أخبار الموقع

اهــــــــلا و سهــــــــلا بــــــكم فــــــي موقع مجلة منبر الفكر ... هنا منبر ختَم شهادةَ البقاءِ ببصمةٍ تحاكي شَكلَ الوعودِ، وفكرةٍ طوّت الخيالَ واستقرتْ في القلوبِ حقيقةً وصدقاً " اتصل بنا "

« زمانية الوجود وعالمية الكائن عند هيدجر » ... بقلم : د. زهير الخويلدي


 « زمانية الوجود وعالمية الكائن عند هيدجر »
    بقلم :   د. زهير الخويلدي       
  14/12/2018
  كاتب فلسفي تونسي


«  مجلة منبر الفكر »   د. زهير الخويلدي      تونس  14/12/2018


" العالم هو ما ترنو إليه الحقيقة الإنسانية من جهة تعاليها ، ولذلك نسميه العالم الإنساني" هيدجر، سؤال1.
يعتبر مارتن هيدجر 1889-1976 من أكثر الفلاسفة الألمان تأثيرا وإثارة للجدل في القرن العشرين ويعد كتابه الوجود والزمان 1927 من أشد المؤلفات تشويقا وغموضا على الرغم من عدم بلوغه وضع الاكتمال والتمام وذلك لما تضمنه من تحليل دقيق لأحوال الوضع البشري من خارج المنظور الميتافيزيقي بالتركيز على العالمية والقلق والتناهي والإثم والنسيان والعدم والمعنى والوجود الزائف والوجود الأصيل.

السؤال الذي يحق للفنومينولوجيا أن تدقق في عملية طرحه وصياغته هو المتعلق بعالمية الكائن البشري: 
  • فيما تتمثل هذه العالمية ؟ 
  • وكيف يكون الطابع العالمي ممكنا عند الكائن البشري؟ 
  • وما الذي يجعله مميزا؟
يفضي امتحان سلوك الحيوان إلى الاستنتاج بأنه ينتمي بصورة طبيعية إلى محيط environnement بينما ينتمي الإنسان بشكل رمزي من جهة الذات الساعية إلى الوعي بنفسها ومن الناحية الثقافية إلى العالم.

لقد احتل كل حيوان بشكل غريزي وسطا خارجيا حيث ربطته به شبكة من العلاقات التي تساعده على التكيف والمحافظة على البقاء والتكاثر ويتميز هذا الوسط بالتجانس ويمثل مجموعا متمفصلا ويتكون من مواد مألوفة من جهة وسائل الاتصال ونافعة عند الاستعمال ومن أشياء ضارة عند الاقتراب منها وغريبة.

بهذا المعنى يمثل المحيط نسقا من التوجهات والحاجات وصور للسلوك ويشكل بصورة دقيقة شبكة محددة بينما الكائن البشري لا يجوز إخضاعه إلى التحليل الذي يشتغل بأدوات تصلح في تحليل الجسم المادي. لعل المرء يحتل على غرار الحيوان وكل كائن حي آخر وسطا خارجيا ويخضع لمؤثرات غريبة عنه ويشعر من حيث هو جسم بضرورة تلبية مجموعة من الحاجات النوعية ولكن إضافة إلى ذلك يحوز على قدرة حقيقية على إظهار رغبات في تغيير دلالات الأشياء الخارجية وتحويل خصائص الوسط بحيث تتفق مع الصور المنظمة الخاصة به وبالتالي تكون الدلالات الثقافية هي ثمرة التطور للدلالات البيولوجية.

هذه الدلالات تغطي في قسم منها المواد المصنوعة والمواضيع الرمزية والمحيط الطبيعي وجملة التمثلات الميثولوجية التي تنعكس في المقولات الفلكية وجل الظواهر الكونية التي تقع تحت طائلة الإدراك البشري.

من هذا المنطلق تتشكل منظورية الواقع من خلال مركز المحاولة ومنبع الفهم الذي يصدر عن الكائن البشري ذاته حيث يقوم هذا الحاضر وسط الأشياء بطريقة تفهمية بتعقل معنى الموجودات ويحرص على شحن الكائنات التي تدور في فلكه بالقيم ويوزعها في حقل مشتت يحوز منذ البداية على قانون تنظيمه.

الخاصية الأكثر إثارة للانتباه عن هذا الحقل هي عدم تناهيه ولامحدوديته وبعبارة أخرى هو انه ليس البتة النسق المغلق الذي تكون من عدد قليل من الأشياء والعناصر والمواد التي تم وصفها بدقة وبصورة معينة، وإنما يمتد إلى مابعد المواضيع المعتادة والأشياء المألوفة ويقدم نفسه على أنه قادر على استيعاب الأشياء المكتشفة وامتصاص المواضيع الجديدة دون أن يستطيع رسم الحدود التي يتوقف عندها هذا الاستيعاب.
 
على هذا النحو قبل أن يكون العالم شبكة من القيم فإنه يمثل النواة المعيارية التي تشيد إمكانية التقويم ذاته، وهو الذي يجعل حقل الدلالات، من حيث هو مبدأ التشميل وليس كلية مغلقة ولا مجموع مجرد ولا نسق نهائي من التمفصلات، القاعدة التي يرسي عليها الكائن البشري سفينته ويستمد معقولية وجوده في العالم.

إن الطريقة التي يتم من خلالها تشميل العالم ليست محددة لا بواسطة طبيعة المواضيع التي تم تشميلها ولا بواسطة الخصائص المموضعة من طرف الكائن البشري من خلال التعامل معها بوصفها حاجيات محددة.

إن المواضيع ذاتها يمكن إدراجها في حقول من الدلالات المختلفة وتتأثر بدلالات متنوعة وقابلة للتأويل من منظورات كثيرة ، وان الكائن البشري ذاته ليس مميزا بخصائص ثابتة ولا يمكن احتجازه عند جملة من المصالح والحاجيات ولا يقبل التحديد من أي قيمة كانت متعالية عن حياته اليومية أو محايثة لواقعه.

ما تبدو خاصية مميزة عند الكائن البشري ليس اندراجه في حقل مفتوح من الدلالات، وإنما حيازته على القدرة على تشييد حقول لها مثل هذه الميزة. 

وان ما يمكن تسميته بالعالم le monde هو
"حقل الدلالات الذي يندرج ضمنه الكائن البشري والذي من خلاله يؤول واقعه والحقيقة الاجتماعية التي يعيش فيها". 

بهذا المعنى يمكن التفطن إلى أن الكائن البشري يحوز بصورة تكوينية على طابع عالمي mondain وذلك بالنظر إلى أنه الوحيد بالماهية من بين الكائنات الأخرى الذي بإمكانه إنشاء عالم مختلف. 

لا يمكن الإجابة عن سؤال الطابع العالمي للكائن البشري إلا بعد امتحان بنيةstructure العالم في حد ذاتها واستنطاق العوالم المتعددة التي ينتجها الإنسان بالانطلاق من نفس المعطيات الأولية والسمات الأساسية ذاتها والإقرار بوجود بنية مخصوصة تنتمي إلى أي عالم من حيث هو بالخصوص عالم ما.

لكن القول بأن العالم هو نسق مفتوح من الدلالات يثير التساؤلات التالية: 
  • كيف لهذا النسق أن يكون ممكنا؟ 
لكي يكون ثمة نسق يفترض أن تكون هناك دلالات وقيم مترابطة مع بعضها البعض بطريقة محكمة ومحددة ويفترض أن تحيل إلى بعضها البعض وفق اتجاهات معروفة ودروب معلومة ولكن طبيعة الدلالة تقتضي أن يؤثر الحامل في الموضوع المحمول ويتفرق إلى إشارات وملاحظات متنوعة من الإحالة.

لكي يكون ثمة نسق تشكل الدلالات شبكة من النقاط الثابتة والمسارات المعروفة والمترابطات المبنية، وبالتالي يقع الفكر الفلسفي في تسلسل إلى ما لانهاية بالنظر الى أن عملية منح الدلائل تجعل من كل دلالة تستدعي غيرها من الدلالات وفي المقابل الدلالة المدعوة تقوم بدورها بدعوة دلالات أخرى وهكذا دواليك.

لو تتبعنا الشبكة من جهة استثمارها فإننا سنعثر على الكائن البشري ليس من حيث هو مستعمل لآلة أو مرسل لعلامة وبالتالي ننسب له صفة محددة وإنما بالانطلاق من امكانياته التامة على بناء عوالم متعددة واستقبل معلومات جديدة وإنتاج المنافع والفوائد وفهم العالم الراهن واقتراح مشاريع وإيجاد ثقافة بديلة وتحويل الدلالات المتكون سلفا إلى نحت دلالات جديدة ضمن عالم جديد مفتوح على آفاق غير معهودة.

يمكن أن نميز العالم بطريقتين: 
- سواء من حيث هو نسق مكثف من الدلالات غير المحددة التي تترابط فيما بينها بواسطة منطق داخلي من الإحالات المتبادلة ، 
- سواء من حيث هو الأفق الذي يتيح للنسق بأن يبرز.

 لقد وقع التركيز في الطريقة الأولى على المحتوى المضموني للعالم وبالتالي على فعلية نصيته المتعينة، في حين الطريقة الثانية تطرح مسألة إمكانية العالم وتحرص على تتبعه في مسار حدوثه وتجليه وبروزه.

اللافت للنظر أن البعدين ليسا متجاورين بل الأول هو متمفصل على الثاني بحيث يكون أساسا لما هو متأسس وبذلك ليس العالم كلا متشكلا وإنما هو بناء في الطريق إلى الاكتمال دوما وبالتالي ليس له الحقيقة المشبعة لكي يكون أفقا. 

إن العالم من حيث هو أفق لا يعني محتوى ولا معنى تام بل الرابط الباطني لما يظهر ولكل ما يزهر في كل مصطلح معين ، وهو كذلك حركة التخطي التي تحيل إلى كل الآخرين، ولا يشمل مصطلح بعينه وإنما إمكانية كل خصوصية من حيث هي دالة أي حركة التخطي نفسها. انه ليس شكلا ملموسا في حد ذاته وإنما يتجاوز كل شكل ، انه مطلب التشكيل. العالم لا يعرف من حيث هو كلية محددة وإنما هو الأفق التابع للموجودات التأثرية الذي يسمح للشبكة المتعينة من الدلالات بالظهور.

يمكن الاعتماد على حركة التعالي بغية الانتقال من بنية العالم إلى عالميةmondanéité الكائن البشري.

اذا كان العالم من الناحية البدئية أفقا وليس له مضمونا الا من خلال هذا الطابع فإن علاقة الكائن البشري بالعالم ينبغي أن تكون مفهومة بشكل أساسي بوصفة علاقة مع أفق معين. ان طريقته في الاندراج في الواقع تفترض ابرزا نسق متعين من الدلالات التي تبرز حوله وتضع الواقع ضمن نسق من التأويلات.

بهذا المعنى لا يعطي الوجود عالمه إلا عندما يتجاوز كل المواضيع نحو أفق العالم الذي تحلم به دلالته وتتكون منه العقد التي تشكل النسق الموحد. بيد أن إمكانية إجراء تجاوز معين تنتمي الى البنية الأساسية للوجود وتترجم النمط المميز للوجود الذي يختص به الكائن البشري في تعاليه على الموجودات اليومية.

إن الكائن البشري من حيث هو موجود هو خروج من بؤبؤ ذاته وذلك باتخاذ مسافة بالمقارنة مع نفسه ورسم حدود خاصة به ضمن الحركة التي يجريها في انفصاله عن ذاته وانفتاحه على كلية ما يلتقي به.

إن التعالي هو في ذات الوقت خروج عن الذات وإعطاء العالم موقعا ، وتكمن عالمية الكائن البشري في هذا الانتماء الضروري إلى العالم الذي يمنحه الوجود والمعنى ويعمل على تكوينه وبنائه من خلال تعاليه.

إن تحليل التعالي يأخذ اتجاهين أساسيين: الأول يعتني ببيان بنيته الداخلي ضمن نظرية في الزمانية ، والثاني يتساءل عن العالمية التي تتيح إمكانية التعالي ضمن منظورية أنثربولوجية وأساس أنطولوجي.

الإمكانية التي يجدها الكائن البشري من أجل الانفتاح على العالم تحيل إلى المعطى الأولي من المكان الذي يسمح لهذا الموجود الإنساني بإبراز إمكانياته وتشييد عالمه والانفتاح على التعالي باعتباره حقل التحقيق دون أن تكون هذه الإمكانية منتمية إلى الشروط التي تحدد منزلة الموجود بوصفه موجودا ومتعلقة به. 

هذه الشروط هي التي تعرف الدلالة الأنطولوجية للكائن وهي التي تجعله يتطابق مع الحقيقة التي تناسبه وتجعل من معنى العالمية هو المكون الذي يتيح له بناء علاقة انفتاح إزاء الأساس الذي تقوم عليه الواقعة.

إن الوجود ، من حيث هو الأساس، هو الذي يمنح الموجود إمكانية الانفتاح على ماهو كائن واستطاعة الحياة من خلال العلاقة التي تربطه مع الواقعة وتجعله هو في حد ذاته علاقة مع العالم الذي يشكله بنفسه.

هكذا يقودنا توضيح جذري لمصطلح العالم إلى الانخراط في تفكير حول طبيعة الأساس وحول علاقة الكائن البشري بالأساس والى إثارة مشكلة العالم خارج إطار التحليل الفنومينولوجي العمل على تخطيها وتجاوزها من خلال تجذير الإشكالية المتعلقة بالعالم على تربة مغايرة وضمن تأويل أنطولوجي تأسيسي. 

جملة القول أن ما يتم اختباره وتجريبه وامتحانه والتمرن عليه في تجربة الكيان في العالم هو العالم عينه وبالتالي فإن العالم في حد ذاته لا يمكن تعريفه بوصفه موضوع معرفة بل تجربة وجودانية عند الدازاين.

يميز هيدجر في الفقرة 14 من كتابه العمدة "الوجود والزمان" بين العالم باعتباره كلية الموجود والمفهوم الأنطولوجي للعالم الذي يشير إلى الوجودانيexistential ، فإذا كان التحديد الوجودي للعالم يشير إلى ما به يوجد الدازاين فإن العالم في المعنى الأنطولوجي ليس الموضوع الذي يقابل الذات العارفة وإنما ما يمكن فيه أن يعيش المرء ، 

ولذا يقوم هيدجر بتمييز عالم الحياة عن غيره من العوالم ويلجئ إلى التفريق بين العالم المحيطambiant الذي يصلنا بالأشياء حولنا(Umwelt ) والعالم المشتركcommun بين الأشخاص (Mitwelt (والعالم الخاص proper الذي يربط المرء بذاته (Selbstwelt ( .
بيد أن الوجود مع الآخرين في عالم مشترك قد يفضي إلى التغاضي عن الوجود في عالم الأشياء بصورة موضوعية وبشكل عضوي على نحو ما توجد المواد وإهمال الوجود مع الذات من جهة العالم الشخصي.

تبعا لذلك يعيد هيدجر تأويل القصدية على ضوء الطبقات الثلاثة لمعنى الحياة أي من يحيا وماذا وكيف. 

والمطلوب من الفلسفة أن تبحث عن أسلوب الحياة الذي يساعد على إخراج المرء من غربته عن ذاته وانبتاته ولاأصالته وتلاشيه وانحداره في الهُم والحشد وتعمل أيضا على توضيح الطريقة التي يرتبط بها المرء بالحياة وليس المضامين والاهتمامات والأغراض وتتكفل كذلك بتأمين عملية الإمساك بمعنى الحياة في العالم. 

بعد ذلك يقوم هيدجر في كتاب أصل العمل الفني بتحويل الأثر الفني من مجال تبتكره عبقرية الفنان إلى قدرة تفتح عالما وتجعل من حقيقة الوجود تعبر عن لااحتجاب وأليتيا وليس نتاج للمعرفة البشرية. 
  • فالي أي مدى ساعدت الأنطولوجيا الأساسية التي شيدها مارتن هيدجر على انجاز هذه المهمة؟
المصادر والمراجع:

Martin Heidegger, Etre et temps, traduit par Vesin, éditions Gallimard, Paris, 1986.
Martin Heidegger, chemins qui ne mènent nulle part, éditions Gallimard, Paris, 1998.
Martin Heidegger, qu’appelle-t-on penser ? , éditions PUF, Paris, 2007.
Martin Heidegger, qu’est-ce que la philosophie ? , édition Gallimard, Paris, 1947.
Cahier de l’Herne , Heidegger , dirigé par M . Haar , le livre de Poche, 1983.
Françoise Dastur , Heidegger et la question du temps, édition PUF, Paris, 1994.
مارتن هيدجر، نهاية الفلسفة ومهمة الفكر، ترجمة وعد علي الرحية وعلي محمد اسبر، دار التكوين، دمشق، طبعة 2016 ، 


  اقرأ المزيد لـ د. زهير الخويلدي


لإرسال مقالاتكم و مشاركاتكم
يرجى الضغط على كلمة  هنا 


ليست هناك تعليقات