منذ استيقاظي شعرت بأنفاس هذا اليوم تحمل ريحا مغايرة.
مشيت كثيرا، ليس بهدف اللياقة وإنما ترويحا عن النفس واستغراقا في التأمل، وبكل مشقة جهدت كي أنهي العشرين صفحة المتبقية من كتاب حب الحياة لـ إريك فروم، من السخرية أن أنهيه في هذا اليوم المتخم إحباطا وخذلانا.
كان جارنا السي الحسين رجلا حكيما سخيا، يمتلك دكانا من تلك الدكاكين التي نسيها الزمن، يعلم ذلك يقينا، لكنه وكأنما يحتال لاستدراج فئة مختارة من الناس لا يسعد إلا بصحبتهم، يوما عن يوم كان الرفاق يتساقطون من طابور الدكان، يمزق ورقة من أوراق التقويم الشهري ويحدثني: إيه يا صلاح، هو عمر واحد لكن البعض يحياه أزمان، لا أدري هل أتمنى لك مثل هذي الأمنية أم أخا للجهالة أرجو أن تكون.
أجيبه فرحا بالتقاطي لإشارته: لم يكن ليرضاها لي أخونا المتنبي، بل أزمانا تقطر حكمة يا عم الحسين.
قبل وفاته بسنة ساءت أحواله المادية جدا، مررت به ذات يوم وهو يدخن، وطلبت أن يناولني علبة سجائره كي أتناول منها واحدة، سحبت سيجارة، وبخفة وضعت النقود التي طويتها جيدا مكانها ثم أعدت له العلبة، وفي المرة الثانية التي طلبت منه علبة سجائره فتحها وناولني سيجارتين هامسا: دعني أفارق هذه الحياة وأنا أعرفني، أطعته تماما، وظللت ملتزما بوعدي رغم ما كان يتناهى لي من تدهور أوضاعه، وبعد قرابة ستة أشهر مررت به غير قاصد إلا مؤانسته والتخفيف عنه، طلبت سيجارة، فناولني العلبة.
تذكرته اليوم حين وصلت إلى الصفحة التي تحدث فيها فروم عن الشاعر البلجيكي إيميل فيرهيرين ذي النزعة الإنسانية، والذي كان حتى قبل سنة 1914 من دعاة السلام، لكنه تحول تحت ضغط الحرب إلى النزعة القومية، وقبيل وفاته كتب في كتاب إهداء لنفسه قال فيه: "إن الذي كتب هذا الكتاب، والذي لا يخفي حقده، كان فيما مضى سلميا، لم تكن هناك بالنسبة له أية خيبة أمل أكبر ولا أبغض، وقد ضربته هذه الخيبة بعنف، لم يعد فيه ذاك الشخص الذي كان من قبل، ويظهر له أن وضع الحقد هذا الذي يوجد فيه قد صغّر وعيه، يهدي هذه الصفحات إلى ذلك الإنسان الذي كان".
أوااه يا فروم ! أي حب للحياة هذا الذي تحدثنا عنه، نحن الذين ماعدنا نعرفنا، نحن الذين باعدت الخيبات بيننا وبين أسفارنا حتى تهنا، نتحسس وجوهنا التي صفعتها الريح، فندرك أننا في الشتات، يقضمنا البرد والذكريات.
لا أظنني سأقرأ اليوم، ولا غدا، و لا ربما حتى بعد غد، دلوني على أفلام تلائم مزاجي الهائم الحائر، والأهم روابط لمواقع جيدة أشاهد منها هذه الأفلام.
|
ليست هناك تعليقات