب ان يجعل ابن تيمية نفي الجهة والجسم والحيز بدعة في دين الله، ومخالفة للشريعة وللعقول، فأين نطقت الشريعة بالجسمية والتحيز والحد والجهة لله تعالى، فيكون ابن تيمية هنا قد التزم بما نهى خصمه عنه، فلِمَ ينكر قولاً لم يأت الشرع به. أما مخالفة النفاة للعقل فغير مسلم به؛ لأن العقل يقضي ان المخلوقات التي عرفناها هي المتصفة بالجسمية والحيز والجهة والحد، فنفى العقل أن يكون الخالق متصفاً بهذه الصفات.
والحقيقة أن هذا ليس قول ابن تيمية وحده بل قول بعض المتمسحين بمذهب الامام أحمد، الذين استغلوا منزلتة عند الأمة بعد فتنة خلق القران، وقد تصدى لهم أحد اعلام الحنابلة وهو ابن الجوزي في كتابه دفع شبه التشبيه فقال :
" ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة، ابو عبد الله بن حامد، وصاحبه القاضي، وابن الزاغوني، فصنفوا كتباً شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا الى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس . فسمعوا ان الله تعالى خلق آدم على صورته، فاثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وعينين وفماً ولهوات وأضراس وجهة هي السبحات ويدين وأصابع وكفاً وخصراً وابهاماً وصدراً وفخداً وساقين ورجلين وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس ، وقالوا: يجوز ان يمس ويمس ويدني العبد من ذاته، وقال بعضهم ويتنفس.
وقد اخذوا بالظاهر في الاسماء والصفات ، فسموها بالصفات تسمية مبتدعة، لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ، ولم يلتفتوا الى النصوص الصارفة عن الظواهر الى المعاني الواجبة لله تعالى ولا الى الغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث، ولم يقنعوا ان يقولوا صفة فعل ، حتى قالوا صفة ذات، ثم لما أثبتوا أنها صفات قالوا : لا نحملها على توجيه اللغة، مثل يد على نعمة وقدرة، ومجيء وإتيان على معنى بر ولطف، وساق على شدّة، بل قالوا: نحملها على ظواهرها ، والظاهر المعهود من نعوت الآدميين ، والشيء يحمل على حقيقته اذا أمكن، وهم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته اليهم ويقولون: نحن أهل السنة، وكلاً منهم صريح في التشبيه وقد تبعهم خلق من العوام" [16].
نعم، هذه هي الحقيقة، فكر التجسيم ليس ملازماً لمذهب الامام احمد، وإنما انتحلته شرذمة من المنتسبين اليه ليسوقوه عند العوام.
[1] راجع (كشاف اصطلاحات الفنون) للتهانوي: 2/256-257. و(التعريفات) للجرجاني: ص 79. و(المعجم الفلسفي) مجمع اللغة العربية: رقم(376)، ص 61. و(المعجم الفلسفي) لجميل صليبا: 1/402-403
[2] لسان العرب 9/311
[3] النبأ العظيم 123. وانظر مناهل العرفان للزرقاني 2/336
[4] درء تعارض العقل مع النقل 4/145 –146 و انظر نحوه في بيان تلبيس الجهيمة 1/100
[5] 1/289
[6] انظر الدكتور اوميد شمشكك أسرار الذرة 147.
[7] انظر شهادة الكون، لعبد الودود رشيد محمد، 102
[8] انظر تلبيس الجهمية 1/355
[9] انظر تفسير البيضاوي، سورة مريم، آيه 65
[10] انظر تلبيس الجهمية ص 54
[11] تلبيس الجهمية ص 62
[12] تلبيس الجهمية ص 76
[13] تلبيس الجهمية ص 76
[14] ص 12
[15] تلبيس الجهمية ص 361 من سخة وورد
[16] انظر دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه للحافظ ابو الفرج ابن الجوزي ص 3
ليست هناك تعليقات