أعتقد جازما أننا نستطيع بالمقاومة أن نصنع ما يبدو الآن مستحيلا وخارج الاستبداد إن أحسنا قراءة النصوص وقراءة الواقع ،وأن الديمقراطية الغربية التي تنافسنا على الساحة السياسية بأطروحاتها الليبرالية واللا دينية لا يمكنها أن تجد لنفسها مبررا للبقاء بيننا، لأن الشارع تستقطبه المقاومة أكثر مما تستقطبه الايدولوجيا مهما كان لونها .
غير أن الشارع هذا – رغم هذا الاستقطاب – يرفض الانتصار العاطفي للخطاب المتشنج، إذ أن ما تطرحه الحضارة المادية على العقل اليوم هو هذه الاستدلالات الواعية القادرة على تحويل العقل باتجاه البراغماتية .. تساعدها في ذلك هذه الكثافة الإعلامية ، بما في ذلك الإعلانات التجارية ذات الصورة الجاذبة والجذابة معا ، وبديهي أنه لا يمكن لأي فكر أن يجابه هذه القوة العلمية بخطب تثير الشك في النفوس بتهم جائرة للرأي الإسلامي الأخر(حزب الله مثلا) أكثر مما تثير التحرر من اسر المادة والصورة الإعلامية المشوهة ..
وبديهي أيضا أن عالمنا اليوم يمتاز بالسرعة في كل شيء بما في ذلك سرعة التحولات، والمقاومة الإسلامية جزء من هذه التحولات باتجاه الموقف الصلب في وجه الردة الحضارية والذين يدعون الوصاية على الدين بدون فهم جيد لحاصل الدين وقوة التحول فيه باتجاه الموقف ضد الاستبداد السياسي والتطرف معا
بعبارة أخرى أن العالم يسير في اتجاه الإلغاء التام للحدود الجغرافية وللحدود السياسية، فأوربا توحدت جغرافيا ، وروسيا ومعها الكتلة الشرقية دخلت عالم الليبرالية ، وصارت جزءا من أيديولوجيا الغرب مع الفارق الاجتماعي بينهما،
زيادة على أن الأقمار الصناعية زحزحت الكثير من المواقف والمعتقدات بعد أن أصبحت صورتها أو البرامج التي تبثها تدخل كل بيوت العالم دون استئذان .. وصارت هذه الأقمار توزع إيديولوجية الغرب بدقة للعالم المتخلف وللعالم الإسلامي بالخصوص، ولا احد يستطيع ان يضع حدا لهذه الظاهرة الإجرامية إلا الدين، والدين الذي تحمله المقاومة يمكن إيصاله للأسرة والمجتمع بدلا من خطبة وعظية أو قراءة مرتلة للقرآن الكريم عن غير وعي ،
كما يمكن تثبيته بقوة بواسطة الاستقطاب الفكري والذي هو ظهير المقاومة، أي أن نجعل من الدعوة إلى الله مجالا للإقناع مع شعار المقاومة .. ذلك أن القران الكريم ذاته يعطينا نماذج مهمة للانطلاق نحو بناء الأسس والمرتكزات التي تؤسس عليها الدعوة ..ومن أهمها الحوار والابتعاد قدر الإمكان عن الإرغام طالما أن الرغبة ما زالت لم تتحقق بعد، يقول القران الكريم على لسان سيدنا هود (عليه السلام ):
" قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكم وها وأنتم لها كارهون .." ،
وأن نتجنب أيضا الاستبداد بالرأي حتى في المجال السياسي كما هو حاصل لدى دعاة الوهابية وأصحاب الأمركة يقول الإمام الغزالي : " أرفض الاستبداد السياسي من الحاكم كما أرفض الاستبداد الشعبي الذي يقوم به بعض المتطرفين" ..
إن استخدام المذهبية أو الطائفية كورقة سياسية ضد المقاومة خطر على الدين وعلى السياسة معا ، فالدين لا يقوم على الرغبة لآنية وإنما يقوم على مبادئ مشتركة ودائمة سواء في شقه التعبدي أو في شقه السياسي ، وإن السياسة وإن اتخذت من الصراع الكثير من وسائلها فإنها لا تعني التسوية الدينية بقدر ما تعني التسوية المعيشية في شقها المادي والاجتماعي ، وقد تكون متأصلة في أفراد المجتمع لكنها غير معبرة بالضرورة عن آرائهم ، وقد تكون نسبية ،
وبالتالي فهي لا تعني إلا جزءا من المجتمع وبالتالي تبدو عالمية في الإقحام السياسي للعنصر الديني في اللعبة السياسية – إن لم يكن الدين هو المهيمن – عمل إجهاضي، إن للمشروع السياسي ذاته أو للمشروع الديني وحتى للمقاومة، ويكون المشروع قائما على التجزيئية للمجتمع في هذه الحال ، ومع هذه التجزيئة فأن الدين لا يتقبل العمل السياسي(حال مجتمعات الخليج)، بل إن كل ما يتصل بحياة الإنسان سواء تعلق الأمر بالدنيا ام بالآخرة يحتاج إلى الدين كما يحتاج إلى السياسة، فلكل منهما دوره الخاص، والمقاومة هي هذه الثنائية، لكن أن نضغط على الناس باسم الدين للدخول في اللعبة السياسية من أجل وظائف سياسية أو وظائف تشريعية أو اتهام الأخر
فإن ذلك يعني أننا انطلقنا من نقطة اسمها السياسة " للوصول إلى نقطة أخرى اسمها المنصب السياسي .. وهذا هو الخطأ الذي يخشاه الشارع الإسلامي اليوم، إذ أن ما يدور من أحاديث على مستوى هذا الشارع هو :
لماذا تنقسم الحركة الإسلامية إذا كان الغرض من تواجدها هو الحل الإسلامي ؟
والسؤال جد مهم ، لأن الانقسام الحاصل اليوم ليس مرده لخلاف فقهي أ و مذهبي لان الاختلاف في الرأي رحمة، بل مرده تصلب بعض الأطراف في مواقفها خوفا من زوالها، لأنها لا تملك المصداقية الدينية خارج التطرف والمذهبية، ( حال السعودية) ولأن خطابها السياسي لا يطرح الإسلام كبديل بقدر ما يطرح الانتقام من المقاومة ..
ولذلك فخطابها هو مجرد خطاب للشتم والقدح مع أن هذا يرفضه الإسلام ، ويضع صاحبه خارج الدائرة الإسلامية الفاعلة والواعدة،وليس لدينا شواهد تاريخية على هذا الطرح لا في القديم ولا في الحديث .. إن العقل الإسلامي يرفض الوصاية عليه من أي طرف كان، ذلك أن القرآن الكريم حث على التفكير ، والتدبر والتمعن ، والتبصر والتعقل ، وأوجب عليه الاعتماد بالمعرفة لا بالتقليد الأعمى أو بالابتداع .
لقد تعبنا من الرؤوس الآتية من الفراغ والمقاومة(بكسر الواو) للمقاومة، وأن هذا التعب لابد وأن يتغير ، وإن لم يتغير فقد يؤدي بنا إلى الوقوع في الجاذبية المرهقة بالنسيان، لقد بعنا ذاكرتنا لشيء يسمى الانسحاب ، لكنه الانسحاب الذي يتوقف عند حدود معرفة رأي الأخر، ودائما هناك من يتجاوز الاعتراض .. إلى الاعتراض ، وإننا لفي اعتراض تام ضد أولئك الذي تجاوزوا الخط الأحمر وصاروا يعانون من العلاقات الغامضة التي تربط الشارع بآخره ..
لقد بدأ خزين العاطفة يتضاءل مع وجود ذلك الخطأ التقني الذي كاد يورط البلاد في الظلال العاطفية من أجل أن ترقص الحجارة ، وترقص معها الجغرافيا ، وكاد أن يكون المأزق أكثر من أن يستوعبه التاريخ .. وقد صدق " لويس أراغون " حين قال : " لو باع العرب حزنهم لاشتروا العالم بالذهب " وما أكثر أيام الحزن وأيام الموت في الوطن العربي .
إننا لا نؤمن بالصدف ، فكل شيء في الكون بمقدار ، وإننا – بالتالي- مدركون لحجم الخسارة التي نحن مقبلون عليها إن لم نتدارك الخطأ في " لا أريكم إلا ما أرى " ..ومن اللا وعي الإعتقاد بان الظروف المصطنعة إن بالإكراه ، أو بالضجيج الإعلامي يمكن أن تِؤدي إلى بناء مؤسساتي جديد قائم على أضلع الواقع وقوانين اللعبة الديمقراطية .. ذلك أن العالم الآن لم يعد يؤمن بالحدود الجغرافية للدول ، وأن ما اصطلح عليه بحدود السيادة أصبح لاغيا إذا لم تكن الدولة – اي دولة- المقصودة بهذا الإلغاء تؤمن فعلا بالإرادة الشعبية في التغيير وفي صنع القرار السياسي ، المسالة الآن ليس في الخطب السياسية ، ولكن في الاعتداد الشعبي بمصيره ومصير دولته ، وهذا ما نحتاج إله اليوم ، ونحتاج بقوة إلى ما يجرنا إليه ولو بالإكراه .
ليست هناك تعليقات