" هكذا يظهر التأويل بمظهر العلاج في النقصان المتزايد للتوسط"
إذا كان العلم الوضعي الذي افتتحه غاليلي قد قطع كل علاقاته مع عالم ما قبل العلم وإذا كان هوسرل قد أعاد تنشيط التالفات التي تكون عالم الحياة فإن بول ريكور يستعمل السرد من اجل تكوين موضوع العالم في قلب المعرفة التاريخية عبر إعادة التكوين وإعادة البناء لتجارب الحياة وتسنى له وصف عالم البحر البيض المتوسط بناسه وبنية أحداثه وحركة التاريخ العميقة وعالم النص وعالم الرسالة والعالم المعيش.
- لكن كيف يسمح السرد بإنتاج المعنى؟
- وماذا يحصل لعالم الفعل عندما يتقاطع عالم النص وعالم السرد؟
والحق أن العالم المعيش ليس العالم الثقافي الذي تمت هيكلته بالفعل وطبقت عليه المعرفة الخاصة بالكتابة التاريخية وإنما تجربة مباشرة على الإطلاق وسابقة في معناها على التاريخ العلمي وعالم الفعل وحركية.
- لكن كيف يمكن تفادي الصدام الذي ينشا بين عالم النص والعالم المعيش بسبب محاولات إعادة التشكيل؟
لم يكن هيدجر غافلا عن معضلة كتابة التاريخ على أساس التاريخية ولذلك يوافقه بول ريكور في قوله بان ماهو ماض في البقايا التاريخية هو العالم الذي كانت تنتمي إليه هذه البقايا ولكن ريكور يضطر إلى تأكيد مصطلح العالم من خلال التمييز بين عالم الأسلاف وعالم المتعاصرين وبين عالم المتخيل وعالم السرد وبين عالم الهم وعالم منزوع السحر والهالة أي معلمن ودنيوي والعالمية وبين عالم النص وعالم القارئ.
تؤدي اللغة من خلال تعيين أزمنة الفعل النحوي بوظيفة التأشير والإرشاد وتؤدي إلى تجزئة تخطيطية ابتدائية للعالم وتعمل على التمييز بالأزمنة النحوية بصيغة حالة الكلام بين عالم مروي وعالم معلق عليه ولكن يبقى العالم المروي والعالم المعلق عليه عالمين مختلفين وتظل علاقتهما بعالم الممارسة معلقة.
والحق أن"عالم الآنية هو الذي يقال انه كان انوجادا هناك... إن الزاد الذي نواجهه في العالم نفسه يصير تاريخيا ، بمعنى اشتقاقي...عبارة تاريخي عالمي يدل عل تلك الموجودات، عدا الآنية ، التي توصف بأنها تاريخية بمعنى الأرخنة بسبب انتمائها إلى عالم الهم... الكائنات حين تتواجه في داخل العالم." .
يقوم كل عمل قصصي بواسطة فتح فكرة الحبك وفكرة الزمن التي تناسبها على الخارج وأثناء متابعته حركة التعالي والتوسط بإسقاط عالم خارج نفسه هو عالم العمل أي إسقاط طرق في سكنى العالم وتوفير فضاء تتم فيه المواجهة بين عالم النص وعالم القارئ ويظل في انتظار القراءة من أجل إعادة التشكيل ويسهم السرد وفق حركة صاعدة مخطط لها بعناية في تحويل الأشياء المحيطة إلى كائنات قيد القراءة .
إن إدخال العمل التخييلي إلى عالم الفن يعني استخدام السرد كوسيلة لترتيب إحداث الحياة وفق نظام وان التلقي عبر القراءة هو الفعل الذي يحدث النقل بين العمل المغلق والعمل المفتوح عن طريق الاختراق ولا يمكن عبور العتبة التي تفصل بينهما إلا عندما يواجه عالم النص عالم القارئ حيث يكتسب العمل الفني والأدبي معنى بكل ما تعنيه الكلمة عند التقاطع بين العالم الذي يسقطه النص والعالم المعيش للقارئ
يفرق
ريكور بين الأفق والعالم من خلال إضافته إلى الإحالات الوصفية الإحالات غير الوصفية مثل الأداء الشعري والتخيل طالما أن
"العالم هو الشبكة الكاملة من الإحالات التي تفتحها جميع أنواع النصوص، الوصفية والشعرية، التي قرأتها وفهتمها وأحببتها... إن السرد يدل من جديد على العالم في بعده الزمني بقدر ما يكون القص والحكي والإنشاد إعادة تكوين للفعل متابعة لدعوة القصيدة" .
في إطار توضيح التأثير الاجتماعي للعمل الفني من حيث هي حراك خارج النص وتأكيد على وظيفته الإبداعية يتم خلق مسافة جمالية بين الباث والمتقبل وبين فضاء التجربة اليومية وأفق التوقع وبين الواقع الاجتماعي والعالم المتخيل وينتقل من محاكاة الطبيعة إلى إنتاج عمل جديد والمشاركة في تأليف النص
.
إن الأعمال الأدبية والفنية تنقل إلى اللغة تجربة بشرية حدثت في التاريخ وبذلك تتجه نحو العالم بالخطاب ويعيد القارئ جدل الوجود والمظهر من خلال هذه العلاقة التفاعلية بين المرجع والمعنى ويتخذ أفق العالم الذخيرة التي يتشكل منها عالم النص ويتقاطع مع عالم القارئ ويقوم الخيال الشعري بالتحدث عن العالم.
يرفض ريكور فلسفة الفن كمت يمثلها نظام الرومانتيكية التي طورها شوبنهاور في العالم ارادة وتمثلا والتي ظلت تحكم على العملية السردية من الخارج وتضع له اساس تظري وثقافي ولا تضع الزمن غاية له بل حاولت الغاء الانشطار بين الروح والعالم المادي بالبحث عن التصالح بينها في الهوية والفن
في المقابل يؤكد ريكور على أولوية السرد نفسه في البحث عن الزمن المفقود والإصلاح المزدوج للعالم وإنشاء العالم بالرواية وذلك بالانسحاب من عالم الانشغال وجعله أكثر تعقيدا والاشتباك معه واستكماله.
في رواية الجبل السحري " يفصل الخط الفاصل بين أولئك الموجودين في الأعلى وأولئك الموجودين في الأسفل في الوقت ذاته بين عالم المرض والموت وعالم الحياة اليومية ، عالم الحياة والصحة والفعل" .
يقوم السرد بالوساطة التفاعلية الملتزمة بين عالم الأسلاف وعالم المتعاصرين ودلك من خلال التقليص من المجهولية وبناء التواجد المشترك في الزمان عن طريق التخيل ومد الجسور بين الماضي والحاضر.
بعبارة أخرى يؤمن السرد مجموعة من الوساطات التاريخية الكبرى التي تحدث على أصعدة القانون والاقتصاد والأخلاق والدين والثقافة بشكل عام وذلك عبر التراكم والاستيعاب والترسب والاحتفاظ والتذكر والاسترجاع والتجاوز وإعادة تأويلات الماضي في عالم منزوع السحر وضمن أفق وساطة تاريخية بين الماضي والحاضر والمستقبل عن طريق التحرر من الموروث والاهتمام بالاستباق والتوقع.
لقد تحرر زمن السرد القصصي من القيود والضوابط التي تمنعه عن الإحالة إلى زمان العالم. و" تنشر كل تجربة قصصية عالمها الخاص وكل عالم من هذه العوالم فريد في ذاته ومفرد ولا يقارن بسواه" .
يسمح السرد بإزالة قيود الزمان الكوني واستكشاف مصادر الزمان الفنومينولوجي ويقوم بإعادة تسجيل الزمان المعيش على زمان العالم على مستوى التاريخ من خلال تأكيد الحبكات على التوازي والتقابل بين التنويعات الخيالية والالتباس الأساسي للوجود في العالم وإدماج أحداث من العالم في التجربة القصصية.
لن تؤدي دراسة العاب الزمن الى النطق بتجربة عن الزمن" طالما أن تجربة الزمن المطروحة للبحث هنا هي تجربة قصصية أفقها عالم تخييلي يبقى هو عالم النص لن يجعل إشكالية التصور السردي تعلو لتدخل في اشكالية اعادة تصور السرد للزمن إلا المواجهة بين عالم النص والعالم المعيش الخاص بالقارئ" .
- لكن ما علاقة العودة الى النظام الذي يحكم الزمن المعيش بالبحث الذي يتناول الزمن في العالم القصصي؟
ينتهي ريكور إلى تأكيد أهمية إنتاج المعنى وآثار المعنى التي ينتجها العالم المروي بمروره إلى عالم الممارسة عندما تعيش الشخصيات تجربة قصصية تمتلك فيها عالما هو بمثابة الأفق لها وتمكنها من الاقتدار على الاستبصار والاتصال بالموضوعات الممكنة وحل شفرة الوضع البشري وزمنيته. لكن ألا يصادق السارد على فكرة عالم معين معد للعمل عندما يتكلم هو نفسه عن عالم مروي وعالم معلق عليه؟
المصادر والمراجع:
Ricœur (Paul), temps et récit, tome1. L’intrigue et le récit historique, Seuil, Paris,1983
Ricœur (Paul), temps et récit, tome2. La configuration du temps dans le récit de fiction, Seuil, Paris, 1985
Ricœur (Paul), temps et récit, tome3. Le temps raconté, Seuil, Paris, 1985
Olivier Abel et Jérome Porée, Le vocabulaire de Paul Ricœur, édition ellipses, Paris, 2009.
Dominico Jervonilo, Ricœur et la pensée de l’histoire :entre temps et mémoire, labyrinthe, volume3, Winter 2001.
بول ريكور، الزمان والسرد، الحبكة والسرد التاريخي، ج1، ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، طبعة2006.
بول ريكور، الزمان والسرد،التصوير في السرد القصصي ، ج2، ترجمة فلاح رحيم ، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، طبعة 2006.
بول ريكور، الزمان والسرد، الزمان المروي،ج3، ترجمة سعيد الغانمي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، طبعة 2006.
ليست هناك تعليقات