لم يرجِعْ إلى حيِّنا صوتُ المنادي، وقد كان مُعلّقًا هُناكَ منذُ أن كانوا وكُنَّا، ليَرُدَّ تكشيرةَ الذِّئبِ عنَّا، وينثرَ فوقَ أبوابِ السّرِّ(1) نبْضَ قلوبِنا، وينقلَ أنباءَ انكسارِ السُّكونِ حينَ ينكسرُ السُّكونُ، وهمسَ التئامِ جُزازَتَيْن(2).
تركْنا الصَّوْتَ يركضُ في استداراتِ الرّيحِ فوقَ بيتِ الطِّينِ في ضواحي طُفولَتِنا، وألقيْنا وجوهَنا على أقدامِنا، وسِرْنا بلا أهدابٍ، خلفَ الأماني، في اتّجاهَيْن.
كانت خالتي المنقوشةُ بالوّشمِ، تفقسُ البَيْضَ(3) على لحمِنا البَضِّ، فتكشفَ نُقطةَ ضعفِنا، وتقولُ: "ما لا يُميتُكُمُ يقوّيكُمُ"، وتمسحُ آلامَنا بعَجينِ عينَيْها ولُفافةِ جَفْنَةٍ مُعلّقةٍ بسمائنا، ودِفْئِ الرَّاحتَيْن.
وجدّتي فاطمةٌ، تُتقِنُ الطّبَّ من أيّام ابن سينا، وتعلمُ من غيرِ عِلمٍ، فتخلَعُ آذانَنا قُبيْلَ الصُّبحِ لكي توبِّخَ التهابًا ألمَّ بنا؛ جرّاحةٌ تطرُدُ البردَ من نواحينا وترفعُ فوقَ كرسيٍّ من القشِّ مستشفًى، وتدورُ في الدّوائرِ من غيرِ طاءٍ(4)، وتستعيدُ الطّعمَ الذي غابَ عنّا منذُ سقوطِ اللَّوزتَيْن(5).
كنَّا، في ذلك الوقتِ، ما زِلنا نقطفُ مِنْ سقفِنا، كلَّ مساءٍ، باقةَ وردٍ من خُدودِ أميراتِ الحَكايا، وبشاشةَ القَمَرِ السَّابِحِ في بئْرِنا، وحُسْنَ الخواتيمِ وأحلامًا مُغمَّسةً بزيتٍ مُضيئٍ، وخُصلةً من شَعْرِ الثُّريَّا ورسالةَ حُبٍّ ينقلُها شِهابٌ رشيقٌ بينَ نُجيْمتَيْنِ،
وكنّا نقطفُ في ليالي الصَّيْفِ من شجَرِ المجرَّاتِ زادًا للنَّهارِ، ومن شتلِ النَّدى نقطفُ حبَّتَيْنِ،
ونرسمُ في السِّرِ، تحتَ اللِّحافِ، بيتًا من نَوَّارِ لوْزَتِنا، وزوجَ حَمَامٍ من غمامتِنا، ونُشعِلُ سيجارةً مُهرَّبةً من جيْبِ جدِّي المُعلَّقِ في الهواءِ، ونسرِجُ على حُلقومِنا صَوْتًا وقورًا، ونعشقُ في كلِّ دربٍ حبيبَتَيْن؛
حبيبةً لتسكنَ في الأُذَيْنِ وثانيةً لتسكنَ في البُطَيْن،
وكُنًّا، على الطّريقِ، نتْبَعُ القِسْمةَ الضِّيزَى(6)، فنقسمَ القلبَ نصفَيْنِ، ونضفِرُ البسَماتِ على أعتابِ حارتِنا، وعلى شفاهِنا تنضجُ النّارُ، فنخبِزُها قُبلَتَيْن.
وكان يظلُّ المُنادي، فوقَ بيتِ الطّينِ يُنادي، بينَ شمسَيْنْ،
شمسٍ مُعبَّأةٍ بزقزقَةٍ، ورفيفِ أجنحةٍ وخيوطِ هباءٍ تركضُ في أعقابِ مِكنِسَةٍ، وتحيَّةٍ في وُسْعِ الصّباحِ، وعُرْسٍ فقيرٍ يقومُ على خيطِ نايٍ وإبريقِ ماءٍ وضحكةِ أمِّ العروسِ وفرْحَةٍ تُفرِخُ دمعَتَيْن،
وشمسٍ مُعبَّأَةٍ بألعابِ النَّارِ على سقفِ الغُروبِ، ورقصَةِ بُرغُلٍ(7) في الأواني ونفخٍ على جمرٍ نائمٍ في حِضْنِ الرَّمادِ، واستراحةِ سُنونُوَّةٍ سمراءَ تحت سقفٍ خفيفٍ، وحكايةٍ لا تنتهي، ونكهةِ هالٍ يعانقُ البُنَّ المُحمَّصَ، في الأزقَّةِ، وحَوْقَلةٍ وبَسْمَلَتَيْن.
لكنَّ المُنادي، فوقَ بيت الطّين، طيّرَ خيطَهُ على طيّارةٍ ورقيّةٍ،
وإلى الآنَ لم يرجِعِ الصَّوْتُ ولا عادَ الصَّدى، وما عُدْنا إلينا، وارتدَتْ طيّارةُ الورقِ درْعَ فولاذٍ وطيّارًا في قناعٍ ومُشطَ أنيابٍ وفراسَةَ جاسوسٍ وقذيفتَيْن.
ثمَّ، عندما يشتدُّ الغيابُ، يُنادي المُنادي على مأتمِهِ، ويموتُ في غابةِ الإسمنتِ، صوتًا مُشظًّى، بلا اسمٍ ولا خيطٍ،
بين دمٍ وماءٍ وعُرسَيْن.
_______________
هوامش:
(1) بابُ السّرّ هو بابٌ صغيرٌ، في شكلِ شُبّاكِ. وكان النّاسُ عندنا يقيمونَ أبوابَ السّرّ في كلِّ البيوت، لتمكين الهروب والتنقّل بين البيوت وداخل الأحياء سرًّا، بعيدًا عن الأزقّة والدّروب، خصوصًا في مواجهة السّلطات والطُّغيان.
(2) الجُزازةُ هي النُّتفةُ أو القُصاصةُ، وهي الجزءُ الصّغيرُ المقصوصُ أو المجزرزُ من أيِّ شيء.
(3) طريقةٌ في التّطبيب البلديّ، القديم. يتمُّ فقسُ البيضة على جسدِ الطّفل الرّضيع غير القادر على الحديث والتّواصل والإشارة إلى موقع ألمِه. فيتمُّ تمرير البيضة على جسدِه، وحيثُ ينكسرُ الصّفارُ في الموقع السّاخن يكون موقع الألم والإصابة.
(4) حرف الطّاء هو المقابل لحرف "باي" اليونانيّ القديم، ويساوي ثلاثة وسُبع (ط = 3.14). وكما هو معلوم فأنّ محيط الدّائرة يساوي ضربَ قُطرِها بالطّاء (بثلاثة وسبع).
(5) اللوزتين: لوزتا الأذنين.
(6)القسمة الضّيزَى هي القِسْمةُ غيرُ العادلة. قرآن كريم.
(7) البُرغُل هو القمح المسلوق، بعد تجفيفه. وهو يدخلُ في الكثير من المأكولات الشَّعبيّة في نواحينا، وخصوصًا طبيخَ "المُجدّرة"، المصنوعَ من البُرغل والعدسِ والبصل المُقلَّى وزيت الزيتون. وكلّها مركّبات من نتاج محلّي ومن مؤونة كلِّ بيت. وحكى لنا الرّاحلون أنّ المُجدّرة كانت في الماضي عشاءً ثابتًا، يوميًّا، في كلّ البيوت. وكان النّاسُ يرفعون العدس إلى الأواني، فوق مواقدِهم، في اللّحظة التي يختفي فيها ظلُّ شجرةِ خرّوب في الأُفق القريب، على كتِفِ قرية مقابلة.
ليست هناك تعليقات