« مجلة منبر الفكر» - عبد الحليم قنديل
لا جدال في حقيقة كسب إيران لمناطق نفوذ متسعة على حساب العرب، وغلبة أثر طهران على عواصم العراق وسوريا ولبنان واليمن، وامتداد حدود إيران استراتيجيا من شواطئ الخليج إلى سواحل البحرين الأبيض والأحمر.
والمفارقة الظاهرة، أن إيران لم تكسب كل هذا النفوذ بمجهودها الذاتي فقط، بل كسبته أساسا بعمل آخرين، خاصة الذين ينطلقون في العداوة لإيران من منظور ديني طائفي، يدعي الدفاع عن أهل السنة والجماعة، ويكره الشيعة ويكفرهم، ولا مانع عنده من استحلال دمائهم ومساجدهم وحسينياتهم وحياتهم، باعتبارهم كفارا، خرجوا عن الملة، وهو ما يصل إلى ذروته في جماعات التطرف الأعمى المنسوبة للسنة، التي تسمي نفسها بالسلفية الجهادية، وعلى طريقة «القاعدة» و»داعش» وأخواتهما، وهؤلاء يقدمون أفضل خدمة مجانية متصلة لإيران، فهم يسيئون للإسلام السني، وهو الغالب في المنطقة العربية بامتياز، كما في الدنيا كلها، وبمذاهب فقهية تاريخية متفتحة، كالشافعية والمالكية والحنفية، بل يسيئون أيضا لأتباع المذهب الحنبلي، قبل أن تظهر طبعاته السلفية الأحدث، الموغلة في التشدد البدائي وخلع العقل وعبادة النقل، التي كونت تنظيمات الخوارج المعاصرين، وتستحل دماء المخالفين في الدين والمختلفين في المذهب، بل المختلفين في الفهم من السنة أنفسهم، وتقدم نفسها كأنها تحمل راية التدين الحرفي، وتسعى لاستعادة خلافة لم يرد بها نص ديني ملزم، بل كانت مجرد ممارسة دنيوية مرتبطة بظروف زمانها، وهو ما يؤدي سياسيا وحياتيا إلى وضع خطير، يوضع فيه «الشيعة العرب» بالجملة في سلة إيران، ويصبحون وقودا جاهزا لحروبها، وتحت عباءات مفتعلة القداسة، تدعي الثأر لمقتل الإمام الحسين وسبي السيدة زينب.
الدعم و التمويل
والأخطر، أن جماعات التطرف باسم السنة، حصلت على دعم بعشرات المليارات من الدولارات، وجرى استخدامها بمعية أجهزة مخابرات إقليمية ودولية، بينها مخابرات إيران، وقتلت من السنة أضعاف أضعاف ما قتلت من غيرهم، وصارت عنوانا لدمار ذاتي شامل، يحارب العروبة، ويصورها كنوع من الكفر البواح، وهو ما دعم موضوعيا خطط إيران، التي تستند أساسا إلى دعوى الدفاع عن المذهب الشيعي، وتعتمد سياسيا على إشاعة الخوف في أوساط الشيعة العرب، ودفعهم إلى أحضان طهران، وجعلهم جنودا وجيوشا إضافية، يكون ولاؤها الخالص للولي الفقيه في طهران، خاصة أن المذهب الشيعي هو القاعدة الصلبة للحكم في إيران، التي يتكون نسيجها من قوميات متعددة، ولا يشكل الفرس فيها سوى 35% من السكان، بينما الشيعة في كل قوميات إيران هم الغالبية الساحقة، وهو ما يجعل «التشيع» ضمانا للحد اللازم من التجانس في الخليط الإيراني، وقومية إيرانية خاصة جدا، يضيف إليها التطرف المتنكر لأولوية القومية العربية والإسلام الجامع مددا جديدا، ويهدي إيران ولاء مضافا من ملايين الشيعة العرب، تعود إيران لتستخدمهم في تفكيك المجتمعات العربية المجاورة، وتشكل منها فيالق وميليشيات تخوض الحروب عنها، وإلى آخر قطرة دم عربي.
الحروب الطائفية تخدم قوى الاستعمار الأجنبي
نعم، تخدم الحروب الطائفية قوى الاستعمار الأجنبي، وتخدم كيان الاغتصاب الإسرائيلي طبعا، تكفل له الأمن، ومتعة «الفرجة» على قتل العرب للعرب، لكن الحروب الطائفية تخدم إيران مع وقبل كل هؤلاء، وقد ظهر ذلك جليا في العقود الأخيرة، وبالذات بعد غزو أمريكا للعراق، الذي شاركت عواصم عربية كثيرة في دعمه، وبما أخلى العراق، وحطم مكانة الدولة فيه، وانتهى إلى فراغ مجاور لإيران، ملأته طهران بضم الشيعة العراقيين العرب إلى حوزتها، وتجنيدهم في حروب النفوذ، والاستفادة من انتشار جماعات التطرف المنسوب للسنة، وخوض معارك غير متكافئة معها، أدت إلى تفريغ جنوب العراق ووسطه حتى بغداد من السنة، وتفكيك الترابط الاجتماعي في النسيج العراقي، وهى القصة ذاتها التي سبقت إليها طهران في لبنان، ثم في سوريا واليمن من سنوات، فالنزوع الطائفي لا يخدم أحدا أكثر من إيران، والعروبة الجامعة وحدها هي التي تردع إيران، وتقيم معها جوارا متكافئا، وتسترد الشيعة العرب لأوطانهم، مع القضاء على داء التكفير العبثي المهلك، واستعادة «العروة الوثقى» بين القومية العربية وصحيح الإسلام، والتركيز على كسب حقوق المواطنة المتساوية للجميع، وبغير تمييز على أساس الدين أو المذهب أو العرق.
وقد لا يصح لأحد أن يبرئ إيران من جرائمها، لكن جرائمنا في حق أنفسنا أفظع، وحروب جماعات التطرف الطائفي ـ سنية وشيعية ـ تصب موضوعيا في خدمة إيران.
تجديد وتبديد:
أخشى أن تتحول قضية تجديد الخطاب الديني في مصر إلى تجارة بكل معنى الكلمة، وعلى طريقة ندوات ومؤتمرات تدعو لها وزارة الأوقاف، أو تبادر إليها مشيخة الأزهر، يشارك فيها المشايخ المحظوظون، وتحجز لها الفنادق والقاعات الفاخرة، وتفتح لها الخزائن، وتمد موائد الطعام والشراب، وتقدم فيها أوراق الاجترار «لزوم الصنعة»، تظهر بعدها في كتب مطبوعة لا تجد من يشتريها، ثم ينتهى كل شيء إلى لا شيء، تماما كما مؤتمرات «التنمية البشرية» و»الإصلاح الإداري» إن كنتم تذكرونها، ودورات تأهيل الموظفين والمعلمين، التي أنفقت عليها المليارات من منح أجنبية غالبا، وبدت كأنها «قصعة الفتة»، تكالب عليها المحترفون في نهم وتلذذ، ثم ضاع الأثر في الحوافز والبدلات والبطون، ولم يجر إصلاح ولا تأهيل ولا يحزنون، وظل الفساد والخراب يحكم ويعظ.
ولا قيمة لمناقشات تدور في فراغ اجتماعي، أو دون احتياج وأولويات تفرض نفسها، ولا فرق هنا بين مناقشات إدارية واقتصادية ومناقشات دينية، فليس المطلوب خلق أجواء من الضجيج الفارغ، أو الإيحاء بأداء واجبات وهمية، وفي مصر الرسمية الآن، ثمة إلحاح رئاسي على تجديد الخطاب الديني، ثم دورات لوم من الرئيس للمشايخ، واستجابات لا تتعدى المزيد من الإنفاق السفهي والكلام الميت، والسباق اللاهث بين الأوقاف والأزهر على كعكة نيل الرضا، وهذه طريقة لن تنتهي إلى شيء يذكر، بل إلى تبديد لا تجديد، لا يتعظ بدروس ما جرى عبر أربعين سنة مضت من الانحطاط التاريخي، فكما جرى النكوص عن النهوض والتصنيع واقتصاد الإنتاج، وتجريف نظام العدالة الاجتماعية، وفتح الأبواب للنهب والتهليب وشفط الثروة العامة، وتحصين الفساد وتدهور القيم، فقد جرى مثله بالضبط في ساحة الخطاب الديني، وليس المقصود ـ بالطبع ـ الدين في ذاته، فهو محفوظ بعناية الله، لكن المقصود هو الفقه والتفسيرات الدينية الرائجة، وقد ساد الانحطاط فيها، كما الانحطاط في السياسة والاقتصاد والثقافة، وبدت التفسيرات مظهرية قشرية تجارية، تنزع عن الدين جوهر العدالة فيه، وتتواطأ مع الفساد المسيطر، وعلى طريقة فتوى جواز «الإكرامية» التي صدرت عن مفت سابق، أو فتوى جواز طرد الفلاحين المستأجرين التي صدرت عن شيخ الأزهر نفسه، وفتاوى الجلباب واللحى والنقاب وكراهة الأقباط وتكفير الشيعة، التي جعلها السلفيون معيارا للتدين الحق، مع ترك السياسة بمظالمها، تفقر أغلب الناس، وتشل مقدرتهم المتداعية على مواصلة بطولة البقاء على قيد الحياة، وترك فرص الحياة الرغدة للظالمين والنهابين، والاكتفاء بأحاديث عذاب القبر، وآخرة «الحور العين».
نعم، لا فرصة لتجديد مؤثر في خطاب الدين بدون تجديد مواز في الدنيا، ولا ثورة في فقه الدين منفصلة عن الثورة في الدنيا، فالعقيدة والعبادات والشريعة أوامر إلهية، وليست موضعا لنقاش ولا لجدال، لكن الفقه والتفسيرات أمور دنيوية، تختلف بتنوع الامكنة والأزمنة والظروف، ولا نهوض ولا تجديد جامع فيها خارج دورات نهوض الأمم، ففي مصر، ظهرت تجديدات الإمام محمد عبده في سياق ثوري، وقد كان الإمام طرفا مباشرا في ثورة أحمد عرابي، وحين فشلت الثورة، ذهب الإمام إلى المنفى، وعاد أقل وهجا مع فتوى الكفر بفعل «ساس» و»يسوس»، وفي دورة نهوض أعظم مع ثورة جمال عبد الناصر، ظهر الإمام المجدد محمود شلتوت، وهو أعظم مشايخ الأزهر بإطلاق عصوره، وكانت تجديداته الفقهية في علاقة جوار وحوار مع نهوض مصري هائل، يجدد الحياة، وينشر التقدم والتعليم والتصنيع، وينتصر لقيم العدالة والعمل، ويؤكد على التعبئة الوطنية ونبذ الطائفية، وهو ما جعل فتاوى الإمام شلتوت في موضعها وزمانها تماما، فقد كانت الأمة تغادر أكفانها، وتصحو إلى دور على خرائط الدنيا الناهضة، وتزيح ركام الغبار عن قيم الإسلام المطموسة.
وبالطبع، ثمة عقول قادرة على التجديد الآن، لكن المشكلة تظل في السياق الذي تجري فيه محاولات التجديد، وهو سياق ملغوم وغاية في الاضطراب، يكاد لا يعرف هدفا للتجديد الذي يدعو إليه، فلسنا بصدد ثورة اجتماعية، وحتى نطلب تجديدا دينيا يواكبها، وينشر قيمها الجديدة بين الناس، بل ثمة ركود وقمع وتواطؤ ضد ثورة الناس، وعودة إلى اختيارات الهوان في السياسة والاقتصاد، وتكريس الظلم الاجتماعي، ونشر البؤس والبطالة والإفقار، وجعل الدنيا حكرا للنهابين وحدهم، وهو ما يجعل خطاب التجديد الديني يتوه، ويلقى مصير الأذان في مالطا.
كاتب مصري
|
ليست هناك تعليقات