منذ سنوات بعيدة تتردد كلمة "العالمي" و"العالمية" كثيرا في الصحافة والإعلام في العالم العربي في الإشارة إلى ما تحققه بعض الأفلام أو بعض الممثلين من نجاح وشهرة ونجومية خارج الدائرة المحدودة للجمهور في بلادهم. وقد أصبح موضوع "العالمية" حسب المفاهيم السائدة، هاجسا يستحق السعي المحموم والتكالب أحيانا على "شراء" أو "إستئجار" مخرج أجنبي، أمريكي أو فرنسي مثلا، لكي يخرج لنا فيلما نموله بأموالنا العربية، تحت تصور أننا هكذا يمكن ان نصبح "عالميين" وان نصا إلى الجمهور في العالم وخصوصا، في الغرب.
وقد أنفقت المؤسسات الرسمية في العالم العربي عشرات إن لم يكن مئات الملايين من الدولارات خلال الخمسين عاما الماضية، من أجل الوصول إلى تلك العالمية المفقودة دون أن تصل إليها قط.
تارة يتم استقدام مخرج لكي يخرج لنا فيلما عن ظهور النفط والغاز، وتارة أخرى يتم تنظيم وإقامة مهرجان سينمائي كامل بكل مسلتزماته على غرار مهرجان آخر يقام في الولايات المتحدة ضمن شروط ومعطيات أخرى مختلفة تماما وفي بيئة شديدة الاختلاف. وبكل أسف تفشل تجربة الفيلم، وتجربة المهرجان، وتضيع الملايين هباء منثورا!
وقبل ذلك، في السبعينيات، كانت تلح على المخرج العربي (السوري الأمريكي) فكرة صنع "أفلام عالمية" أي أفلام يشترك فيها ممثلون من النجوم المشاهير في الغرب، وتكون ناطقة بالإنجليزية تحت دعوى أننا هكذا يمكننا أن نخاطب العالم. ومع كل تقديري واحترامي لجهود المخرج الراحل الكبير العقاد، إلا أن فكرته التي كانت ترمي وقتها إلى توظيف المال العربي (خاصة من بلدان النفط) من أجل إنتاج أفلام كبيرة مبهرة على النمط الهوليودي أي أفلام تمتليء بالمناظر المثيرة والحركة والمغامرات والصدامات أيضا (بتأثير التحفة السينمائية الشهيرة "لورانس العرب" للمخرج ديفيد لين). فكان أن حصل العقاد على تمويل من العقيد القذافي وأنتج وأخرج فيلم "الرسالة" ثم فيلم "عمر المختار" أو "أسد الصحراء" حسب إسمه في النسخة الناطقة بالانجليزية. ولكن العقاد لم يستطع رغم الميزانيات الهائلة التي أنفقت على الفيلمين وخبراء المؤثرات الخاصة الذين استعان بهم، أن يصل إلى تلك العالمية المنشودة، وفشل الفيلمان في الأسواق الغربية رغم ما بذل فيهما من جهد ورغم الاستعانة بممثلين من النجوم العالميين (جاء العقاد بأنطوني كوين لكي يلعب دور عمر المختار كما لعب دور حمزة عم الرسول في فيلم الرسالة). فقد كان الفيلمان يعانيان، شأن معظم أفلام العقاد، من الإطالة والاستطرادات وبطء الإيقاع، مع المبالغة الشديدة في تصميم المواقف الدرامية والميل إلى تصوير مشاهد المعارك بالتفصيل على طريقة أفلام الخمسينات، مما كان يخرج كل الفيلم عن رصانة الموضوع الذي يتناوله.
وقبل اربع سنوات أنفقت ميزانية ضخمة من المال العربي على فيلم "الذهب الأسود" الذي استعين بالمخرج الفرنسي الشهير جان جاك آنو لاخراجه وإسناد الأدوار الرئيسية إلى أنطونيو بانديراس وفريدا ينتو وطاهر رحيم. وكان الهدف أن يروي الفيلم قصة الصراع القديم (والذي لايزال يدور في عالمنا العربي) بين التمسك بالتقليد ومقاومة الحداثة، وبين متطلبات العصر الحديث التي تفرض نفسها، كانت قصة الفيلم تصور الصراع بين أميرين من أمراء العرب بعد ظهور النفط، أولهما يرغب في نقل البلاد إلى العصر الحديث وإدخال الخدمات للشعب والثاني يقاوم هذه النقلة بدعوى زقف زحف قيم "الحضارة" المادية. هذا الفيلم أيضا ذهبت الملايين التي أنفقت عليه هباء فلم يحقق شيئا في أسواق السينما الغربية.
المشكلة الرئيسية أن تمويل أفلام يراد لها أن تصبح عالمية، ينطلق دائما من فكرة "الدعاية"، سواء للنظام الحاكم (كما فعل صدام حسين مثلا الذي أنفق عشرات الملايين على فيلم "القادسية") أو لأبطال العرب وبطولاتهم ومعاركهم من أجل الاستقلال. وقد أنفق الأخضر حامينا مثلا ميزانية مؤسسة السينما الجزائرية في عامين على إنتاج فيلمه الملحمي الطويل "وقائع سنوات الجمر" الذي حصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي لرغبة الفرنسيين وقتها في تحقيق نوع من التصالح مع الجزائر والتكفير عن عهود الاستعمار ولو بتكريم فيلم يصور كيف امكن أن ينال الجزائريون استقلالهم عن فرنسا.
اما ما نقصده بـ "المشكلة" هنا فهو أن الفيلم الدعائي لا حياة له عادة، فالجمهور في العالم يدرك بحسه التلقائي انه يشاهد عملا ممولا بغرض الدعاية والترويج لصورة ربما يراها أيضا متناقضة مع ما يعرفه عن الواقع، أو ما يقرأ عنه يوميا في الصحف ويشاهده على شاشات التليفزيون، فأنت لن تستطيع أن تحسن من صورتك إلا إذا تحسن الواقع في بلدك أولا.
والحقيقة أن "العالمية" في السينما ترتبط أساسا، بوجود شبكة هائلة لتوزيع الأفلام في العالم، وهي شبكة مملوكة لعدد معين من الشركات الأمريكية الكبرى، وهي التي تملك أن تجعل من فيلم مثل "زوربا اليوناني" مثلا فيلما عالميا، وتجعل من مخرج سويدي كان مغمورا مثل بيللي أوغست، مخرجا "عالميا" أي منتشرا ومعروفا بتأثير أفلامه (الناطقة بالانجليزية) التي يشارك فيها ممثلون مشاهير من بلدان مختلفة.
لكن ما لا يدركه القائمون على مؤسسات التمويل السينمائي في العالم العربي أن الجمهور في الغرب وكذلك النقاد بل والمهرجانات السينمائية التي تحتفي بأعمال السينما الفنية، يفضلون الأفلام ذات الحس النقدي، التي تعبر من خلال أساليب فنية حديثة ولغة سينمائية رفيعة، عما يحدث في الواقع من تناقضات، وما يمكن أن تؤدي إليه هذه التناقضات، ولكن من خلال الرؤية السينمائية للفنان الذي يصنع الفيلم وليس من خلال أفكار موجهة وقصدية يتم التخطيط لها مسبقا ليكتبها من لا يشعرون أصلا بل وربما لا يفهمون جدلية الواقع في بلدان العرب، فليس أقدر من أبناء تلك البلدان على التعبير بصدق عن واقعهم، ليس من خلال السينما الواقعية او الأفلام التاريخية فقط، بل من خلال سينما التعبير الذاتي، التي تكشف وتعري وتنتقد وتصرخ، وتتمرد على المألوف، وتجتريء لتقتحم المناطق الفكرية في مجال ما يعرف في الأدب بـ "المسكوت عنه". فلو تقاعس طه حسين مثلا، ولم يكتب روايته ذائعة الصيت "دعاء الكروان" التي أخرجها بركات في فيلم بديع عام 1959، فربما ظلت أفكارنا عن الصعيد المصري أفكارا عتيقة لا تمت بصلة لما يكمن تحت سطحه الساكن الجاف!
ليست هناك تعليقات