الجزء الثاني
إذا كان الحبّ لحظة وامضة تخطف روحين في برهة. وإذا كان الحبّ جنوناً يلغي المنطق والعقلانيّة، ويسلب الإرادة فتنقاد إلى المحبوب. فما الّذي يرهق هذه المشاعر أو يبدّدها؟ وهل ثمّة حبّ واحد يحياه الإنسان لمرّة واحدة أم إنّ الإنسان يمرّ بمراحل مختلفة حتّى يكون الحبّ الأخير هو الحبّ الحقيقيّ؟
من العسير الحديث عن حبّ حقيقيّ صرف بمعزل عن العوامل النّفسيّة الّتي تتداخل وتتشابك في النّفس الإنسانيّة. فكثيرون ظنّوا ويظنّون أنّهم أحبّوا إلّا أنّهم كانوا يبحثون عن إشباع أو تعويض عاطفيّ، أو هروب من واقع معيّن، أو اهتمام من آخر. وما تلبث المشاعر أن تفتر فيسعى الإنسان لبحث من جديد عن حبّ آخر. فمشكلة الإنسانيّة وهمّها الأساسيّ هو الحبّ. وكأنّي بالحبّ جوهر الإنسان والقوّة الّتي من خلالها يتنفّس ويحيا.
وحده النّضج يحدّد ما إذا كان ما يشعر به الإنسان حبّاً أو لا. فالنّضج العاطفي دليل الرّوح إلى المحبوب. ولعلّ الحبّ الحقيقيّ هو ذاك الّذي يتجلّى من دون دوافع ولا أسباب ولا غايات. حبّ من أجل الحبّ. سعادة مؤلمة يستحيل فيها المحبّان متّحدين بقوّة الرّوح. ما يعبّر عنه جبران خليل جبران قائلاً: "من تُحبّ ليس نصفك الآخر. هو أنت كلّك في مكان آخر، في نفس الوقت". ويحتاج هذا الحبّ إلى نضج عاطفيّ، تحرّر من وطأة الاختبارات القاسية، والعوز النّفسيّ للحبّ، ومعضلة الهروب من واقع مرير إلى التّعلّق بشخص من أجل التّفلّت من أوجاع النّفس.
يرقب الإنسان هذه اللّحظة الوامضة كالبرق، وينتظر بشوق أن يحبّ. لكنّه وإن لم يختر محبوبه إلّا أنّه يختار الانسياق لهذا الحبّ، ويلتزم بشقائه وطريقه المضني، وينجرّ لذلك الحزن المقلق الرّامي إلى السّعادة.
وأمّا الّذي لم يقابل الحبّ الحقيقيّ فما هو إلّا إنسان تائه في أعماق نفسه. يشعر بنقص ما، بخيبة ما، بجرح في إنسانيّته، بوحدة تؤرق وجدانه المفطور على الحبّ، بنقص في ماهية خلقه. فالحبّ الحقيقي لحظة انبلاج الحقيقة. الحقيقة الحبّ الّتي إذا ما دخل الإنسان دائرتها فرغ من نفسه ليلتقي بها في محبوبه.
الحبّ الأوّل اختبار للمشاعر الإنسانيّة والحبّ الأخير، إذا ما ومض، كان عزاء سنين طويلة من انتظار الكمال.
ليست هناك تعليقات