مع التسامح الذي استهل الإسلام دعوته به، تأسس مجتمع المدينة، وانتقل الناس من حياة البداوة والقبيلة والولاء لها الى الولاء للحقّ والخير العام. وأصبح أهل المدينة بمن فيهم المسلمين وغيرهم مجتمع واحد، ونواة أولى للدولة الواحدة وفقا للوثيقة التي وقّعها الرسول الأكرم. فتسامح المسلمون فيهما بينهم تاركين خلفهم دعوات العصبية للقبيلة والبلد، وأظهروا التناصر والتلاحم على أسس جديدة هي أكثر إنسانية من ذي قبل.
المسامحة هي فعل انساني خالص، لا يشارك الإنسان في هذا القيمة إلا الخالق عز وجل. وهي بمعني آخر نسيان آلام الماضي وأهواله والتخلص من عذاباته وتأوهاته وندمه، وفتح صفحة جديدة مع الحياة. وكأنه ابتعاث جديد للحياة واستئنافها بحكمة غير مصحوبة بكره أو غضب أو حزن بل مصحوبة بجرعات من الأمل والتفاؤل والرحمة والتقبل والتقدير للحياة واحترام كامل للسنن ومراعاتها في طلب الرزق والمكانة والتقدير.
أما التسامح فهو يتضمن القدرة على إنزال العقوبة مع الاختيار الحرّ والواعي لعدم استخدامها، انطلاقاً من المغفرة التي أتت بفعل المجاهدة الداخلية، وبعد تفكير متأنٍ ان التسامح هو أفضل طريق لمداواة آلام الذات التي ألحقها الجاني بضحيته التي آثرت المغفرة على العقاب وبادلت الرحمة بالأذية.
ويتطلب التسامح مغفرة الانسان لنفسه، وتخلصه من آلامه قبل مسامحة الآخرين. فلا يمكن للإنسان أن يكون متصالحاً مع غيره وهو يخوض حرباً لا هوادة فيها على ذاته ومبادئه، ملقياً باللوم على نفسه، جالداً لها ليل نهار حتى تهترئ وتتمزق.
ولعل الفيلسوف الإنكليزي "جون لوك" أول من كتب في الفلاسفة حول التسامح، في كتابه في "رسالة في التسامح" حيث وجد أنه "ليس لأي انسان سلطة في أن يفرض على انسان آخر ما يجب عليه أن يؤمن به أو أن يفعله لأجل نجاة نفسه هو، لأن هذه المسألة شأن خاص ولا تعني أيّ انسان آخر. إن الله لم يمنح مثل هذه السلطة لأي انسان، ولا لأية جماعة، ولا يمكن لأي انسان أن يمنحها لإنسان آخر فوقه اطلاقاً".
وعلى الرغم من أن كثير من فلاسفة عصر التنوير دعوا إلى التسامح الديني إلا أنهم أهملوا "التسامح السياسي" إذ أن الاختلافات في الأيديولوجيات السياسية التي ظهرت لاحقاً قد تسببت في مقتل وتشريد الملايين في عموم المعمورة في حربين عالميتين مدمّرتين، ولا تزال الأيديولوجيات السياسية تفتك بخصومها حتى يومنا هذا.
وقد طور الفيلسوف الأميركي "جون ستيوارت مل" مفهوم التسامح في كتابه "عن الحرية" حيث رأى بان التسامح يمتنع معه الاعتقاد في حقيقة مطلقة، أي يمتنع التسامح كفعل مع "الدوغما" (dogma) أو الذين يتبنون ايديولوجيات مطلقة. والإنسان، من وجهة نظره، "قد يتحمل الانشقاق ازاء الاسلوب الذي تمارسه الكنيسة، ولكنه لن يحتمل التسامح ازاء الدوغما. ومن ثم ليس بالإمكان نقد الدوغما من قبل اصحابها، لأن سلطان الدوغما تأتي من مصدر غير عقل صاحب الدوغما. والدوغما تلزم المؤمن بعقيدة معينة".
ويرى "راينر فورست" في كتابه "التسامح في النزاع" أن "التسامح الذي يستوجبه النزاع لا يحلّ هذا النزاع، بل يعمل فقط على تسييجه والتخفيف من حدّته، أما تناقض القناعات والمصالح والممارسات فيظل قائما، لكنه يفقد، نزولا عند اعتبارات معينة، طاقته التدميرية".
وتعتبر التربية على التسامح السياسي والتعايش السلمي غاية إنسانية نبيلة تسعى البشرية لتحقيقها على امتداد تاريخها الحضاري. فهي دعوة للسلام مع الذات والأخر. وهي تنطلق من الدائرة الأوسع أي الدول والشعوب إلى الدائرة المتوسطة أي الجماعة فالأصغر أي الأسرة وصولاً إلى الإنسان نفسه. فلا تتحقق قيمة الإنسان ولا يشعر بحياته ما لم يشعر بالسلام والتقبل والتفهم من الآخرين له. ويعتبر التسامح مبدأ من مبادئ حقوق الإنسان حيث يتضمن الحرية والمساواة. وهو نابع من السماحة أي اعتراف بثقافة الآخر.
والتسامح على أنواع وفقاً لما يراه "فهد إبراهيم الحبيب" في كتابه "الاتجاهات المعاصرة في تربية المواطنة" منها: التسامح الديني الذي يسمح بالحرية والتعددية الدينية ولا يجعلها أساساً للإقصاء والتهميش. والتسامح العرقي الذي يترتب عليه التخلي عن الميز العنصري بسبب اللون أو الجنس. والتسامح الفكري مع الأطروحات والاتجاهات والأيديولوجيات دون تعصب أو اصطفاف. والتسامح السياسي وهو ما يعني ضمان الحقوق للأفراد من قبل السلطة وفيما بينهم داخل المجتمع.
وإذا جئنا إلى مفهوم التسامح في الإسلام نجد أنه نال عناية بالغة، خلافاً لسلوكيات كثرين ممن ينسبون أفعالهم للدين الإسلامي اليوم، حيث دعا إلى التسامح كونه سُنّة وجودية قائمة على طبيعة الاختلاف والتنوع بين بني البشر. قال تعالى:
(يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا). (الحجرات:13).
والاختلاف الذي قرّره القرآن هو تنوع في الأمزجة والطباع والميول والاتجاهات والمواقف. ونجد انعكاسا لهذا التنوع في التعدد الديني والممارسات الدينية من طقوس وشعائر. كما نجده في المنطلقات الفكرية. وهو تنوع يفترض انه يثري التفكير والتكامل ويحفز على الاطلاع وتحمل المسؤوليات. وقد أشار القران الكريم الى هذا الحقيقة الكونية والاجتماعية، حاثّاً من خلالها الى احترامها وتقديرها بالتعارف والتعايش والتعاون والتكامل، بقوله: (ولو شاء ربّك لجعل الناس أُمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين). (هود:118)
ولا أبلغ من التسامح الديني في الإسلام من إقرار القرآن الكريم بأن الحق عند الله وحده وان الاختصام إليه دون غيره فيما تختلف فيه الأديان وذلك في آيتين هما: (إن الذين امنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من ءامن بالله واليوم الاخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). (المائدة: 69). وقوله في معرض ردّه على المنكرين لدعوة الرسول الأكرم: (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله. وإنا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين). (سبأ:24).
والتسامح يستلزم الاحترام والتقدير والتقارب بين الشعوب وفقاً لمنطوق الآيات الواردة أعلاه. ويحمل على التعاون في نطاق الدائرة الإنسانية المشتركة التي يعود نفعها على الجميع وذلك دون المسَاس بدائرة الخصوصية أو انتهاك لذاتيتها. واتساقاً مع تلك الدعوة إلى حُسن التعامل، نرى القرآن يحذّر أتباعه ويَنهاهم عن سَبّ المخالفين للإسلام او شتم عقائدهم، قال تعالى: (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عَدْواً بغير علم). (الأنعام:108). وهناك عشرات الآيات التي تدعو الى احترام الأديان الأخرى واحترام خصوصياتها. وقد وضع القرآن جملة آداب في التعامل مع المختلفين دينياً على قاعدة البرّ والإقساط. قال تعالى:(لا ينهاكم اللهُ عن الذين لم يُقاتلُوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبرُّهم وتُقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). (الممتحنة:8).
ويخبرنا القران الكريم أن سبب الصراع مع المشركين واخراجهم من جزيرة العرب هو ان المشركين رفضوا في بداية الدعوة القبول بدين جديد الى جانب دياناتهم في المجتمع المكّي. بل وحاربوا دعوة الإسلام وحرضوا عليها والحقوا الأذى بالمؤمنين بها، وطاروا في الأرض تشويها لها وذما وتخويفا منها.
ومع التسامح الذي استهل الإسلام دعوته به، تأسس مجتمع المدينة، وانتقل الناس من حياة البداوة والقبيلة والولاء لها الى الولاء للحقّ والخير العام. وأصبح أهل المدينة بمن فيهم المسلمين وغيرهم مجتمع واحد، ونواة أولى للدولة الواحدة وفقاً للوثيقة التي وقّعها الرسول الأكرم. فتسامح المسلمون فيهما بينهم تاركين خلفهم دعوات العصبية للقبيلة والبلد، وأظهروا التناصر والتلاحم على أسس جديدة هي أكثر إنسانية من ذي قبل.
والتسامح في المدينة المنورة أرسى القواعد التي تعتبر المرتكزات الأولى لبناء المجتمع المدنيّ، حيث تمثّل فيه ضمان حرية المعتقد، وقبول الاختلاف، وتقدير ثقافة الانسان، واحترام القانون والمواثيق والاحتكام اليها هي قيم إنسانية بل هي الدعائم الأولى للتحول نحو المجتمع المدني، وتمتين اواصره وخلق الهوية الجامعة له التي تُعرف بالهوية الوطنية.
المصدر: الميادين نت
ليست هناك تعليقات