أخبار الموقع

اهــــــــلا و سهــــــــلا بــــــكم فــــــي موقع مجلة منبر الفكر ... هنا منبر ختَم شهادةَ البقاءِ ببصمةٍ تحاكي شَكلَ الوعودِ، وفكرةٍ طوّت الخيالَ واستقرتْ في القلوبِ حقيقةً وصدقاً " اتصل بنا "

تَرْنيمةٌ للقَديمِ ... بقلم : فريد غانم



  تَرْنيمةٌ للقَديمِ    
   بقلم :   فريد غانم
  أدب
  12/1/2017





(١)
في القديمِ، 
قبلَ أن تتوقَّفَ الشّمسُ عن الدَّوَرانِ حوْلَنا؛
قبلَ أنْ تبدأَ في العملِ رسّامةً لظلِّنا وظلِّ الوقتِ على المكان؛
وقبلَ أنْ تتعلّمَ هوايةَ طبخِ الرّملِ في وعاءٍ اسمُهُ الصَّحراءُ؛
قبلَ أنْ يُفرِّخَ الذّهبُ الأصفرُ ذهبًا أَسْوَدَ، في الدَّرَكِ الأوّلِ من أدراكِ الجَحيمِ.
قبلَ أنْ يتقاعدَ القَمَرُ من عملِهِ مصباحًا لنوافِذِ الطِّينِ وساكبًا للماءِ على أقدامِ آلهةِ الخِصْبِ المغروسةِ في الزّرائبِ والحقولِ وعَصًا للمُسَحِّرين؛
قبلَ أن تصيرَ الأرضُ كُرويّةً والأمطارُ بُقعَةً داكنةً على شاشة؛
هكذا، في القديم؛
قبلَ أنْ يتقوّسَ ظهرُ السَّماء،
كان قلبي يتّسعُ لكلِّ البلاد.
وكنتُ أسافرُ وحدي إلى آخرِ الأرض.

(٢)
كنتُ أحملُ في يدي المفتوحةِ صدرَ أُمِّي وعُقْدةَ حاجِبَيِّ أَبي وأزرعُ على جبينيَ اللَّوْزَةَ المتّكئَةَ على شُبَّاكِيَ الصَّغيرِ وأنصبُ في فمي صِياحَ الدِّيكِ وصيحاتِ "هَلُمَّ" المُنادي من فوقِ السُّطوحِ، وأُلقي على كتفي كوخَ النّاطورِ والجبلَ الشّماليَّ،
وأسافرُ إلى آخر الأرض.

(٣)
وكانَ في الرّحلةِ قبل الأخيرةِ أنْ سقطَتْ رسالةٌ على كوخٍ فقيرٍ قربَ هرَمٍ أسميناهُ "خوفو".
وفي الرّسالةِ عثَرْتُ على بقايا دمعةٍ ذُرِفَتْ على القَمَرِ الذي سقطَ في البئْرِ فأكلَهُ الذِّئبُ، وفيها حكايةُ تآمُرِ "بيتا" و"غَاما" و"دِلتا" على "ألفا"(*)، وسقوطِ زعيم الشيمبانزي في الشَّرَكِ، ونبوءةٌ بتفوُّقِ البَيْنِيَّةِ على التفوُّقِ في منتصفِ الدُّهور.

(٤)
كانَ ذلك قبلَ أن تكبِرَ الطّحالبُ وتصيرَ أشجارًا؛
وقبلَ أنْ تصيرَ الأشجارُ مراوحَ للهَواءِ المُلوَّثِ؛
قبلَ أنْ تتنازلَ الغُيومُ عن كبريائِها وتتسلَّلَ من النّوافذِ لتَشتغلَ، بوظيفةٍ كاملةٍ، مِنفضَةً لرَوْثِ الكلابِ القصيرةِ والغُبارِ الأبيضِ ودخانِ المصانعِ في قمَّةِ "مَنهاتِن"(١)؛
قبلَ أنْ تترجَّلَ الحَماماتُ المُطوَّقَةُ عن صَهَواتِ البَرْقِ وتتخلّى عن وظيفةِ ساعي البريدِ، لتعملَ مُكنِسَةً للنَّياشينِ ووجوهِ أبطالِ الحروبِ الاحترازيَّةِ؛
وكان ذلك قبلَ أنْ يتفحَّمَ وَجْهُ المَوْزِ في "هارلِمْ"(٢) و"مقاديشو"(٣) و"ماكوندو"(٤) ويتسبَّبَ في رسوبِ أبناءِ "مارتن لوثر كينغ" و"بابلو نيرودا"، في امتحاناتِ القبولِ للعيشِ الكريم،
حينئذٍ، في القديمِ، كانَ لي قلبٌ في حجمِ مُفارَقَاتِ "زِنونْ" الأغريقي(٥) وفي شكلِ ثمانيَةِ "جون والِّيسْ"(٦) السَّاقطَةِ على وجهِهَا.
وكنتُ أُسافرُ وحدي.
وأَعودُ وحدي من آخرِ الأرضِ.

(٥)
كنتُ أملأُ حقيبةَ الظَّهرِ بثلاثةِ جِبالٍ لإِقامةِ موْقِدٍ لصناعةِ القهوةِ فوقَ تُرابِ المبتدأِ وتحتَ سدرةِ المُنْتهى، وأضعُ في جيبي حوضَ المَرْيَميَّةِ ورطلًا من العدَسِ المُدوَّرِ وأعبِّئُ قِربَتي ببسْمَةِ ابنةِ الجارِ المحروسةِ بغمَّازَتَيْنِ، وأقترضُ شلَّالًا صغيرًا من صديقِيَ الرَّبيعِ، وكنتُ أَلُفُّ قلائدَ العُلَّيْقِ البرِّيِّ وجداولَ الوادي حولَ عنُقي،
وأُسافرُ وحدي.
وأَعودُ وحدي إلى أوَّلِ الأرضِ.

(٦)
كان ذلك، قبلَ أنْ يرتديَ الوحْلُ نظَّاراتٍ برَّاقةً وقُبَّعةً؛
وقبلَ أَنْ تتدرَّبَ الكلابُ المُهجَّنَةُ على ضبْطِ أصابعِ الدَّيناميتِ ورائحةِ الهيرووين وغبارِ الرَّصاصِ والسَّحنةِ الشَّرقيَّةِ؛
قبلَ أنْ يُعلِّبَ "جون ستيوارت ميل"(٧) الحرّياتِ ويوزّعَها أحفادُهُ على طواحينِ المالِ ودفيئاتِ الصَّواريخ؛
وقبلَ أنْ يُسرَّحَ الجنديُّ الشُّجاعُ "شفايك"(٨) من خدمتِهِ العسكريَّةِ.
آنَئِذٍ، كانَ في قلبي مُتَّسَعٌ لعشرةِ ليتراتٍ من الدَّمِ الدافئِ ومحيطٍ من الدُّموعِ المعدنيَّةِ.
وكنتُ أسافرُ وحدي.
وأعودُ وحدي من آخرِ البَحْرِ الكبيرِ إلى ضِفَّتي الأولى.

(٧)
التقيتُ في الطَّريقِ امرأةً تكتُبُ رسالةً وتُلقيها على غاربِ البَغْلِ العنيدِ، قبلَ أن يصيرَ البغلُ حصانًا شبِقًا ومديرَ أعمالٍ. كانت تبحثُ عن جُمجُمةٍ صغيرةٍ مكسورةٍ، تحتَ جدارِ الهيْكَلِ. قالَتْ: سقَطَ الهيكَلُ على رأْسِ ابني، فتصدَّعَ.

(٨)
حينَئِذٍ، في القديمِ القديمِ،
قبلَ أَنْ يتحوّلَ الكلامُ إلى أقنعَةٍ من جلْدِ الحِرباءِ،
قبلَ أَنْ تصطَفَّ الحروفُ على شراشِفَ صفراءَ نُسمِّيها صُحُفًا لحجبِ الحقيقةِ ولزركشةِ الدَّمامِلِ،
قبلَ أَنْ تُصابَ الجرذانُ بالسُّمنَةِ الزّائدةِ في بالوعاتِ المدينةِ،
قبلَ أَنْ تنكمِشَ المسافاتُ وتُحْشَرَ في فُوَّهةِ مُسَدَّسِ كاوبوي في حانَةٍ كونيَّةٍ،
وقبلَ أَنْ تحتشِدَ أراملُ العالمِ السّوداءُ في زقاقِ "وولْ سْتريتْ"(٩)،
كانَ لي قلبٌ أوسَعُ من تَحليقةِ نسْرٍ أضاعَ اليابسةَ.
وكنتُ سأُسافرُ وحدي.
وأَعودُ وحدي من آخرِ الأرضِ.

(٩)
في الرِّحلةِ الأخيرة، قالَتِ المرأة ذاتُ القِرْطِ الخشبيِّ المُعَلَّقِ في أَنْفِها: نحنُ عَيْنٌ مفقوءةٌ ومنصَّةٌ لتصويباتِ الرُّمْحِ، يا بُنَيَّ.
ها قد تفتَّتَ وجهي اليَوْمَ، فحمَلَتْهُ أسرابُ عصافيرِ الكَربونِ المُقوَّى في مناقيرِها الباردةِ.
وها قد احترقَ كبِدُ "بروميثيوس"(١٠) على النَّارِ التي سرَقَها.
وابتَعَدَ القَديمُ،
أشلائي ما زالَتْ مُبعثرَةً في حواصلِ العصافيرِ المُهاجرةِ، خلفَ حدودِ مصْرَ القديمةِ وبابلَ وقرطاجَ والأمازون.
وأوزيريس(١١) صارَتْ تعملُ مُوظَّفَةً على الحدود قربَ بحرٍ "سُوفْ"(١٢)،
يداها مزدحِمتانِ بالنِّسْيانِ ومدخولُها لا يكفي للعِشقِ والسَّفر.
_______________
إضاءات:
(*) أسماء رمزيّة، اعتباطيّة، في نظريّة لعلوم الأنتروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي،
.


لإرسال مقالاتكم و مشاركاتكم
يرجى الضغط هنا

ليست هناك تعليقات