أخبار الموقع

اهــــــــلا و سهــــــــلا بــــــكم فــــــي موقع مجلة منبر الفكر ... هنا منبر ختَم شهادةَ البقاءِ ببصمةٍ تحاكي شَكلَ الوعودِ، وفكرةٍ طوّت الخيالَ واستقرتْ في القلوبِ حقيقةً وصدقاً " اتصل بنا "

«عبد السلام المسدي يشرّح «فضاء التأويل » ... بقلم : حربي محسن عبد الله



  عبد السلام المسدي يشرّح «فضاء التأويل »
    بقلم :  حربي محسن عبد الله
  22/2/2017


« مجلة منبر الفكر »
حربي محسن عبد الله      22/2/2017

بين أيدينا كتاب «فضاء التأويل» وهو من الكتب التي تنتمي إلى بحوث علم اللسانيات وصاحبه الدكتور «عبد السلام المسدّي» أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية، ومجال كتاباته هو العلوم اللسانية ومناهج النقد الحديثة والظواهر الثقافية والسياسية فضلا عن النصوص الإبداعية


يبدأ الدكتور المسدّي كتابه هذا بإهداء لافت يقول فيه:
«إلى كل من آمن بالعقل ولم يتنكر للإيمان، إلى كل من آمن بهويته ولم يجحد حق الآخرين». بهذه الكلمات يأخذنا إلى التساؤل عن فضاء التأويل وإلى أي ضرب من ضروب الكتابة ينتمي؟ فيجيب قائلاً: 
«قل هي خواطر، والخاطرة ما يأتيك وأنت لا تناديه ولكنك تسعد بمجيئه. أو قل هي تأملات، والتأمل فعلٌ تتهيّأ له وتمنحه وقتك وعزمك وصفاء ذهنك. وستصدق لو قلت هي رؤى يروح فيها الفكر ويغدو مستسلماً لخيالات بديعة فيها إمتاع ومنها إفادة. فلا تسل عنها كيف كُتبت؛ ولا تسل أين ولا متى؛ خذها في الراهن، وانزع عنها سدائل الظرف، والتمس فيها ما يناجيك كأنها النص يراودك أن تنسى صاحبه كي يكاشفك بوحاً وفيضاً»
وقبل أن نتصفح ما جاء في الكتاب نتوقف قليلاً عند علم اللسانيات فتعريفه مفتاح لقراءة الكتاب وضوء كاشف عما في ثناياه من قيمة وفرادة.

«اللسانيات Linguistics علم يدرس اللسان البشري الذي تظهر أصواته وتتحقق في لغات كثيرة ولهجات عدة وصورٍ مختلفة من الكلام، دراسةً تهدف إلى الكشف عن ماهية كلٍ منها، والآلية التي تعمل بها، منطلقاً من أن كلَّ لغة ليست إلا منظومة كُليَّةً لها سماتها وخصائصها وعناصرها وبنيتها ومستوياتها التراتبية. وعندما تتخذ اللسانيات من اللسان موضوعاً لها فإنها تدرسه دراسةً موضوعية، وصفيةً وتاريخيةً ومقارنةً، للكشف عن القوانين العامة التي تفسر الظواهر اللغوية الخاصة بكل لغة، وعن القوى المؤثرة في حياة اللغات في كل مكان، وتدرس أيضاً العلاقات القائمة بين اللغات المختلفة، أو بين مجموعة من هذه اللغات، وتبحث في وظائفها وأساليبها وعلاقاتها بالنُظُم الاجتماعية المختلفة».

منهج اللسانيات وصفي، تجريبي واستدلالي في الآن ذاته، فهو ينطلق من الظاهرة اللغوية إلى استنباط المعايير التي تنظمها وتضبطها، ولا يقف من اللغة موقفاً قبلياً ينطلق من معيار سابق على الظاهرة اللغوية. ويقوم المنهج الوصفي على الوصف والمعاينة ثم الاختبار والتصنيف والتبويب والاستقراء والتحليل الإحصائي وصولاً إلى استنباط القوانين التي تنظم الظاهرة، لاجئاً إلى استعمال المُثُل والأنماط الرياضية في نظم هذه القوانين، ثم يقوم بتعليلها ليكوّن منها نظرية لسانية عامةً فعالة قابلة للتطور.

واللسانيات – بهذا الفهم – علم حديث أرسى أسسه في مطلع القرن العشرين فردينان دي سوسورF.de Saussure عندما ألقى «محاضرات في اللسانيات العامة» فحَّدد بذلك إشكالية المسألة اللسانية، بعد أن اتخذ موقفاً نقدياً من تصورات مسبقة من اللغويين المتقدمين الذين انطلقت دراساتهم للغة من وظيفة رئيسة هي الحفاظ على النصوص المقدسة، أو من اللغويين المتأخرين، خصوصاً في القرن التاسع عشر الذين نظروا إلى اللغة على أنها آلية تاريخية، من غير أن ينظروا إليها من حيث وظيفتها التواصلية داخل المجتمع الإنساني.

وقد أدت «محاضرات» سوسور إلى تحولٍ جعلَ دراسة اللغة «بذاتها ولذاتها» الوظيفة الأهم في اللسانيات، حيث يتقدم الداخلي (ذات اللغة) على الخارجي (المجتمع والدين والثقافة والسياسة والاقتصاد والفلسفة). ومن الجدير ذكره أن هناك بذوراً لتكوين مدرسة لسانية عربية بسعي من عبد القادر الفاسي الفهري (المغرب)، عبد الرحمن الحاج صالح (الجزائر)، عبد السلام المسدّي (تونس)، إبراهيم أنيس وكمال بشر وتمام حسان وأحمد مختار عمر وسعيد مصلوح (مصر)، عبد الرحمن أيوب (العراق)، ميشال زكريا وبسام بركة وموريس أبو ناضر (لبنان)، رضوان القضماني ومنذر عياشي ومازن الوعر (سورية).

كتاب «فضاء التأويل» صادر عن مجلة دبي الثقافية باستهلال وخمسة فصول جاءت على الشكل الآتي: الفصل الأول بعنوان «أفق الانتظار وضمير العاقل» والثاني «الذات الثقافية وضمير المخاطب» والثالث «الذات السياسية وضمير الجمع» والرابع «الذات اللغوية وضمير المتكلم» والفصل الخامس «الذات الجمالية وضمير الغائب». ينطلق الكاتب من ملاحظة دقيقة ومهمة جداً لما طافت بثقافتنا من أدوار «فدالت عليها حقب وأطوار، فإذا بعض سماتها أن الناس أمسوا يجنحون في كلامهم الثقافي نحو العموم فيسرفون، وقلّ منهم من يطلب الخصوص أو يصبر عليه، تراهم متعجلين يكتفون من الفهم بأقصره طريقاً وأيسره منالاً، ومن الإدراك بما هو على وجه التقريب لا على وجه التمحيص،

والأمر من الذيوع حيث أضحى يشمل أولئك الذين من المظنون فيه أن يكدّوا كدّاً في استبيان الفروق، وأن يحرصوا عند كل حديث على تفصيل المتشابه حتى لا يحشروا خواطر الفكر حشراً يختلط فيه الجنيس بغير جنيسه». من هنا يصل إلى نتيجة مؤداها «أن الفكر لن يستقيم إلا بعد أن يتصالح مع الأداة التي بها يشتغل وإليها يلجأ في الإفضاء والتجلي،

فما لم تَسْلم روابط الذهن بالمعاني وبظلال المعاني فسيعمّ استخفافنا بفروق الدلالات، وسنظل في خصام مع المقاصد، وفي ذلك إيذان بعلو سلطان الالتباس وانهزام سلطان التبيان». من هنا تحرص صفحات الكتاب التي تمد يدها إلى القارئ كما يقول الكاتب على أن تجوس خلال المطويات من الوعي واللاوعي عسى أن تحاورك فيما تهمله العين المجردة أو تغض طرفها عنه، وليكن الميثاق بينك وبينها أن ثقافة المسافات الوسطى ليست كفيلة بأن ترقى بنا إلى المنازل التي نحن جديرون بها، وأن فريضة التاريخ تحملنا على السفر إلى المناطق النائية:

 تطوف مرة بالشأن الصغير، بل بالمتناهي في الصغر، لأن رحلة العلم الآن هي إليه، ثم نسائل المتناهي في الكبر. ثم يقف أمام الترادف فيقول عنه إنه أي «الترادف ليس إلا حكماً نخلعه على الكلمات فلا نبرح نجرف تضاريس اللغة ونسويّ هضاب المعاني بسهول الدلالة فيختلط الخفي منها بالجليّ، ويمتزج المستتر بالمنكشف، فيذوي البيّن خلف سديم المتواري». ثم يتساءل قائلاً: «أفلا نرى كيف أن غياب الفروق في أعرافنا بين معنى العدو ومعنى الخصم ومعنى المنافس قد جرّ علينا ما جرّه خلطنا بين الصديق والمُناصر والحليف؟»..

لا يمكن لقارئ كتاب «فضاء التأويل» إلا أن يقرأه بتأنٍ وصبر كبيرين لجزالة لغته وكثافة مادته وسعة الأنساق المعرفية التي يجوس خلالها. ونختم هذه العجالة بهذه الفقرة التي يقول فيها: (نعلم أن الجويني النيسابوري إذ كان يعدد شروط تحصيل العلم ذاك الذي نصطلح عليه الآن باكتساب المعرفة، قال: «ذكاءٌ وحرصٌ وافتقارٌ وغربةٌ…. وتلقينُ أستاذ وطولُ زمانِ». فكان فضله أن اختصر العبارة مختزلاً فوائضها بجمع هوامل المعنى رغم امتداده وترامي شعابه. يعنينا أنه كان ينطق باسم أعراف غدت فيما مضى موطىء إجماع، فهي بذلك جزء من النسيج الثقافي، ولئن أولت الذاكرة الجماعية قولة الجويني منزلة خاصة فلأنها تطوف بمسافات المقاصد في ثوان رغم تنائيها، ولأنها تترك الأبواب مفتوحة على القراءة حسب شروط التاريخ والمعرفة…).



لإرسال مقالاتكم و مشاركاتكم
يرجى الضغط على كلمة  هنا


ليست هناك تعليقات