...لكنَّها ما زالت هناك،
تدخلُ في سوقِ الهرْجِ
[1]
وتخرجُ من زقاقِ المِدقّ
[2]
تحطُّ في بابِ الحميديّة
[3]
لتطيرَ على شظايا زجاجةٍ في شارعِ العطّارين
[4].
من المُحيطِ إلى الخليجِ تمتَدُّ، في طولِ موّالٍ
لا يعترِفُ بالجغرافيا وكتاب جوستنيانوس
[5]
وقبَّعتيّ سايكس وبيكو
[6]
.
من الجِبالِ المصنوعةِ من غضبِ البراكينِ
تأتي، وتأتي من الرَّملِ المُجفَّفِ بمناديلِ اللّهِ والنّهرِ المُبلّلِ بالدّموع.
وما زالَت هناك.
تقومُ وتمشي، من طلَلٍ إلى طلَلٍ؛ قلبُها في يدِها، يدُها وتَدٌ، ومتَاعُها كلأٌ طائرٌ.
من بوّاباتِ نَيْنوى
[7]
تخرجُ مع اللّيل وتعودُ مُحمَّلةً بالصّباحِ
وانفراجِ سريرَةٍ والزّعتر البرّيّ.
من شتلةِ فيجَنٍ في حديقةٍ معلَّقةٍ فوقَ حكايةٍ،
تنثرُ العبقَ العتيقَ في الرِّياحٍ المسافرة إلى تدمُرَ والبتراء
ورُفاتِ الأميرةِ في مرفَإِ قرطاجَ، وإلى دفاترِ المؤرِّخين.
من أصداءِ قصيدةٍ تائهةٍ بينَ واحاتِ الحجاز
وأسوارِ سمرقندَ تلتئمُ،
لُغةً مُشاكِسةً وكلامًا مُقفًّى وروايةَ انكسارٍ مُختَلَفٍ عليها.
من ألواحِ الآجَرِّ تنهمرُ،
رسوماتٍ مفتوحةً على الوَقْتِ المجّانيِّ
وفضاءاتِ البدويِّ الذي فينا.
من ألفِ هنا وهناك،
من ألف حينٍ،
أراها قادمةً؛
ذراعاها بحرٌ وصحراءُ، عيناها
قمَرٌ وشمسٌ، وَشْمُها حقولٌ يحطُّ عليها البقْلُ
والعوسَجُ ونسيمُ الصَّبا والسُّمومُ،
ويعشِّشُ فيها القحطُ المُبشِّرُ بالخِصب والقحطِ.
سنقولُ صداها شاسعٌ وصمتُها صريحٌ،
واسمُها نارٌ على جبلٍ.
وما زالت هناك.
تسيرُ في مُقدّمة ابن خلدون
[8]
وتضيعُ في فيضِ بن يقظان
[9]
وتسيِّجًُ حَيْرةَ بن عربيّ
[10]
في رحلةِ البحثِ عن حُدودِ الذّات في الذّات.
وهناك، في السُّوقِ،
ما زالتْ تبيعُ النَّعناعَ والتِّينَ العدنيَّ المحقونَ بالشّهوة
وحجارةَ بني الغبراء والتّوابلَ،
خلفَ سَلَّتِها المجدولةِ بأناملِ القمحِ والعَرَق.
هناكَ، فوقَ حِجارةٍ مرّتْ خيولٌ عليها،
ومرَّ الحفاةُ وذوو النِّعالِ
وأذيالُ عباءاتٍ مُقصّبةٍ وجُذامٌ مُعرًّى.
وما زالت هناك.
في الشّوارعِ والزّنازين، فوقَ السُّطوحِ
وفي الأقبيةِ التي تستنبتُ اللّيل،
في الشّبابيك التي تستنبتُ الفَجرَ،
في الطّينِ والماءِ ودورةِ الجِرار
في المدُن القديمةِ والحديثة.
ما زالت هناك،
نَصْبًا من لحمٍ ودمٍ وأسئلةٍ وجوديّةٍ
وأجوبةٍ تقطعُ اليقينَ بالشّكِّ.
ما زالت تطلعُ في السّوقِ،
وتقتعدُ الأزقَّةَ،
تحتَ رفِّ حماماتٍ
تربِطُ بينَ الأُفْقَيْنِ،
فوقِ النَّعيقِ الثّاوي في الصّدورِ،
لِصْقَ سماواتٍ متقلّبة.
ما زالت هناك،
تهبطُ من اسمِها العالي،
تُمعنُ في داخلِها،
تفرشُ راحتَيْها وفُستانَها المُطرّزَ، وتغفو.
______________
إضاءات:
****
[1]- سوقُ الهَرْج، إحدى أسواق بغداد القديمة، حيث تباع التّحف الأثريّة.
[2]- زقاق المدقّ: زقاقٌ شهيرٌ في القاهرة وهو عنوان إحدى روايات نجيب محفوظ.
[3]- الحميديّة، سوقٌ مشهورةٌ في دمشق القديمة.
[4]- شارع العطّارين، إشارةٌ إلى أسواقٍ بهذا الاسم في الكثير من المدن، في المغرب العربيّ والمشرق العربيّ.
[5]- جوستنيانوس هو الامبراطور البيزنطيّ الشّهير، صاحب المؤلّفات التّشريعيّة الموسوعيّة والطّموحات التّوسّعيّة. ويُنسبُ إليه بناءُ دير "سانتا كاترين" في شبه جزيرة سيناء.
[6]- سايكس وبيكو هما سياسيّان بريطانيٌّ وفرنسيّ، على التّوالي، اتفقا سرًّا على خطّة تقسيم منطقة الهلال الخصيب واقتسامه بين بلديهما (العام 1916)..
[7]- نينَوى، مدينة عراقيّة قديمة، اشتهرت في إحدى الحِقَب بازدهار الدّولة/المملكة، حضاريًّا وثقافيًّا، تحت إدارة ملكتها سميراميس. (ومعناها "الحمامة"). (المملكة الآشورية، القرن الثّامن قبل الميلاد).
[8]- ابن خلدون، صاحبُ المقدّمة الشّهيرة، ويُعتبرُ أوّلَ مؤرّخٍ وعالمَ اجتماعٍ منهجيٍّ في التّاريخ.
[9]- روايةُ الفيلسوف الأندلسي العربي ابن طُفيل، مع الإشارة إلى أنّه سبقه في تناول الفكرة ابن سينا والسّهروردي، وشكّلت الرّواية إلهامًا لرواياتٍ لاحقة، مثل قصص روبنسون كروزو وتارازان. أحدُ أهمِّ محاورِها هو فكرةُ الفيضِ والقدرات الرّوحيّة الموروثة.
[10]- محي الدّين بن عربيّ، يُعتبرُ من أهمّ علماء الصّوفيّة، ويُسمّى "الشيخ الأكبر". ومن الأفهومات التي طوّرها علاقة الذات بالذّات وعلاقاتها بالمُطلق.
ليست هناك تعليقات