أخبار الموقع

اهــــــــلا و سهــــــــلا بــــــكم فــــــي موقع مجلة منبر الفكر ... هنا منبر ختَم شهادةَ البقاءِ ببصمةٍ تحاكي شَكلَ الوعودِ، وفكرةٍ طوّت الخيالَ واستقرتْ في القلوبِ حقيقةً وصدقاً " اتصل بنا "

« ثمّة ما أقول لكم » لحنيف قريشي « سرد ما بعد الحداثة » بقلم : محمد جاد

« ثمّة ما أقول لكم »  لحنيف قريشي « سرد ما بعد الحداثة ووهم الحقائق المُطلقة »

بقلم : محمد جاد


ما يشغل قريشي دوماً، هو البحث عن العيش، أو طريقة للعيش في مجتمع متتعدد الهويات والثقافات، فكرة الأصول الباكستانية والديانة المختلفة التي يعيش من خلالهما قريشي، أو يُظن ذلك، من أهم أسباب التفكير من خلال البحث عن مكان، أو العيش من خلال هوية مُستحدثة، رغم كل ما يحيطها من ظلال وشكوك.

هناك العديد من الآراء التي ترى أن العولمة وترك المساحة، ولو قليلاً، للثقافات الأخرى، دون المُعتَمَدة كثقافات رسمية أو حضارية، هو ما أتاح لقريشي أن يكتب عن هذه الفئات والأجناس، وأن يكشف صور أخرى لأوروبا، وخاصة إنكلترا.

في روايته الأخيرة (ثمّة ما أقول لكم)، أصبح أمر الهوية أو سبّة العنصرية، والاختلاف الثقافي وموروثاته، آفات تعيشها الشخصيات نفسها، من دون أن توجّه إليها هذه الصفات، أو التصنيفات، على أساس اللون أو الديانة، أو ما شابه على أنها هذه السُبّة.

الأمر اللافت في هذا العمل، هو تقنيات الكتابة التي أراد قريشي أن يسرد من خلالها الحكاية، مسألة التفتيت هنا أصبحت لا تنفصم عن المحتوى أو الفكرة الأساسية للعمل، فالأمر يبدو تقنياً أشبه بوجهة نظر ما بعد حداثية، حيث مبدأ التجاور، وعدم الإعلاء من شخصية أو حدث على حساب آخر، فلا بطولة لأحد، وبالتالي لا حقيقة جديرة بأن يأخذها القارئ على محمل الجد.

هذا الأسلوب وهذه التقنية أتاحا لقريشي أن يمد الفكرة أو الحلم إلى أسلوب السرد نفسه، هناك محاولة للحياة، حتى وإن كانت مُكللة بلعنة دائمة، هي في حقيقتها لا أهمية لها على الإطلاق.

جمال وحكاياته

«أنا أحيا كل يوم مع جريمة قتل سابقة/جريمة قتل حقيقية/أنا قاتل/ها قد أخبرتكم، وخرج السر». هذا ما يعترف به (جمال) في البداية، المحلل النفسي، الذي ينظرون إليه وفق ثقافتهم ــ أهله ورفاقه ــ بأنه لا يفرق بأي حال عن مفسري الأحلام والدجالين.

هنا لا تصبح هذه الاعترافات إلا مجرد اعترافات، لا تشكل أي أهمية في سرد الأحداث، بل يتورط جمال في حكايات الأصدقاء والرفاق أكثر، أي أنهم يتصدرون ناصية السرد، ليصبح جمال ممارساً لمهنته، بأن يستمع فقط، والقارئ معه. لا توجد حبكات، بل قصص متجاورة.

هناك حياة الراوي مع ابنه وانفصاله عن زوجته في لندن، ثم العودة للأهل في باكستان، ومقابلة حبيبته القديمة، وهكذا أحداث لا تتميز بأي مركزية يدور حولها العمل، بل فقط حالة يمكن اكتشافها من الشخصية وما يحيطها، تماماً كفوضى الحياة ومصادفاتها.

فالمقتول أو الضحية نكتشف أنه والد حبيبته القديمة، وأن الرجل لم يمت، فقط قام الراوي بضربه هو ورفاقه، لكن الفعل تضخم في مخيلته، ليصبح جريمة قتل. الأهم هنا، وهو ما يحاول قريشي التأسيس له، هل يكمن في الواقع وما حدث بالفعل، أم ما عاشته الشخصية وعانت بسبب؟ فأين الحقيقي من الخيالي، وأين المفر من تأثيره على الشخص وتصوراته وبالتالي حياته كلها؟

الحالات مقابل الدراما التقليدية

يؤسس المؤلف لفكرة الوصف والحالة، بعيداً عن تحقيق هدف درامي، من حكاية تتصاعد ويتم بناء تفاصيلها، الأمر يقترب من الكوميديا السوداء في بعض الأحيان، لكنه أصدق من تحقيق نتائج درامية، ولو خارج نطاق التوقع.

فعندما يصل جمال وشقيقته إلى باكستان يتعرضان إلى حادث سرقة بالإكراه من بعض المسلحين، فبعد التهديد الفعلي، واكتشافهم أن جمال وشقيقته لا يملكان شيئاً بالفعل، لم يجد المسلحون إلا أن يقلّونهما إلى أقرب مكان لمنزلهما.. هنا يصبح الأهم هو وصف حالة الفقر التي يحياها أغلب سكان المدينة.

الشخصيات وألوانها

«عاهرة ومحلل نفسي قضيا المساء معاً، وعندما انتهيا التفت كل منهما للآخر، وقال: 300 جنيه من فضلك».
بهذه السخرية يتحدث جمال عن نفسه، جمال صاحب الثقافة الرفيعة، والمداوم على تناول المخدرات، وارتياد أماكن الجنس بأجر، والذي يصل إلى لحظات صدقه خلال مقارنات لافتة «كل ما أردتُ وقتها هو أن أجعلها تضحك، ووقع بخلدي أنني لطالما أردتُ زوجاتي أن يكن عاهراتي، وعاهراتي أن يكن زوجاتي».

كل الشخصيات تحمل هذه الأوجه المختلفة، ولو بنسبة ما، لكن لا توجد شخصية ــ رغم رسمها الدرامي الكلاسيكي المقصود ــ إلا وتحمل صفات وصيغات كاملة تثير الدهشة. فالمجرم العتيق على سبيل المثال يؤرقه أنفه سيئ الشكل، بينما المثقف وصاحب الرؤى الفلسفية، لا يتورع عن النظر واشتهاء صديقة ابنه.

جماليات النص ما بعد الحداثي

يُشير المترجم ناجي رشوان في مقدمته المستفيضة، والخاصة بالسرد في أدب ما بعد الحداثة، إلى جماليات هذا الشكل السردي، من خلال رواية «ثمّة ما أقول لكم».

فيرى أن الرواية تشكك في النماذج التقليدية والحداثية في الأدب، تشكك بها دون أن تنفيها، وتسخر من قدرتها وبداهتها على طرح ما يدور في عقل ونفس الشخصيات، وكيف للحدث نفسه أن يُطرح في ذهن ما – المؤلف/الراوي/المتلقي – دون تحريف أو تنقيح أو تنظيم، أو حتى ادعاء، بفرض أنه من الممكن أن يكون هذا الحدث المروي حقيقة وقعت.

فحالة التهويم التي تطرحها الرواية، من خلال الأحداث والشخصيات وأفعالها ومبرراتها الواهية، كذلك الزمن الحكائي. فحتى قصة الحب التي أرَّقت الراوي طوال الرواية، تطالعه بطلتها برأيها، بأنهما لو قدّر لهما البقاء معاً، لانفصلا، وصارا صديقين كما هما الآن. حتى هذه العلاقة من الممكن ببساطة شديدة أن يُعاد تعريفها والعيش من خلال هذا التعريف الجديد، أو الاكتشاف الجديد. وهنا نصل أو نحاول الوصول إلى إعادة التفكير في البدهيات.. هل هي كما تبدو؟ أو كما يمكن تلقيها؟ أو كما يمكن توقعها؟ وما دور ذلك في حياة الشخصية وسلوكها وانطباعاتها، وبالتالي تقاطع باقي الشخصيات معها، خلال هذه الأسئلة التي لن تنتهي. «إن أعمق منطقة في الإنسان تكشف عن مدى جنونه الذي يرفض الاعتراف به/يُخيفه احتمال قضاء الآخرين عليه/وفي الوقت نفسه تزعجه رغبته في التهامهم».

حنيف قريشي

كاتب إنكليزي من أصل باكستاني ولد عام 1954.
بدأ بالتأليف المسرحي مع (تبليل الحرارة) 1976، و(الأم البلد) 1980، ثم كتب للسينما، وحاز أول سيناريو يكتبه لفيلم بعنوان (مغسلتي الجميلة) إخراج ستيفن فريرز، على جائزة أفضل سيناريو من جمعية نقاد نيويورك، كما رشح لجائزة الأوسكار لأحسن سيناريو 1985. أصدر روايته الأولى (بوذا الضواحي) 1990.

وفي عام 1991 قام بكتابة وإخراج فيلم بعنوان (لندن تقتلني) وتوالت أعماله الأدبية.. رواية (الألبوم الأسود) 1995، مجموعة (الحب في زمن الحزن) 1997، (حميمية) 1998، التي تحولت إلى فيلم بالعنوان نفسه، فاز بجائزة الدب الذهبي بمهرجان برلين السينمائي.



ليست هناك تعليقات